مسألة وفصول : فروع في كراء الأرض للزرع أو الغرس ونحوهما .
المسألة الأولى : أكراها للزرع مطلقا أو قال : لتزرعها ما شئت فإنه يصح وله زرع ما شاء وهذا مذهب الشافعي وحكي عن ابن سريج أنه لا يصح حتى يتبين الزرع لأن ضرره يختلف فلم يصح بدون البيان كما لو لم يذكر ما يكترى له من زرع أو غرس أو بناء .
ولنا أنه يجوز استئجارها لأكثر الزرع ضررا ويباح له جميع الأنواع لأنها دونه فإذا عمم أو أطلق تناول الأكثر وكان له ما دونه ويخالف الأجناس المختلفة فإنه لا يدخل بعضها في بعض فإن قيل فلو اكترى دابة للركوب لوجب تعيين الراكب قلنا لأن إجارة المركوب لأكثر الركاب ضررا لا تجوز بخلاف المزروع ولأن للحيوان حرمة في نفسخ فلم يجز إطلاق ذلك فيه بخلاف الأرض فإن قيل فلو استأجر دارا للسكنى مطلقا لم يجز أن يسكنها من يضر بها كالقصار والحداد فلم قلتم أنه يجوز أن يزرعها ما يضر بها ؟ قلنا : السكنى لا تقتضي ضررا فلذلك منع من إسكان من يضر بها لأن العقد لم يقتضه والزرع يقتضي الضرر فإذا أطلق كان راضيا بأكثره فلهذا جاز وليس له أن يغرس في هذه الأرض ولا يبني لأن ضرره أكثر من المعقود عليه .
المسألة الثانية : أكراها لزرع حنطة أو نوع بعينه فإن له زرع ما يعينه وما ضرره كضرره أو دونه ولا يتعين ما عينه في قول عامة أهل العلم إلا داود وأهل الظاهر فإنهم قالوا : لا يجوز له زرع غير ما عينه حتى لو وصف الحنطة بأنها سمراء لم يجز له أن يزرع بيضاء لأنه عينه بالعقد فلم يجز العدول عنه كما لو عين المركوب أو عين الدراهم في الثمن .
ولنا أن المعقود عليه منفعة الأرض دون القمح ولهذا يستقر عليه العوض بمضي المدة إذا تسلم الأرض وإن لم يزرعها وإنما ذكر القمح لتقدر به المنفعة فلم يتعين كما لو استأجر دارا ليسكنها كان له أن يسكنها غيره وفارق المركوب والدراهم في الثمن فإنهما معقود عليهما فتعينا والمعقود عليه ههنا منفعة مقدرة وقد تعينت أيضا ولم يتعين ما قدرت به كما لا يتعين المكيال والميزان في المكيل والموزون .
المسألة الثالثة : قال : ليزرعها حنطة وما ضرره كضررها أو دونه فهذه كالتي قبلها إلا أنه لا مخالف فيها لأنه شرط ما اقتضاه الإطلاق وبين ذلك تصريح نصه فزال الإشكال .
المسألة الرابعة : قال : ليزرعها حنطة ولا يزرع غيرها فذكر القاضي أن الشرط باطل لأنه ينافي مقتضى العقد لأنه يقتضي استيفاء المنفعة كيف شاء فلم يصح الشرط كما لو شرط عليه استيفاء المبيع بنفسه والعقد صحيح لأنه لا ضرر فيه ولا غرض لأحد المتعاقدين لأن ما ضرره مثله لا يختلف في غير المؤجر فلم يؤثر في العقد فأشبه شرط استيفاء المبيع أو الثمن بنفسه وقد ذكرنا فيما إذا شرط مكتري الدار أنه لا يسكنها غيره وجها في صحة الشرط ووجها آخر في فساد العقد فيخرج ههنا مثله .
فصل : وإن أكراها للغراس ففيه ما ذكرنا من المسائل إلا أن له أن يزرعها لأن ضرر الزرع أقل من ضرر الغراس وهو من جنسه لأن كل واحد منهما يضر بباطن الأرض وليس له البناء لأن ضرره مخالف لضرره فإنه يضر بظاهر الأرض وإن أكراها للزرع لم يكن له الغرس ولا البناء لأن ضرر الغرس أكثر وضرر البناء مخالف لضرره وإن أكراها للبناء لم يكن له الغرس ولا الزرع لأن ضررهما يخالف ضرره .
