فصول : الكلام عن القافة وكيفية الإلحاق وفروع في اللقيط .
فصل : والقافة قوم يعرفون الأنساب بالشبه ولا يختص ذلك بقبيلة معينة بل من عرف منه المعرفة بذلك وتكررت منه الإصابة فهو قائف وقيل أكثر ما يكون في بني مدلج رهط محرز المدلجي الذي رأى أسامة وأباه زيدا قد غطيا رؤوسهما وبدت أقادمهما فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض وكان إياس بن معاوية المزني قائفا وكذلك قيل في شريح ولا يقبل قول القائف إلا أن يكون ذكرا عدلا مجربا في الإصابة حرا لأن قوله حكم والحكم تعتبر له هذه الشروط قال القاضي : وتعتبر معرفة القائف بالتجربة وهو أن يترك الصبي مع عشرة من الرجال غير من يدعيه ويرى إياهم فإن أحلقه بواحد منهم سقط قوله لأنا نتبين خطأه وإن لم يلحقه بواحد منهم أريناه إياه مع عشرين فيهم مدعيه فإن ألحقه به لحق ولو اعتبر بأن يرى صبيا معروف النسب مع قوم فيهم أبوه أو أخوه فإذا ألحقه بقريبه علمت إصابته وإن ألحقه بغيره سقط قوله جاز وهذه التجربة عند عرضه على القائف للاحتياط في معرفة إصابته وإن لم نجربه في الحال بعد أن يكون مشهورا بالإصابة وصحة المعرفة في مرات كثيرة جاز .
وقد روينا أن رجلا شريفا شك في ولد له من جاريته وأبى أن يستلحقه فمر به إياس بن معاوية في المكتب وهو لا يعرفه فقال : ادع لي أباك فقال له المعلم : ومن أبو هذا ؟ قال فلان قال من أين علمت أنه أبوه ؟ قال : هو أشبه به من الغراب بالغراب فقام المعلم مسرورا إلى أبيه فأعلمه بقول إياس فخرج الرجل وسأل إياسا فقال من أين علمت أن هذا ولدي ؟ فقال : سبحان الله وهل يخفى على أحد أنه أشبه بك من الغراب بالغراب ؟ فسر الرجل واستلحق ولده وهل يقبل قول واحد أو لا يقبل إلا قول اثنين ؟ فظاهر كلام أحمد أنه لا يقبل إلا قول اثنين فإن الأثرم روى عنه أنه قيل له إذا قال أحد القافة هو لهذا وقال الآخر : هو لهذا قال لا يقبل قول واحد حتى يجتمع اثنان فيكونان شاهدين فإذا شهد اثنان من القافة أنه لهذا فهو لهذا لأنه قول يثبت به النسب فأشبه الشهادة وقال القاضي : يقبل قول الواحد لأنه حكم ويقبل في الحكم قول واحد وحمل كلام أحمد على ما إذا تعارض قول القائفين فقال : إذا خالف القائف غيره تعارضا وسقطا فإن قال اثنان قولا وخالفهما واحد فقولهما أولى لأنهما شاهدان فقولهما أقوى من قول واحد وإن عارض قول اثنين قول اثنين سقط قول الجميع وإن عارض قول الاثنين ثلاثة أو أكثر لم يرجح وسقط الجميع كما لو كانت إحدى البينتين اثنين والأخرى ثلاثة فأكثر فأما إن ألحقته القافة بواحد ثم جاءت قافة أخرى فألحقته بآخر كان لاحقا بالأول لأن القائف جرى مجرى حكم الحاكم ومتى حكم الحاكم حكما لم ينتقض بمخالفة غيره له وكذلك إن ألحقته بواحد ثم عادت فألحقته بغيره لذلك فإن أقام الآخر بينة أنه ولده حكم له به وسقط قول القائف لأنه بدل فيسقط وجود الأصل كالتيمم مع الماء .
فصل : وإن ألحقته القافة بكافر أو رقيق لم يحكم بكفره ولا رقه لأن الحرية والإسلام ثبتا له بظاهر الدار فلا يزول ذلك بمجرد الشبه والظن كما لم يزل ذلك بمجرد الدعوى من المنفرد وإنما قبلنا قول القائف في النسب للحاجة إلى إثباته ولكونه غير مخالف للظاهر ولهذا اكتفينا فيه بمجرد الدعوى من المنفرد ولا حاجة إلى إثبات رقه وكفره وإثباتهما يخالف الظاهر .
