مسألتان وفصول : استئجار الظئر وأحكامه .
مسألة : قال : وكذلك الظئر : .
يعني أنه يجوز استئجارها بطعامها وكسوتها وقد ذكرنا ذلك والخلاف فيه وأجمع أهل العلم على جواز استئجار الظئر وهي المرضعة وهو في كتاب الله تعالى في قوله سبحانه وتعالى { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } واسترضع النبي A لولده إبراهيم ولأن الحاجة تدعو إليه فوق دعائها إلى غيره فإن الطفل في العادة إنما يعيش بالرضاع وقد يتعذر رضاعه من أمه فجاز ذلك كالإجارة في سائر المنافع ثم ننظر فإن استأجرها للرضاع دون الحضانة أو للحضانة دون الرضاع أو لهما جاز وإن أطلق العقد على الرضاع فهل تدخل فيه الحضانة ؟ فيه وجهان أحدهما : لا تدخل وهو قول أبي ثور و ابن المنذر لأن العقد ما تناولها والثاني : تدخل وهو قول أصحاب الرأي لأن العرف جار بأن المرضعة تحضن الصبي فحمل الإطلاق على ما جرى به العرف والعادة ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين .
والحضانة : تربية الصبي وحفظه وجعله في سريره وربطه ودهنه وكحله وتنظيفه وغسل خرقه وأشباه ذلك واشتقاقه من الحضن وهو ما تحت الإبط وما يليه وسميت التربية حضانة تجوزا من حضانة الطير لبيضه وفراخه لأنه يجعلها تحت جناحيه فسميت تربية الصبي بذلك أخذا من فعل الطائر .
فصل : ويشترط لهذا العقد أربعة شروط أحدها : أن تكون مدة الرضاع معلومة لأنه لا يمكن تقديره إلا بها فإن السقي والعمل فيها يختلف الثاني : معرفة الصبي بالمشاهدة لأن الرضاع يختلف باختلاف الصبي في كبره وصغره ونهمته وقناعته وقال القاضي يعرف بالصفة كالراكب الثالث : موضع الرضاع لأنه يختلف فيشق عليها في بيته ويسهل عليها في بيتها الرابع : معرفة العوض وكونه معلوما كما سبق .
فصل : واختلف في المعقود عليه في الرضاع فقيل هو خدمة الصبي وحمله ووضع الثدي في فمه تبع كالصبغ في إجارة الصباغ وماء البئر في الدار لأن اللبن عين من الأعيان فلا يعقد عليه في الإجارة كلبن غير الآدمي وقيل هو اللبن قال القاضي : هو أشبه لأنه المقصود دون الخدمة ولهذا لو أرضعته دون أن تخدمه استحقت الأجرة ولو خدمته بدون الرضاع لم تستحق شيئا ولأن الله تعالى قال : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } فجعل الأجر مرتبا على الإرضاع فيدل على أنه المعقود عليه ولأن العقد لو كان على الخدمة لما لزمها سقيه لبنها وأما كونه عينا فإنما جاز العقد عليه في الإجارة رخصة لأن غيره لا يقوم مقامه والضرورة تدعو إلى استيفائه وإنما جاز هذا في الآدميين دون سائر الحيوان للضرورة إلى حفظ الآدمي والحاجة إلى إبقائه .
فصل : وعلى المرضعة أن تأكل وتشرب ما يدر به لبنها ويصلح به وللمكتري مطالبتها بذلك لأنه من تمام التمكين من الرضاع وفي تركه إضرار بالصبي ومتى لم ترضعه وإنما أسقته لبن الغنم أو أطعمته فلا أجر لها لأنها لم توف المعقود عليه فأشبه ما لو اكتراها لخياطة ثوب فلم تخطه وإن دفعته إلى خادمتها فأرضعته فكذلك وبه قال أبو ثور وقال أصحاب الرأي لها أجرها لأن رضاعه حصل بفعلها .
ولنا أنها لم ترضعه فأشبه ما لو سقته لبن الغنم وإن اختلفا فقالت أرضعته فأنكر المسترضع فالقول قولها لأنها مؤتمنة .
