مسألتان وفصول : إذا وقف وقفا وشرط أن يعود إليه أو من يحددهم شيئا من منافعه .
مسألة : قال : ولا يجوز أن يرجع إليه شيء من منافعه .
وجملة ذلك أن من وقف شيئا وقفا صحيحا فقد صارت منافعه جميعها للموقوف عليه وزال عن الواقف ملكه وملك منافعه فلم يجز أن ينتفع بشيء منها إلا أن يكون قد وقف شيئا للمسلمين فيدخل في جملتهم مثل أن يقف مسجدا فله أن يصلي فيه أو مقبرة فله الدفن فيها أو بئرا للمسلمين فله أن يستقي منها أو سقاية أو شيئا يعم المسلمين فيكون كأحدهم لا نعلم في هذا كله خلافا وقد روي عن عثمان بن عفان Bه أنه سبل بئر رومة وكان دلوه فيها كدلاء المسلمين .
مسألة : قال : إلا أن يشترط أن يأكل منه فيكون له مقدار ما يشترط .
وجملته أن الواقف إذا اشترط في الوقف أن ينفق منه على نفسه صح الوقف والشرط نص عليه أحمد قال الأثرم : قيل لأبي عبد الله : يشترط في الوقف أني أنفق على نفسي وأهلي منه قال : نعم واحتج قال سمعت ابن عيينة عن ابن طاوس عن أبيه عن حجر المدري أن في صدقة رسول الله A أن يأكل منها أهله بالمعروف غير المنكر وقال القاضي : يصح الوقف رواية واحدة لأن أحمد نص عليها في رواية جماعة وبذلك قال ابن أبي ليلى و ابن شبرمة و أبو يوسف و الزبير و ابن شريح وقال مالك و الشافعي و محمد بن الحسن : لا يصح الوقف لأنه إزالة الملك فلم يجز اشتراط نفعه لنفسه كالبيع والهبة وكما لو أعتق عبدا بشرط أن يخدمه ولأن ما ينفقه على نفسه مجهول فلم يصح اشتراطه كما لو باع شيئا واشترط أن ينتفع به .
ولنا الخبر الذي ذكره الإمام أحمد ولأن عمر Bه لما وقف قال : ولا بأس على من وليها أن يأكل منها أو يطعم صديقا غير متمول فيه وكان الوقف في يده إلى أن مات ولأنه إذا وقف وقفا عاما كالمساجد والسقايات والرباطات والمقابر كان له الانتفاع به فكذلك ههنا ولا فرق بين أن يشترط لنفسه الانتفاع به مدة حياته أو مدة معلومة معينة وسواء قدر ما يأكل منه أو أطلقه فإن عمر Bه لم يقدر ما يأكل الوالي ويطعم إلا بقوله : بالمعروف وفي حديث صدقة رسول الله A أنه شرط أن يأكل أهله منها بالمعروف غير المنكر إلا أنه إذا شرط أن ينتفع به مدة معينة فمات فيها فينبغي أن يكون ذلك لورثته كما لو باع دارا واشترط أن يسكنها سنة فمات في أثنائها والله أعلم .
فصل : وإن شرط أن يأكل أهله منه صح الوقف والشرط لأن النبي A شرط ذلك في صدقته وإن اشترط أن يأكل من وليه منه ويطعم صديقا جاز لأن عمر Bه شرط ذلك في صدقته التي استشار فيها رسول الله A فإن وليها الواقف كان له أن يأكل ويطعم صديقا لأن عمر ولي صدقته وإن وليها أحد من أهله كان له ذلك لأن حفصة بنت عمر كانت تلي صدقته بعد موته ثم وليها بعدها عبد الله بن عمر .
فصل : وإن شرط أن يبيعه متى شاء أو يهبه أو يرجع فيه لم يصح الشرط ولا الوقف لا نعلم فيه خلافا لأنه ينافي مقتضى الوقف ويحتمل أن يفسد الشرط ويصح الوقف بناء على الشروط الفاسدة في البيع وإن شرط الخيار في الوقف فسد ونص عليه أحمد وبه قال الشافعي وقال أبو يوسف في رواية عنه : يصح لأن الوقف تمليك المنافع فجاز شرط الخيار فيه كالإجارة .
ولنا أنه شرط ينافي مقتضى العقد فلم يصح كما لو شرط أن له بيعه متى شاء ولأنه إزالة ملك لله تعالى فلم يصح اشتراط الخيار فيه كالعتق ولأنه ليس بعقد معاوضة فلم يصح اشتراط الخيار فيه كالهبة ويفارق الإجارة فإنها عقد معاوضة وهي نوع من البيع ولأن الخيار إذا دخل في العقد منع ثبوت حكمه قبل انقضاء الخيار أو التصرف وههنا لو ثبت الخيار لثبت مع ثبوت حكم الوقف ولم يمنع التصرف فافترقا .