ولو ادعى نسب اللقيط إنسان فالحق نسبه به لانفراده بالدعوى ثم جاء آخر فادعاه لم يزل نسبه عن الأول لأنه حكم له به فلا يزول بمجرد الدعوى فإن ألحقته به القافة لحق به وانقطع عن الأول لأنها بينة في إلحاق النسب ويزول بها الحكم الثابت بمجرد الدعوى كالشهادة .
فصل : وإذا ادعاه اثنان فألحقته القافة بهما لحق بهما وكان ابنهما يرثهما ميراث ابن ويرثانه جميعا ميراث أب واحد وهذا يروى عن عمر وعلي Bهما وهو قول أبي ثور وقال أصحاب الرأي : يلحق بهما بمجرد الدعوى وقال الشافعي : لا يلحق بأكثر من واحد فإذا ألحقته بهما سقط قولهما ولم يحكم لهما واحتج برواية عن عمر Bه أن القافة قالت قد اشتركا فيه فقال عمر : وآل أيهما شئت ولأنه لا يتصور كونه من رجلين فإذا ألحقته القافة بهما تبينا كذبهما فسقط قولهما كما لو ألحقته بأمين ولأن المدعيين لو اتفقا على ذلك لم يثبت ولو ادعاه كل واحد منهما وأقام بينة سقطتا ولو جاز أن يلحق بهما لثبت باتفاقهما وألحق بهما عند تعارض بينتهما .
ولنا ما روى سعيد في سننه ثنا سفيان عن يحيى عن سعيد عن سليمان بن يسار [ عن عمر في امرأة وطئها رجلان في طهر فقال القائف : قد اشتركا فيه جميعا فجعله بينهما ] وبإسناده عن الشعبي قال وعلي يقول : هو ابنهما وهما أبواه يرثهما ويرثانه ورواه الزبير بن بكار بإسناده عن عمر وقال الإمام أحمد : حديث قتادة عن سعيد عن عمر جعله بينهما وقابوس عن أبيه عن علي جعله بينهما وروى الأثرم بإسناده عن سعيد بن المسيب في رجلين اشتركا في طهر امرأة فحملت فولدت غلاما يشبههما فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب Bه فدعا القافة فنظروا فقالوا نراه يشبههما فألحقه بهما وجعله يرثهما ويرثانه قال سعيد : عصبته الباقي منهما وما ذكروه عن عمر لا نعلم صحته وإن صح فيحتمل أنه ترك قول القافة لأمر آخر إما لعدم ثقتهما وإما لأنه ظهر له من قولهما واختلافه ما يوجب تركه فلا ينحصر المانع من قبول قولهما في أنهما اشتركا فيه قال أحمد إذا ألحقته القافة بهما ورثهما وورثاه فإن مات أحدهما فهو للباقي منهما ونسبه من الأول قائم لا يزيله شيء ومعنى قوله هو للباقي منهما والله أعلم أنه يرثه ميراث أب كامل كما أن الجدة إذا انفردت أخذت ما يأخذه الجدات والزوجة تأخذ وحدها ما يأخذه جميع الزوجات .
فصل : وإن ادعاه أكثر من اثنين فألحقته بهم القافة فنص أحمد في رواية مهنا أنه يلحق بثلاثة ومقتضى هذا أنه يلحق بمن ألحقته القافة وإن كثروا قال أبو عبد الله بن حامد لا يلحق بأكثر من اثنين وهو قول أبي يوسف لأنا صرنا إلى ذلك للأثر فيقتصر عليه وقال القاضي : لا يلحق بأكثر من ثلاثة وهو قول محمد بن الحسن وروي ذلك عن أبي يوسف أيضا .
