كتاب الهبة والعطية مسألة وفصلان : قال ولا تصح الهبة والصدقة فيما يكال أو يوزن إلا بقبضه .
مسألة : قال : ولا تصح الهبة والصدقة فيما يكال أو يوزن إلا بقبضه .
وجملة ذلك أن الهبة والصدقة والهدية والعطية معانيها متقاربة وكلها تمليك في الحياة بغير عوض واسم العطية شامل لجميعها وكذلك الهبة والصدقة والهدية متغايرة فإن [ النبي A كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ] وقال في اللحم الذي تصدق به على بريرة هو عليها صدقة ولنا هدية فالظاهر أن من أعطى شيئا يتقرب به إلى الله تعالى للمحتاج فهو صدقة ومن دفع إلى إنسان شيئا للتقرب إليه والمحبة له فهو هدية وجميع ذلك مندوب إليه ومحثوث إليه فإن النبي A قال [ تهادوا تحبوا ] وأما الصدقة فما ورد في فضلها أكثر من أن يمكننا حصره وقد قال الله تعالى { إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم } إذا ثبت هذا فإن المكيل والموزون لا تلزم فيه الصدقة والهبة إلا بالقبض وهو قول أكثر الفقهاء منهم النخعي و الثوري و الحسن بن صالح و أبو حنيفة و الشافعي وقال مالك و أبو ثور : يلزم ذلك بمجرد العقد لعموم قوله عليه السلام : [ العائد في هبته كالعائد في قيئه ] ولأنه إزالة ملك بغير عوض فلزم بمجرد العقد كالوقف والعتق وربما قالوا تبرع فلا يعتبر فيه القبض كالوصية والوقف ولأنه عقد لازم ينقل الملك فلم يقف لزومه على القبض كالبيع .
ولنا إجماع الصحابة Bهم فإن ما قلناه مروي عن أبي بكر وعمر Bهما ولم يعرف لهما في الصحابة مخالف فروى عروة عن عائشة Bها أن أبا بكر Bه نحلها جذاذ عشرين وسقا من ماله بالعالية فلما مرض قال يا بنية ما أحد أحب إلي غنى بعدي منك ولا أحد أعز علي فقرا منك وكنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا وددت أنك حزتيه أو قبضتيه وهو اليوم مال الوارث أخواك وأختك فاقتسموا على كتاب الله D .
وروى ابن عيينة عن الزهري عن عروة عند عبد الرحمن بن عبد القارئ أن عمر بن الخطاب قال : ما بال أقوام ينحلون أولادهم فإذا مات أحدهم قال مالي وفي يدي وإذا مات هو قال كنت نحلته ولدي ؟ لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد فإن مات ورثه وروى عثمان أن الوالد يحوز لولده إذا كانوا صغارا قال المروذي : اتفق أبو بكر وعمر وعثمان وعلي أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة ولأنها هبة غير مقبوضة فلم تلزم كما لو مات قبل أن يقبض فإن مالكا يقول : لا يلزم الورثة التسليم والخبر محمول على المقبوض ولا يصح القياس على الوقف والوصية والعتق لأن الوقف إخراج ملك إلى الله تعالى فخالف التمليكات والوصية تلزم في حق الوارث والعتق إسقاط حق وليس بتمليك ولأن الوقف والعتق لا يكون في محل النزاع في المكيل والموزون .
فصل : وقول الخرقي : لا يصح يحتمل أن يريد لا يلزم ويحتمل أن يريد لا يثبت بها الملك قبل القبض فإن الملك حكم الهبة والصحة اعتبار الشيء في حق حكمه وأما صحته بمعنى انعقاد اللفظ بحيث إذا انضم إليه القبض اعتبر ويثبت حكمه فلا يصح حمل لفظه على نفيه لعدم الخلاف فيه ولأنه قال في سياق المسألة كما يصح في البيع وقد تقرر في البيع أن بيع المكيل والموزون صحيح قبل القبض وإنما ينتفي الضمان وإطلاقه في التصرفات وقوله : ما يكال ويوزن ظاهره العموم في كل موزون ومكيل وخصه أصحابنا المتأخرون بما ليس بمتعين فيه كالقفيز من صبرة والرطل من زبرة وقد ذكرنا ذلك في البيع ورجحنا العموم .