فصل : وإن شرط في الوقف أن يخرج من شاء من أهل الوقف ويدخل من شاء من غيرهم لم يصح لأنه شرط ينافي مقتضى الوقف فأفسده كما لو شرط أن لا ينتفع وإن شرط للناظر أن يعطي من يشاء من أهل الوقف ويحرم من يشاء جاز لأن ذلك ليس بإخراج للموقوف عليه من الوقف وإنما علق استحقاق الوقف بصفة فكأنه جعل له حقا في الوقف إذا اتصف بإرادة الوالي لعطيته ولم يجعل له حقا إذا انتفت تلك الصفة فيه فأشبه ما لو وقف على المشتغلين من ولده فإنه يستحق منهم من اشتغل به دون من لم يشتغل فلو ترك المشتغل الاشتغال زال الاستحقاق وإذا عاد إليه عاد استحقاقه والله أعلم .
فصل : إذا جعل علو داره مسجدا دون سفلها أو سفلها دون علوها صح وقال أبو حنيفة لا يصح لأن المسجد يتبعه هواؤه .
ولنا أنه يصح بيعها كذلك يصح وقفه كالدار جميعها ولأنه تصرف يزيل الملك إلى من يثبت له حق الاستقرار والتصرف فجاز فيما ذكرناكالبيع .
فصل : وإن جعل وسط داره مسجدا ولم يذكر الاستطراق صح وقال أبو حنيفة : لا يصح حتى يذكر الاستطراق .
ولنا أنه عقد يبيح الانتفاع من ضرورته الاستطراق فصح وإن لم يذكر الاستطراق كما لو أجر بيتا من داره .
فصل : إذا وقف على نفسه ثم على المساكين أو على ولده ففيه روايتان إحداهما : لا يصح فإنه قال في رواية أبي طالب وقد سئل عن هذا فقال : لا أعرف الوقف إلا ما أخرجه لله وفي سبيل الله فإذا وقفه عليه حتى يموت فلا أعرفه فعلى هذه الرواية يكون الوقف عليه باطلا وهل يبطل الوقف على من بعده ؟ على وجهين بناء على الوقف المنقطع الابتداء وهذا مذهب الشافعي لأن الوقف تمليك للرقبة والمنفعة ولا يجوز أن يملك الإنسان نفسه من نفسه كما لا يجوز أن يبيع نفسه مال نفسه ولأن الوقف على نفسه إنما حاصله منع نفسه التصرف في رقبة الملك فلم يصح ذلك كما لو أفرده بأن يقول : لا أبيع هذا ولا أهبه ولا أورثه ونقل جماعة أن الوقف صحيح اختاره ابن أبي موسى وقال ابن عقيل : وهي أصح وهو قول ابن أبي ليلى و ابن شبرمة و أبي يوسف و ابن شريح لما ذكرنا فيما إذا اشترط أن يرجع إليه شيء من منافعه ولأنه يصح أن يقف وقفا عاما فينتفع به كذلك إذا خص نفسه بانتفاعه والأول أقيس .
مسألة : قال : والباقي على من وقف عليه وأولاده الذكور والإناث من أولاد البنين بينهم بالسوية إلا أن يكون الواقف فضل بعضهم .
في هذه المسألة فصول أربعة .
الأول : أنه إذا وقف على قوم وأولادهم وعقبهم ونسلهم كان الوقف بين القوم وأولادهم ومن حدث من نسلهم على سبيل الاشتراك إن لم تقترن به قرينة تقتضي ترتيبا لأن الواو تقتضي الاشتراك فإذا اجتمعوا اشتركوا ولم يقدم بعضهم على بعض ويشارك الآخر الأول وإن كان من البطن العاشر وإذا حدث حمل لم يشارك حتى ينفصل لأنه يحتمل أن لا يكون حملا فلا يثبت له حكم الولد قبل انفصاله .
فصل : فإن قال : وقفت على أولادي ثم على المساكين أو قال : على ولدي ثم على المساكين أو على ولد فلان ثم على المساكين فقد روي عن أحمد ما يدل على أنه يكون وقفا على أولاده وأولاد أولاده من الأولاد البنين ما لم تكن قرينة تصرف عن ذلك قال المروذي : قلت لأبي عبد الله ما تقول في رجل وقف ضيعة على ولده فمات الأولاد وتركوا النسوة حوامل ؟ فقال : كل ما كان من أولاد الذكور بنات كن أو بنين فالضيعة موقوفة عليهم وما كان من أولاد البنات فليس لهم فيه شيء لأنهم من رجل آخر وقال أيضا فيمن وقف على ولد علي بن إسماعيل ولم يقل إن مات ولد علي بن إسماعيل دفع إلى ولد ولده فمات ولد علي بن إسماعيل دفع إلى ولده أيضا لأن هذا من ولد علي بن إسماعيل ووجه ذلك أن الله تعالى قال { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } فدخل فيه ولد البنين وإن سلفوا ولما قال : { ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد } فتناول ولد البنين وكذلك كل موضع ذكر الله تعالى الولد دخل فيه ولد البنين فالمطلق من كلام الآدمي إذا خلا عن قرينة ينبغي أن يحمل على المطلق من كلام الله تعالى ويفسر بما يفسر به ولأن ولد ولده ولد له بدليل قول الله تعالى : { يا بني آدم } و { يا بني إسرائيل } وقال النبي A : [ ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا ] وقال : نحن بنو النضر بن كنانة والقبائل كلها تنسب إلى جدودها ولأنه لو وقف على ولد فلان وهم قبيلة دخل فيه ولد البنين فكذلك إذا لم يكونوا قبيلة .