ولنا أن المعنى الذي لأجله لحق باثنين موجود فيما زاد عليه فيقاس عليه وإذا جاز أن يلحق من اثنين جاز أن يلحق من أكثر من ذلك وقولهم أن إلحاقه بالاثنين على خلاف الأصل ممنوع وإن سلمناه لكنه ثبت لمعنى موجود في غيره فيجب تعدية الحكم به كما أن إباحة أكل الميتة عند المخمصة أبيح على خلاف الأصل لا يمنع من أن يقاس على ذلك مال غيره والصيد الحرمي وغيرهما من المحرمات لوجود المعنى وهو إبقاء النفس وتخليصها من الهلاك وأما قول من قال إنه يجوز إلحاقه بثلاثة ولا يزاد على ذلك فتحكم فإنه لم يقتصر على المنصوص عليه ولا عدى الحكم إلى كل ما وجد فيه المعنى ولا نعلم في الثلاثة معنى خاصا يقتضي إلحاق النسب بهم فلم يجز الاقتصار عليه بالتحكم .
فصل : وإذا لم توجد قافة أو أشكل الأمر عليها أو تعارضت أقوالها أو وجد من لا يوثق بقوله لم يرجح أحدهما بذكر علامة في جسده لأن ذلك لا يرجح به في سائر الدعاوي سوى الالتقاط في المال واللقيط ويضيع نسبه هذا قول أبي بكر وقد أومأ إليه أحمد C في رجلين وقعا على امرأة في طهر واحد إلى أن الابن يخير أيهما أحب وهو قول أبي عبد الله بن حامد قال يترك حتى يبلغ فينتسب إلى من أحب منهما وهو قول الشافعي الجديد وقال في القديم : حتى يميز لقول عمر : وال أيهما شئت ولأن الإنسان يميل طبعه إلى قريبه دون غيره ولأنه مجهول نسبه أقر به من هو من أهل الإقرار وصدقه المقر له فيثبت نسبه كما لو انفرد وقال أصحاب الرأي يلحق بالمدعيين بمجرد الدعوى لأن كل واحد منهما لو انفرد سمعت دعواه فإذا اجتمعا وأمكن العمل بهما وجب كما لو أقر له بمال .
ولنا أن دعواهما تعارضتا ولا حجة لواحد منهما فلم تثبت كما لو ادعيا رقه وقولهم يميل طبعه إلى قرابته قلنا إنما يميل إلى قرابته بعد معرفته بأنها قرابته فالمعرفة بذلك سبب الميل ولا سبب قبله ولو ثبت أنه يميل إلى قرابته لكنه قد يميل إلى من أحسن إليه فإن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها وقد يميل إلى أحسنهما خلقا أو أعظمهما قدرا أو جاها أو مالا فلا يبقى للميل أثر في الدلالة على النسب وقولهم أنه صدق المقر بنسبه قلنا لا يحل له تصديقه فإن النبي A لعن من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه وهذا لا يعلم أنه أبوه فلا يأمن أن يكون ملعونا بتصديقه ويفارق ما إذا انفرد فإن المنفرد ثبت النسب بقوله من غير تصديق وأما قول عمر وال من شئت فلم يثبت ولو ثبت لم يكن فيه حجة فإنه إنما أمره بالموالاة لا بالانتساب وعلى قول من جعل له الانتساب إلى أحدهما لو انتسب إلى أحدهما ثم عاد وانتسب إلى الآخر ونفى نسبه من الأول أو لم ينتسب إلى واحد لم يقبل منه لأنه قد ثبت نسبه فلا يقبل رجوعه عنه كما لو ادعى منفرد نسبه ثم أنكره ويفارق الصبي الذي يخير بين أبويه فيختار أحدهما ثم يرد الآخر إذا اختاره فإنه لا حكم لقول الصبي وإنما تبع اختياره وشهوته فأشبه ما لو اشتهى طعاما في يوم ثم اشتهى غيره في يوم آخر وإن قامت للآخر بنسبه بينة عمل بها وبطل انتسابه لأنها تبطل قول القافة الذي هو مقدم على الانتساب فلأن تبطل الانتساب أولى وإن وجدت قافة بعد انتسابه فألحقته بغير من انتسب إليه بطل انتسابه أيضا لأنه أقوى فبطل به الانتساب كالبينة مع قول القافة .