فصل : ويجوز للرجل أن يؤجر أمته ومدبرته وأم ولده ومن علق عتقها بصفة والمأذون لها في التجارة للإرضاع لأنه عقد على منفعتها أشبه إجارتها للخدمة وليس لواحدة منهن إجارة نفسها لأن نفعها لسيدها وإن كان لها ولد لم تجز إجارتها للإرضاع إلا أن يكون فيها فضل عن ربه لأن الحق لولدها وليس لسيدها إلا ما فضل عنه وإن كانت مزوجة لم تجز إجارتها لذلك إلا بإذنه لأنه يفوت حق الزوج لاشتغالها عنه بإرضاع الصبي وحضانته فإن أجرها للرضاع ثم زوجها صح النكاح ولا ينفسخ عقد الإجارة ويكون للزوج أن يستمتع بها في حال فراغها من الرضاع والحضانة وقال مالك : ليس لزوجها وطؤها إلا برضا المستأجر لأنه ينقص اللبن وقد يقطعه .
ولنا أن وطء الزوج مستحق فلا يسقط لأمر مشكوك فيه وليس للسيد إجارة مكاتبته لأن منافعها إليها ولذلك لم يملك سيدها تزويجها ولا وطأها ولا إجارتها في غير الرضاع ولها أن تؤجر نفسها لأنه من جهات الاكتساب .
فصل : ويجوز للرجل استئجار أمته وأخته وابنته لرضاع ولده وكذلك سائر أقاربه بغير خلاف وإن استأجر امرأته لرضاع ولده منها جاز هذا الصحيح من مذهب أحمد وذكره الخرقي فقال : وإن أرادت الأم أن ترضعه بأجر مثلها فهي أحق به من غيرها سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة وقال القاضي : ليس لها ذلك وتأول كلام الخرقي على أنها في حبال زوج آخر وهذا قول أصحاب الرأي وحكى عن الشافعي : لأنه قد استحق حبسها والاستمتاع بها بعوض فلا يجوز أن يلزمه عوض آخر لذلك .
ولنا أن كل عقد يصح أن تعقده مع غير الزوج يصح أن تعقده معه كالبيع ولأن منافعها في الرضاع والحضانة غير مستحقة للزوج بدليل أنه لا يملك إجبارها على حضانة ولدها ويجوز لها أن تأخذ عليها العوض من غيره فجاز لها أخذه منه كثمن مالها وقولهم أنها استحقت عوض الحبس والاستمتاع قلنا هذا غير الحضانة واستحقاق منفعة من وجه لا يمنع استحقاق منفعة سواها بعوض آخر كما لو استأجرها أولا ثم تزوجها وتأويل القاضي كلام الخرقي يخالف الظاهر من وجهين أحدهما : أن الألف واللام في الزوج للمعهود وهو زوجها أبو الطفل والثاني : أنها إذا كانت في حبال زوج آخر لا تكون أحق به بل يسقط حقها من الحضانة ثم ليس لها أن ترضع إلا بإذن زوجها ففسد التأويل .
فصل : وتنفسخ الإجارة بموت المرضعة لفوات المنفعة بهلاك محلها وحكي عن أبي بكر أنها لا تنفسخ ويجب في مالها أجر من ترضعه تمام الوقت لأنه كالدين .
ولنا أنه هلك المعقود عليه أشبه ما لو هلكت البهيمة المستأجرة وإن مات الطفل انفسخ العقد لأنه يتعذر استيفاء المعقود عليه لأنه لا يمكن إقامة غيره مقامه لاختلاف الصبيان في الرضاع واختلاف اللبن باختلافهم فإنه قد يدر على أحد الوالدين دون الآخر وهذا منصوص الشافعي وإذا انفسخ العقد عقيبه بطلت الإجارة من أصلها ورجع المستأجر بالأجر كله وإن كان في أثناء المدة رجع بحصة ما بقي .
مسألة : ويستحب أن تعطى عند الفطام عبدا أو أمة كما جاء في الخبر إذا كان المسترضع موسرا : .
يعني بالخبر ما روى أبو داود بإسناده عن هشام بن عروة عن أبيه [ عن حجاج بن حجاج الأسلمي عن أبيه قال قلت يا رسول الله ما يذهب عني مذمة الرضاع ؟ قال : الغرة العبد أو الأمة ] قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح قال ابن الجوزي : المذمة بكسر الذال من الذمام وبفتحها من الذم قال ابن عقيل : إنما خص الرقبة بالمجازاة بها دون غيرها لأن فعلها في إرضاعه وحضانته سبب حياته وبقائه وحفظ رقبته فاستحب جعل الجزاء هبتها رقبة ليناسب ما بين النعمة والشكر ولهذا جعل الله تعالى المرضعة أما فقال تعالى { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } وقال النبي A : [ لا يجزي ولد والده إلا بأن يجده مملوكا فيعتقه ] وإن كانت المرضعة مملوكة استحب إعتاقها لأنه يحصل أخص الرقاب بها لها وتحصل به المجازاة التي جعلها النبي A مجازاة للوالد من النسب