مسألة وفصل : معنى إحياء الأرض وبأي شيء يكون الإحياء .
مسألة : قال : وإحياء الأرض أن يحوط عليها حائطا : .
ظاهر كلام الخرقي أن تحويط الأرض إحياء لها سواء أرادها للبناء أو للزرع أو حظيرة للغنم أو الخشب أو غير ذلك ونص عليه أحمد في رواية علي بن سعيد فقال : الإحياء أن يحوط عليها حائطا ويحفر فيها بئرا أو نهرا ولا يعتبر في ذلك تسقيف وذلك لما روى الحسن عن سمرة أن رسول الله A قال [ من أحاط حائطا على أرض فهي له ] رواه أبو داود والإمام أحمد في مسنده ويروى عن جابر عن النبي A مثله ولأن الحائط حاجز منيع فكان إحياء أشبه ما لو جعلها حظيرة للغنم ويبين هذا أن القصد لا اعتبار به بدليل ما لو أرادها حظيرة للغنم فبناها بجص وآجر وقسمها بيوتا فإنه يملكها وهذا لا يصنع للغنم مثله ولا بد أن يكون الحائط منيعا يمنع ما وراءه ويكون مما جرت العادة بمثله ويختلف باختلاف البلدان فلو كان مما جرت عادتهم بالحجارة وحدها كأهل حوران وفلسطين أو بالطين كالفطائر لأهل غوطة دمشق أو بالخشب أو بالقصب كأهل الغور كان ذلك إحياء وإن بناه بأرفع مما جرت به عادته كان أولى وقال القاضي في صفة الإحياء روايتان إحداهما ما ذكرنا والثانية : الإحياء ما تعارفه الناس إحياء لأن الشرع ورد بتعليق الملك على الإحياء ولم يبينه ولا ذكر كيفيته فيجب الرجوع فيه إلى ما كان إحياء في العرف كما أنه لما ورد باعتبار القبض والحرز ولم يبين كيفيته كان المرجع فيه إلى العرف ولأن الشارع لو علق الحكم على مسمى باسم لتعلق بمسماه عند أهل اللسان فكذلك يتعلق الحكم بالمسمى إحياء عند أهل العرف ولأن النبي A لا يعلق حكما على ما ليس إلى معرفته طريق فلما لم يبينه تعين العرف طريقا لمعرفته إذ ليس له طريق سواه إذا ثبت هذا فإن الأرض تحيى دارا للسكنى وحظيرة ومزرعة فإحياء كل واحدة من ذلك بتهيئتها للانتفاع الذي أريدت له فأما الدار فبأن يبني حيطانها بما جرت به العادة وتسقيفها لأنها لا تكون للسكنى إلا بذلك .
وأما الحظيرة فإحياءها بحائط جرت به عادة مثلها وليس من شرطها التسقيف لأن العادة ذلك من غير تسقيف وسواء أرادها حظيرة للماشية أو للخشب أو الحطب أو نحو ذلك ولو خندق عليها خندقا لم يكن إحياء لأنه ليس بحائط ولا عمارة إنما هو حفر وتخريب وإن حاطها بشوك وشبهه لم يكن إحياء وكان تحجرا لأن المسافر قد ينزل منزلا ويحوط على رحله بنحو من ذلك ولو نزل منزلا فنصب به بيت شعر أو خيمة لم يكن إحياء وإن أرادها للزراعة فبأن يهيئها لإمكان الزرع فيها فإن كانت لا تزرع إلا بالماء فبأن يسوق إليها ماء من نهر أو بئر وإن كانت مما لا يمكن زرعها لكثرة أحجارها كأرض الحجاز فبأن يقلع أحجارها وينقيها حتى تصلح للزرع وإن كانت غياضا وأشجارا كأرض الشعرى فبأن يقلع أشجارها ويزيل عروقها التي تمنع الزرع وإن كانت مما لا يمكن زرعه إلا بحبس الماء عنها كأرض البطائح التي يفسدها غرقها بالماء لكثرته فإحياؤها بسد الماء عنها وجعلها بحال يمكن زرعها لأن بذلك يمكن الانتفاع بها فيما أرادها من غير حاجة إلى تكرار ذلك في كل عام فكان إحياء كسوق الماء إلى الأرض التي لا ماء لها .