فصل : وإن ادعت امرأتان نسب ولد فذلك مبني على قبول دعوتهما فإن كانتا ممن لا تقبل دعوتهما لم تسمع دعوتهما وإن كانت إحداهما ممن تسمع دعوتهما دون الأخرى فهو ابن لها كالمنفردة به وإن كانتا جميعا ممن تسمع دعوتهما فهما في إثباته بالبينة أو كونه يرى القافة مع عدمها كالرجلين : قال أحمد في رواية بكر بن محمد في يهودية ومسلمة ولدتا فادعت اليهودية ولد المسلم فتوقف فقيل يرى القافة فقال ما أحسنه ولأن الشبه يوجد بينها وبين ابنها كوجوده بين الرجل وابنه بل أكثر لاختصاصهما بحمله وتغذيته والكافرة والمسلمة والحرة والأمة في الدعوى واحدة كما قلنا في الرجل وهذا قول أصحاب الشافعي على الوجه الذي يقولون فيه بقبول دعوتهما وإن ألحقته القافة بأمين لم يلحق بهما وبطل قول القافة لأننا نعلم خطأه يقينا وقال أصحاب الرأي يلحق بهما بمجرد الدعوى لأن الأم أحد الأبوين فجاز أن يلحق باثنين كالآباء .
ولنا أن كونه منهما محال يقينا فلم يجز الحكم به كما لو كان أكبر منهما أو مثلهما وفارق الرجلين فإن كونه منهما ممكن فإنه يجوز اجتماع النطفتين لرجلين في رحم امرأة فيمكن أن يخلق منهما ولد كما يخلق من نطفة الرجل والمرأة ولذلك قال القائف لعمر قد اشتركا فيه ولا يلزم من إلحاقه بمن يتصور كونه منه إلحاقه بمن يستحيل كونه منه كما لم يلزم من إلحاقه بمن يولد مثله لمثله إلحاقه بأصغر منه .
فصل : فإن ادعى نسبه رجل وامرأة فلا تنافي بينهما لأنه يمكن أن يكون منهما بنكاح كان بينهما أو وطء شبهة فيلحق بهما جميعا ويكون ابنهما بمجرد دعوتهما كما لو انفرد كل واحد منهما بالدعوة وإن قال الرجل هذا ابني من زوجتي وادعت زوجته ذلك وادعته امرأة أخرى فهو ابن الرجل وهل ترجح زوجته على الأخرى ؟ يحتمل وجهين أحدهما : ترجح لأن زوجها أبوه فالظاهر أنها أمه ويحتمل أن تتساويا لأن كل واحدة منهما لو انفردت لألحق بها فإذا اجتمعتا تساوتا .
فصل : وإن ولدت امرأتان ابنا وبنتا فادعت كل واحدة منهما أن الابن ولدها دون البنت احتمل وجهين أحدهما أن ترى المرأتين القافة مع الولدين فيلحق كل واحد منهما بمن ألحقته به كما لو لم يكن لهما ولد آخر والثاني : أن نعرض لبنيهما على أهل الطب والمعرفة فإن لبن الذكر يخالف لبن الأنثى في طبعه وزنته وقد قيل لبن الابن ثقيل ولبن البنت خفيف فيعتبران بطباعهما ووزنهما وما يختلفان به عند أهل المعرفة فمن كان لبنها لبن الابن فهو ولدها والبنت للأخرى فإن لم يوجد قافة اعتبرنا اللبن خاصة وإن تنازعا أحد الولدين وهما جميعا ذكران أو انثيان عرضوا على القافة كما ذكرنا فيما تقدم .
فصل : ولو ادعى اللقيط رجلان فقال أحدهما هو ابني وقال الآخر هو ابنتي نظرنا فإن كان ابنا فهو لمدعيه وإن كانت بنتا فهي لمدعيها لأن كل واحد منهما لا يستحق غير ما ادعاه وإن كان خنثى مشكلا أري القافة معهما لأنه ليس قول واحد منهما أولى من الآخر وإن أقام كل واحد منهما بينة بما ادعاه فالحكم فيهما كالحكم فيما لو انفرد كل واحد منهما بالدعوى لأن بينة الكاذب منهما كاذبة وجودها كعدمها والأخرى صادقة فيتعين الحكم بها .