وقال القاضي وأصحابه : لا يدخل فيه ولد الولد بحال سواء في ذلك ولد البنين وولد البنات لأن الولد حقيقة وعرفا إنما هو ولده لصلبه وإنما يسمى ولد الولد ولدا مجازا ولهذا يصح نفيه فيقال : ما هذا ولدي إنما هو ولد ولدي وإن قال على ولدي لصلبي فهو آكد وإن قال على ولدي وولد ولدي ثم على المساكين دخل فيه البطن الأول والثاني ولم يدخل فيه البطن الثالث وإن قال على ولدي وولد ولدي وولد ولد ولدي دخل فيه ثلاث بطون دون من بعدهم وموضع الخلاف المطلق فأما مع وجود دلالة تصرف إلى أحد المحملين فإنه يصرف إليه بغير خلاف مثل أن يقول : على ولد فلان وهم قبيلة ليس فيهم ولد من صلبه فإنه يصرف إلى أولاد الأولاد بغير خلاف وكذلك إن قال : على أولادي أو ولدي وليس له ولد من صلبه أو قال : ويفضل ولد الأكبر أو الأعلم على غيرهم أو قال : فإذا خلت الأرض من عقبي عاد إلى المساكين أو قال : على ولدي غير ولد البنات أو غير ولد فلان أو قال : يفضل البطن الأعلى على الثاني أو قال الأعلى فالأعلى وأشباه ذلك فهذا يصرف لفظه إلى جميع نسله وعاقبته وإن اقترنت به قرينة تقتضي تخصيص أولاده لصلبه بالوقف مثل أن يقول : على ولدي لصلبي أو الذين يلونني ونحو هذا فإنه يختص بالبطن الأول دون غيرهم وإذا قلنا بالتعميم فيهم إما للقرينة وإما لقولنا بأن المطلق يقتضي التعميم ولم يكن في لفظه ما يقتضي تشريكا ولا ترتيبا احتمل أن يكون بينهم كلهم على التشريك لأنهم دخلوا في اللفظ دخولا واحدا فوجب أن يكون بينهم مشتركا كما لو أقر لهم بدين ويحتمل أن يكون على الترتيب على حسب الترتيب في الميراث وهذا ظاهر كلام أحمد لقوله فيمن وقف على ولد علي بن إسماعيل ولم يقل إن مات ولد علي بن إسماعيل دفع إلى ولد ولده فمات ولد علي بن إسماعيل وترك ولدا فقال : إن مات بعض ولد علي بن إسماعيل دفع إلى ولده أيضا لأن هذا من ولد علي بن إسماعيل فجعله لولد من مات من ولد علي بن إسماعيل عند موت أبيه وذلك أن ولد البنين لما دخلوا في قوله الله تعالى { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } لم يستحق ولد البنين شيئا مع وجود آبائهم واستحقوا عند فقدهم كذا ههنا فأما إن وصى لولد فلان وهم قبيلة فلا ترتيب فيه ويستحق الأعلى والأسفل على كل حال .
فصل : وإن رتب فقال : وقفت هذا على ولدي وولد ولدي ما تناسلوا وتعاقبوا الأعلى فالأعلى أو الأقرب فالأقرب أو الأول فالأول أو البطن الأول ثم البطن الثاني أو على أولادي ثم على أولاد أولادي أو على أولادي فإن انقرضوا فعلى أولاد أولادي فكل هذا على الترتيب فيكون على ما شرط ولا يستحق البطن الثاني شيئا حتى ينقرض البطن كله ولو بقي واحد من البطن الأول كان الجميع له لأن الوقف ثبت بقوله فيتبع فيه مقتضى كلامه وإن قال على أولادي وأولادهم ما تعاقبوا وتناسلوا على أنه من مات منهم عن ولد كان ما كان جاريا عليه جاريا على ولده كان ذلك دليلا على الترتيب لأنه لو اقتضى التشريك لاقتضى التسوية ولو جعلنا لولد الولد سهما مثل سهم أبيه ثم دفعنا إليه سهم أبيه صار له سهمان ولغيره سهم وهذا ينافي التسوية ولأنه يفضي إلى تفضيل ولد الابن على الابن والظاهر من إرادة الواقف خلاف هذا فإذا ثبت الترتيب فإنه يترتب بين كل والد وولده فإذا مات عن ولد انتقل إلى ولده سهمه سواء بقي من البطن الأول أحد أو لم يبق