مسألتان وفصول : وقف ما لا ينتفع به إلا بإتلافه وكل ما جاز بيعه جاز وقفه .
مسألة : قال : وما لا ينتفع به إلا بالإتلاف مثل الذهب والورق والمأكول والمشروب فوقفه غير جائز .
وجملته أن ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالدنانير والدراهم والمطعوم والمشروب والشمع وأشباهه لا يصح وقفه في قول عامة الفقهاء وأهل العلم إلا شيئا يحكى عن مالك و الأوزاعي في وقف الطعام أنه يجوز ولم يحكه أصحاب مالك وليس بصحيح لأن الوقف تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة وما لا ينتفع به إلا بالإتلاف لا يصح فيه ذلك وقيل في الدراهم والدنانير يصح وقفها على قول من أجاز إجارتها ولا يصح لأن تلك المنفعة ليست المقصود الذي خلقت له الأثمان ولهذا لا تضمن في الغصب فلم يجز الوقف له كوقف الشجر على نشر الثياب والغنم على دوس الطين والشمع ليتجمل به .
فصل : والمراد بالذهب والفضة ههنا الدراهم والدنانير وما ليس بحلي لأن ذلك هو الذي يتلف بالانتفاع به أما الحلي فيصح وقفه للبس والعارية لما روى نافع قال : ابتاعت حفصة حليا بعشرين ألفا فحبسته على نساء آل الخطاب فكانت لا تخرج زكاته رواه الخلال بإسناده ولأنه عين يمكن الانتفاع بها مع بقائها دائما فصح وقفها كالعقار ولأنه يصح تحبيس أصلها وتسبيل الثمرة فصح وقفها كالعقار وبهذا قال الشافعي وقد روي عن أحمد أنه لا يصح وقفها وأنكر الحديث عن حفصة في وقفه وذكره ابن أبي موسى إلا أن القاضي تأوله على أنه لا يصح الحديث فيه ووجه هذه الرواية أن التحلي ليس هو المقصود الأصلي من الأثمان فلم يصح وقفها عليه كما لو وقف الدنانير والدراهم والأول هو المذهب لما ذكرناه والتحلي من المقاصد المهمة والعادة جارية به وقد اعتبره الشرع في إسقاط الزكاة عن متخذه وجوز إجارته لذلك ويفارق الدراهم والدنانير فإن العادة لم تجر بالتحلي به ولا اعتبره الشرع في إسقاط زكاته ولا ضمان نفعه في الغصب بخلاف مسألتنا .
فصل : ولا يصح وقف الشمع لأنه يتلف بالانتفاع به فهو كالمأكول والمشروب ولا ما يسرع إليه الفساد من المشمومات والرياحين وأشباهها لأنها تتلف على قرب من الزمان فأشبهت المطعوم ولا وقف ما لا يجوز بيعه كأم الولد والمرهون والكلب والخنزير وسائر سباع البهائم التي لا تصلح للصيد وجوارح الطير التي لا يصاد بها لأنه نقل للملك فيها في الحياة فأشبه البيع ولأن الوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة وما لا منفعة فيه لا يحصل فيه تسبيل المنفعة والكلب أبيح الانتفاع به على خلاف الأصل للضرورة فلم يجز التوسع فيها والمرهون في وقفه إبطال حق المرتهن منه فلم يجز إبطاله ولا يصح الوقف فيما ليس بمعين كعبد في الذمة ودار وسلاح لأن الوقف إبطال لمعنى الملك فيه فلم يصح في عبد مطلق كالعتق .
فصل : قال أحمد فيمن وصى بفرس وسرج ولجام مفضض يوقف في سبيل الله فهو على ما وقف ووصى وإن بيع الفضة من السرج واللجام وجعل في وقف مثله فهو أحب إلي لأن الفضة لا ينتفع بها ولعله يشتري بتلك الفضة سرجا ولجاما فيكون أنفع للمسلمين فقيل له تباع الفضة وتجعل في نفقته ؟ قال لا فأباح أن يشتري بفضة السرج واللجام سرجا ولجاما لأنه صرف لهما في جنس ما كانت عليه حين لم ينتفع بهما فيه فأشبه الفرس الحبيس إذا عطب فلم ينتفع به في الجهاد جاز بيعه وصرف ثمنه في مثله ولم يجز إيقافها على الفرس لأنه صرف لها إلى غير جهتها .
مسألة : قال : ويصح الوقف فيما عدا ذلك .
وجملة ذلك أن الذي يجوز وقفه ما جاز بيعه وجاز الانتفاع به مع بقاء عينه وكان أصلا يبقى بقاء متصلا كالعقار والحيوانات والسلاح والأثاث وأشباه ذلك قال أحمد في رواية الأثرم : إنما الوقف في الدور والأرضين على ما وقف أصحاب رسول الله A وقال فيمن وقف خمس نخلات على مسجد لا بأس به وهذا قول الشافعي وقال أبو يوسف : لا يجوز وقف الحيوان ولا الرقيق ولا العروض إلا الكراع والسلاح والغلمان والبقر والآلة في الأرض الموقوفة تبعا لها لأن الحيوان لا يقاتل عليه فلم يجز وقفه كما لو كان الوقف إلى مدة وعن مالك في الكراع والسلاح روايتان .
ولنا أن النبي A قال [ أما خالد فقد احتبس ادراعه واعتاده في سبيل الله ] متفق عليه وفي رواية وأعتده أخرجه البخاري قال الخطابي الاعتاد ما يعده الرجل من المركوب والسلاح وآلة الجهاد وروي [ أن أم معقل جاءت إلى النبي A فقالت : يا رسول الله إن أبا معقل جعل ناضحه في سبيل الله وإني أريد الحج أفأركبه ؟ فقال رسول الله A : اركبيه فإن الحج والعمرة من سبيل الله ] ولأنه يحصل فيه تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة فصح وقفه كالعقار والفرس الحبيس ولأنه يصح وقفه مع غيره فصح وقفه وحده كالعقار .
فصل : قال أحمد C في رجل له دار في الربض أو قطيعة فأراد التنزه منها قال يقفها قال : القطائع ترجع إلى الأصل إذا جعلها للمساكين فظاهر هذا إباحة وقف السواد وهو في الأصل وقف ومعناه أن وقفها يطابق الأصل لا أنها تصير بهذا القول وقفا