فصل : والواهب بالخيار قبل القبض إن شاء أقبضها وأمضاها وإن شاء رجع فيها ومنعها ولا يصح قبضها إلا بإذنه فإن قبضها الموهوب له بغير إذنه لم تتم الهبة ولم يصح القبض وحكي عن أبي حنيفة أنه إذا قبضها في المجلس صح وإن لم يأذن له لأن الهبة قامت مقام الإذن في القبض لكونها دالة على رضاه بالتمليك الذي لم يتم إلا بالقبض .
ولنا أنه قبض الهبة بغير إذن الواهب فلم يصح كما بعد المجلس أو كما لو نهاه عن قبضها ولأن التسليم غير مستحق على الواهب فلا يصح التسليم إلا بإذنه كما لو أخذ المشتري المبيع من البائع قبل تسليم ثمنه ولا يصح جعل الهبة إذنا في القبض بدليل ما بعد المجلس ولو أذن الواهب في القبض ثم رجع عن الإذن أو رجع في الهبة صح رجوعه لأن ذلك ليس بقبض وإن رجع بعد القبض لم ينفع رجوعه لأن الهبة تمت .
فصل : وإن مات الواهب أو الموهوب له قبل القبض بطلت الهبة سواء كان قبل الإذن في القبض أو بعده ذكره القاضي في موت الواهب لأنه عقد جائز فبطل بموت أحد المتعاقدين كالوكالة والشركة وقال أحمد في رواية أبي طالب وأبي الحارث في رجل أهدى هدية فلم تصل إلى المهدى إليه حتى مات : فإنها تعود إلى صاحبها ما لم يقبضها وروى بإسناده عن أم كلثوم بنت سلمة قالت : [ لما تزوج رسول الله A أم سلمة قال لها : إني قد أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي مسك ولا أرى النجاشي إلا قد مات ولا أرى هديتي إلا مردودة علي فإن ردت فهي لك قالت فكان ما قال رسول الله A وردت عليه هديته فأعطى كل امرأة من نسائه أوقية من مسك وأعطى أم سلمة بقية المسك والحلة ] وإن مات صاحب الهدية قبل أن تصل إلى المهدى إليه رجعت إلى ورثة المهدي وليس للرسول حملها إلى المهدى إليه إلا أن يأذن له الوارث ولو رجع المهدي في هديته قبل وصولها إلى المهدى إليه صح رجوعه فيها والهبة كالهدية .
وقال أبو الخطاب : إذا مات الواهب قام وارثه مقامه في الإذن في القبض والفسخ وهذا يدل على أن الهبة لا تنفسخ بموته وهذا قول أكثر أصحاب الشافعي لأنه عقد مآله إلى اللزوم فلم ينفسخ بالموت كالبيع المشروط فيه الخيار وكذلك يخرج فيما إذا مات الموهوب له بعد قبوله وإن مات أحدهما قبل القبول أو ما يقوم مقامه بطلت وجها واحدا لأن العقد لم يتم فأشبه ما لو أوجب البيع فمات أحدهما قبل القبول من المشتري وإذا قلنا أن الهبة لا تبطل فمات أحدهما بعد الإذن في القبض بطل الإذن وجها واحدا لأن الميت إن كان هو الواهب فقد انتقل حقه في الرجوع في الهبة إلى وارثه فلم يلزم بغير إذنه وإن كان الموهوب له فلم يوجد الإذن لوارثه فلم يملك القبض بغير إذن .
فصل : وإن وهبه شيئا في يد المتهب كوديعة أو مغصوب فظاهر كلام أحمد أن الهبة تلزم من غير قبض ولا مضي مدة يتأتى القبض فيها فإنه قال في رواية ابن منصور : إذا وهب لامرأته شيئا ولم تقبضه فليس بينه وبينها خيار هي معه في البيت فظاهر هذا أنه لم يعتبر قبضا ولا مضي مدة يتأتى فيها لكونها معه في البيت فيدها على ما فيه وقال القاضي : لا بد من مضي مدة يتأتى فيها القبض وقد روي عن أحمد رواية أخرى أنه يفتقر إلى إذن في القبض وقد مضى تعليل ذلك وتفصيله في الرهن ومذهب الشافعي كمذهبنا في الاختلاف في اعتبار الإذن واعتبار مضي مدة يتأتى القبض فيها