فصل : وإذا وطئ رجلان امرأة في طهر واحد وطأ يلحق النسب بمثله فأتت بولد يمكن أن يكون منهما مثل أن يطأ جارية مشتركة بينهما في طهر أو يطأ رجل امرأة آخر أو أمته بشبهة في الطهر الذي وطئها زوجها أو سيدها فيه بأن يجدها على فراشه فيظنها زوجته أو أمته أو يدعو زوجته في ظلمة فتجيبه زوجة آخر أو جاريته أو يتزوجها كل واحد منهما تزويجا فاسدا أو يكون نكاح أحدهما صحيحا والآخر فاسدا مثل أن يطلق رجل امرأته فنكحها آخر في عدتها ووطئها أو يبيع جارية فيطؤها المشتري قبل استبرائها وتأتي بولد يمكن أن يكون منهما فإنه يرى القافة معهما فبأيهما ألحقوه لحق والخلاف فيه كالخلاف في اللقيط .
فصل : وإذا ادعى رق اللقيط مدع سمعت دعواه لأنها ممكنة وإن كانت مخالفة لظاهر الدار فإن لم تكن له بينة فلا شيء له لأنها دعوى تخالف الظاهر وتخالف دعوى النسب من وجهين أحدهما : أن دعوى النسب لا تخالف الظاهر ودعوى الرق مخالفة له والثاني : أن دعوى النسب نثبت بها حقا للقيط ودعوى الرق نثبت حقا عليه فلم تقبل بمجردها كما لو ادعى رق غير اللقيط فإذا لم تكن له بينة سقطت الدعوى وإن كانت له بينة لم تخل إما أن تشهد باليد أو بالملك أو بالولادة فإن شهدت بالملك أو باليد لم تقبل فيه إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين وإن شهدت بالولادة قبل فيه امرأة واحدة أو رجل واحد لأنه مما لا يطلع عليه الرجال ثم ننظر فإن شهدت البينة باليد فإن كانت للملتقط لم يثبت بها ملك لأننا عرفنا سبب يده فإن كانت لأجنبي حكم له باليد والقول قوله مع يمينه في الملك وإن شهدت بالملك فقالت نشهد أنه عبده أو مملوكه حكم بها وإن لم تذكر سبب الملك كما لو شهدت بملك دار أو ثوب فإن شهدت بأن أمته ولدته في ملكه حكم له به لأن أمته لا تلد في ملكه إلا ملكه وإن شهدت أنه ابن أمته أو إن أمته ولدته ولم تقل في ملكه احتمل أن يثبت له الملك بذلك كقولها في ملكه لأن أمته ملكه فنماؤها ملكه كسمنها واحتمل أن لا يثبت الملك لأنه يجوز أن تلده قبل ملكه لها فلا تكون له وهو ابن أمته .
فصل : وإن ادعى رق اللقيط بعد بلوغه مدع كلف إجابته فإن أنكر ولا بينة للمدعي لم تقبل دعواه وإن كانت له بينة حكم له بها فإن كان اللقيط قد تصرف قبل ذلك ببيع أو شراء نقضت تصرفاته لأنه بان أنه تصرف بغير إذن سيده وإن لم تكن بينة فأقر بالرق نظرنا فإن كان اعترف لنفسه بالحرية قبل ذلك لم يقبل إقراره بالرق لأنه اعترف بالحرية وهي حق لله تعالى فلا يقبل رجوعه في إبطاله وإن لم يكن اعترف بالحرية احتمل وجهين أحدهما : يقبل وهو قول أصحاب الرأي لأنه مجهول الحال أقر بالرق فيقبل كما لو قدم رجلان من دار الحرب فأقر أحدهما للآخر بالرق كما لو أقر بقصاص أو حد فإنه يقبل وإن تضمن ذلك فوات نفسه ويحتمل أن لا يقبل وهو الصحيح لأنه يبطل به حق الله تعالى في الحرية المحكوم بها فلم يصح كما لو أقر قبل ذلك بالحرية ولأنه محكوم بحريته فلم يقبل إقراره بالرق كما ذكرنا ولأن الطفل المنبوذ لا يعلم رق نفسه ولا حريتها ولم يتجدد له حال يعرف به رق نفسه لأنه في تلك