ولا يعتبر في إحياء الأرض حرثها ولا زرعها لأن ذلك مما يتكرر كلما أراد الانتفاع بها فلم يعتبر في الإحياء كسقيها وكالسكنى في البيوت ولا يحصل الإحياء بذلك إذا فعله لمجرده لما ذكرنا ولا يعتبر في إحياء الأرض للسكنى نصب الأبواب على البيوت وبهذا قال الشافعي فيما ذكرنا في الرواية الثانية إلا أن له وجها في أن حرثها وزرعها إحياء لها وأن ذلك معتبر في إحيائها ولا يتم بدونه وكذلك نصب الأبواب على البيوت لأنه مما جرت العادة به فأشبه التسقيف ولا يصح هذا لما ذكرنا ولأن السكنى ممكنة بدون نصب الأبواب فأشبه تطيين سطوحها وتبييضها .
مسألة : قال : أو يحفر فيها بئرا فيكون له خمس وعشرون ذراعا حواليها وإن سبق إلى بئر عادية فحريمها خمسون ذراعا : .
البئر العادية بتشديد الياء القديمة منسوبة إلى عاد ولم يرد عادا بعينها لكن لما كانت عاد في الزمن الأول وكانت لها آثار في الأرض نسب إليها كل قديم فكل من حفر بئرا في موات للتمليك فله حريمها خمس وعشرون ذراعا من كل جانب ومن سبق إلى بئر عادية كان أحق بها لقول النبي A [ من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له وله حريمها خمسون ذراعا من كل جانب ] نص أحمد على هذا في رواية حرب وعبد الله واختاره أكثر أصحابنا وقال القاضي و أبو الخطاب : ليس هذا على طريق التحديد بل حريمها على الحقيقة ما تحتاج إليه في ترقية مائها منها فإن كان بدولاب فقدر مد الثور أو غيره وإن كان بساقية فبقدر طول البئر لما روي عن النبي A أنه قال : [ حريم البئر مد رشائها ] أخرجه ابن ماجة ولأنه المكان الذي تمشي إليه البهيمة وإن كان يستقي منها بيده فبقدر ما يحتاج إليه الواقف عندها وإن كان المستخرج عينا فحريمها القدر الذي يحتاج إليه صاحبها للانتفاع بها ولا يستضر بأخذه منها ولو على ألف ذراع وحريم البئر من جانبيه ما يحتاج إليه لطرح كرايته بحكم العرف في ذلك لأن هذا إنما ثبت للحاجة فينبغي أن تراعى فيه الحاجة دون غيرها وقال أبو حنيفة : حريم البئر أربعون ذراعا وحريم العين خمسمائة ذراع لأن أبا هريرة روى عن النبي A أنه قال : [ حريم البئر أربعون ذراعا لأعطان الإبل والغنم ] وعن الشعبي مثله رواه أبو عبيد .
ولنا ما روى الدارقطني و الخلال بإسنادهما عن النبي A أنه قال : [ حريم البئر البدي خمس وعشرون ذراعا وحريم البئر العادي خمسون ذراعا ] وهذا نص وروى أبو عبيد بإسناده عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه قال السنة في حريم القليب العادي خمسون ذراعا والبدي خمس وعشرون ذراعا وبإسناده عن سعيد بن المسيب قال حريم البئر البدي خمس وعشرون ذراعا من نواحيها كلها وحريم بئر الزرع ثلاثمائة ذراع من نواحيها كلها وحريم البئر العادية خمسون ذراعا من نواحيها كلها ولأنه معنى يملك به الموات فلا يقف على قدر الحاجة كالحائط ولأن الحاجة إلى البئر لا تنحصر في ترقية الماء فإنه يحتاج إلى ما حولها عطنا لإبله وموقفا لدوابه وغنمه وموضعا يجعل فيه أحواضا يسقي منها ماشيته وموقفا لدابته التي يستقي عليها وأشباه ذلك فلا يختص الحريم بما يحتاج إليه لترقية الماء وأما حديث أبي حنيفة فحديثنا أصح منه ورواهما أبو هريرة فيدل على ضعفه إذا ثبت هذا فظاهر كلام الخرقي أن هذا الحريم مملوك لصاحب البئر وعند الشافعي و القاضي ليس بمملوك وقد سبق ذكر هذا