الحال ممن لا يعقل ولم يتجدد له رق بعد التقاطه فكان إقراره باطلا وهذا قول القاسم و ابن المنذر و للشافعي وجهان كما ذكرنا فإن قلنا يقبل إقراره صارت أحكامه أحكام العبيد فيا عليه دون ماله وبهذا قال أبو حنيفة و المزني وهو أحد قولي الشافعي لأنه أقر بما يوجب حقا له وحقا عليه فوجب أن يثبت ما عليه دون ما له كما لو قال لفلان علي ألف درهم ولي عنده رهن ويحتمل أن يقبل إقراره في الجميع وهو القول الثاني للشافعي لأنه ثبت ما عليه فيثبت ما له كالبينة ولأن هذه الأحكام تبع للرق فإذا ثبت الأصل بقوله ثبت التبع كما لو شهدت امرأة بالولادة تثبت ويثبت النسب تبعا لها وأما إن أقر بالرق ابتداء لرجل فصدقه فهو كما لو أقر به جوابا وإن كذبه بطل إقراره ثم إن أقر به بعد ذلك لرجل آخر جاز وقال بعض أصحابنا يتوجه أن لا يسمع إقراره الثاني لأن إقراره الأول تضمن الاعتراف بنفي مالك له سوى هذا المقر فإذا بطل إقراره برد المقر له بقي الاعتراف بنفي مالك له غيره فلم يقبل إقراره بما نفاه كما لو أقر بالحرية ثم أقر بعد ذلك بالرق .
ولنا أنه إقرار لم يقبله المقر له فلم يمنع إقراره ثانيا كما لو أقر له بثوب ثم أقر به لآخر بعد رد الأول وفارق الإقرار بالحرية فإن إقراره بها لم يبطل ولم يرد .
فصل : إذا قبلنا إقراره بالرق بعد نكاحه لم يخل من أن يكون ذكرا أو أنثى فإن كان ذكرا فإن كان قبل الدخول فسد نكاحه في حقه لأنه مقر أنه عبد تزوج بغير إذن سيده ولها عليه نصف المهر لأنه حق عليه فلم يسقط بقوله وإن كان بعد الدخول فسد نكاحه أيضا ولها عليه المهر جميعه لما ذكرنا لأن الزوج يملك الطلاق فإذا أقر بما يوجب الفرقة لزمته وولده حر تابع لأمه وإن كان متزوجا بأمة فولده لسيدها ويتعلق المهر برقبته لأن ذلك من جناياته ويفديه سيده أو يسلمه وإن كان في يده كسب استوفى المهر منه لأنه لم يثبت إقراره به لسيده بالنسبة إلى امرأته فلا ينقطع حقها منه بإقراره وإن قلنا يقبل قوله في جميع الأحكام فالنكاح فاسد لكونه تزوج بغير إذن سيده ويفرق بينهما ولا مهر لها عليه إن لم تكن مدخولا بها وإن كان دخل بها فلها عليه المهر المسمى جميعه في إحدى الروايتين والأخرى خمساه وإن كان اللقيط أنثى فالنكاح صحيح في حقه وإن كان قبل الدخول فلا مهر لها لإقرارها بفساد نكاحها وأنها أمة تزوجت بغير إذن سيدها والنكاح الفاسد لا يجب المهر فيه إلا بالدخول وإن كان دخل بها لم يسقط مهرها ولسيدها الأقل من المسمى أو مهر المثل لأن المسمى إن كان أقل فالزوج ينكر وجوب الزيادة عليه وقولها غير مقبول في حقه وإن كان الأقل مهر المثل فهي وسيدها يقران بفساد النكاح وأن الواجب مهر المثل فلا يجب أكثر منه إلا على الرواية التي يجب فيها المسمى في النكاح الفاسد فيجب ههنا المسمى قل أو كثر لاعتراف الزوج بوجوبه وأما الأولاد فأحرار ولا تجب قيمتهم لأنه لو وجب لوجب بقولها ولا يجب بقولها حق على غيرها ولا يثبت الرق في حق أولادها بإقرارها فأما بقاء النكاح فيقال للزوج قد ثبت أنها أمة ولدها رقيق لسيدها فإن اخترت المقام على ذلك فأقم وإن شئت ففارقها وسواء كان ممن يجوز له نكاح الإماء أو لم يكن لأننا لو اعتبرنا ذلك وأفسدنا نكاحه لكان إفسادا للعقد جميعه بقولها لأن شروط نكاح الأمة لا تعتبر في استدامة العقد إنما تعتبر في ابتدائه فإن قيل فقد قبلتم قولها في أنها أمة في المستقبل وفيه ضرر على الزوج قلنا لم يقبل قولها في إيجاب حق لم يدخل في العقد عليه فأما الحكم في المستقبل فيمكن إيفاء حقه وحق من ثبت له الرق عليها بأن يطلقها فلا يلزمه ما لم يدخل عليه أو يقم على نكاحها فلا يسقط حق سيدها فإن طلقها اعتدت عدة الحرة لأن عدة الطلاق حق للزوج بدليل أنها لا تجب إلا بالدخول وسببها النكاح السابق فلا يقبل قولها في تنقيصها وإن مات اعتدت عدة الأمة لأن المغلب فيها حق الله تعالى بدليل وجوبها قبل الدخول فقبل قولها فيها ومن قال بقبول قولها في جميع الأحكام فهذه أمة قد تزوجت بغير إذن سيدها فنكاحها فاسد ويفرق بينهما وإن كان قبل الدخول فلا مهر لها وإن كان دخل بها وجب لها مهر أمة نكحت بغير إذن سيدها على ما ذكر في موضعه وهل ذلك مهر المثل أو المسمى ؟ فيه روايتان وتعتد حيضتين لأنه وطء في نكاح فاسد وأولاده أحرار لاعتقاده حريتها فإنه مغرور بحريتها وعليه قيمتهم يوم الوضع وإن مات عنها لم تجب عدة الوفاة .
فصل : وإن كان قد تصرف ببيع أو شراء فتصرفه صحيح وما عليه من الحقوق والأثمان يؤدى مما في يديه وما فضل عليه ففي ذمته لأن معامله لا يعترف برقه ومن قال بقبول إقراره في جميع الأحكام قال بفساد عقوده كلها وأوجب رد الأعيان إلى أربابها إن كانت باقية وإن كانت تالفة وجبت قيمتها في رقبته إن قلنا إنما استدان العبد بغير إذن سيده فهو في رقبته وإن قلنا بأن استدانة العبد في ذمته فهذا كذلك ويتبع به بعد العتق لأنه ثبت رضا صاحبه .
فصل : وإن كان قد جنى جناية موجبة للقصاص فعليه القود حرا كان المجني عليه أو عبدا لأن إقراره بالرق يقتضي وجوب القود عليه فيما إذا كان المجني عليه عبدا أو حرا فقبل إقراره فيه وإن كانت الجناية خطأ تعلق ارشها برقبته لأن ذلك مضر به فإن كان ارشها أكثر من قيمته وكان في يده مال استوفى منه وإن كان مما تحمله العاقلة لم يقبل قوله في إسقاط الزيادة لأن ذلك يضر بالمجني عليه فلا يقبل قوله فيه وقيل تجب الزيادة في بيت المال لأن ذلك كان واجبا للمجني عليه فلا يقبل قوله في إسقاطه وإن جني عليه جناية موجبة للقود وكان الجاني حرا سقط لأن الحر لا يقاد منه للعبد وقد أقر المجني عليه بما يسقط القصاص وإن كانت موجبة لمال يقل بالرق وجب أقل الأمرين وإن كان مساويا للواجب قبل الإقرار وجب ويدفع الواجب إلى سيده وإن كان الواجب يكثر لكون قيمته عبدا أكثر من ديته حرا لم يجب إلا ارش الجناية على الحر ومن قبل قوله في الأحكام كلها أوجب ارش الجناية على العبد وإن كان الارش تحمله العاقلة إذا كان حرا سقط عن العاقلة ولم يجب على الجانب لأن إقراره بالرق يتضمن إقراره بالسقوط عن العاقلة ولم يقبل في إيجابه على الجاني فسقط وقيل لا يتحول عن العاقلة ومن قال لا يقبل إقراره في الأحكام كلها أوجب الارش على الجاني