فصل : ولا تخلو الأرض من قسمين أحدهما : أن يكون له ماء دائم إما من نهر لم تجر العادة بانقطاعه أو لا ينقطع إلا مدة لا يؤثر في الزرع أو من عين نابعة أو بركة من مياه الأمطار يجتمع فيها ثم يسقى به أو من بئر يقوم بكفايتها أو ما يشرب بعروقه لنداوة الأرض وقرب الماء الذي تحت الأرض فهذا كله دائم ويصح استئجارها للغرس والزرع بغير خلاف علمناه وكذلك الأرض التي تشرب من مياه الأمطار ويكتفى بالمعتاد منه لأن ذلك بحكم العادة ولا ينقطع إلا نادرا فهو كسائر الصور المذكورة الثاني : أن لا يكون لها ماء دائم وهي نوعان أحدهما : ما يشرب من زيادة معتادة تأتي في وقت الحاجة كأرض مصر الشاربة من زيادة النيل وما يشرب من زيادة الفرات وأشباهه وأرض البصرة الشاربة من المد والجزر وأرض دمشق الشاربة من زيادة بردى وما يشرب من الأودية الجارية من ماء المطر فهذه تصح إجارتها قبل وجود الماء الذي تسقى به وبعده وحكى ابن الصباغ ذلك مذهبا للشافعي وقال أصحابه إن أكراها بعد الزيادة صح ولا يصح قبلها لأنها معدومة لا نعلم هل يقدر عليها أو لا .
ولنا أن هذا معتاد الظاهر وجوده فجازت إجارة الأرض الشاربة به كالشاربة من مياه الأمطار ولأن ظن القدرة على التسليم في وقته يكفي في صحة العقد كالسلم في الفاكهة إلى أوانها .
النوع الثاني : أن يكون مجيء الماء نادرا أو غير ظاهر كالأرض التي لا يكفيها إلا المطر الشديد الكثير الذي يندر وجوده أو يكون شربها من فيض واد مجيئه نادر أو من زيادة نادرة في نهر أو عين غالبة فهذه إن أجرها بعد وجود ماء يسقيها به صح أيضا لأنه أمكن الانتفاع بها وزرعها فجازت إجارتها كذات الماء الدائم وإن أجرها قبله للغرس أو الزرع لم يصح لأنه يتعذر الزرع غالبا ويتعذر المعقود عليه في الظاهر فلم تصح إجارتها كالآبق والمغصوب وإن اكتراها على أنها لا ماء لها جاز لأنه تمكن من الانتفاع بها بالنزول فيها ووضع رحله وجمع الحطب فيها وله أن يزرعها رجاء الماء وإن حصل له ماء قبل زرعها فله زرعها لأن ذلك من منافعها الممكن استيفاؤها وليس له أن يبني ولا يغرس لأن ذلك يراد للتأبيد وتقدير الإجارة بمدة تقتضي تفريغها عند انقضائها فإن قيل فلو استأجرها للغراس والبناء صح مع تقدير المدة قلنا : التصريح بالبناء والغراس صرف التقدير عن مقتضاه بظاهره في التفريغ عند انقضاء المدة إلا أن يشترط قلع ذلك عند انقضاء المدة فيصرف الغراس والبناء عما يراد له بظاهره بخلاف مسألتنا وإن أطلق إجارة هذه الأرض مع العلم بحالها وعدم مائها صح لأنهما دخلا في العقد على أنها لا ماء لها فأشبه ما لو شرطاه وإن لم يعلم عدم نمائها أو ظن المكتري أنه يمكن تحصيل ماء لها بوجه من الوجوه لم يصح العقد ولأنه ربما دخل في العقد بناء على أن المالك لها يحصل لها ماء وأنه يكتريها للزراعة مع تعذرها وقيل لا يصح العقد مع الإطلاق وإن علم بحالها لأن إطلاق كراء الأرض يقتضي الزراعة والأولى صحته لأن العلم بالحال يقوم مقام الاشتراط كالعلم بالعيب يقوم مقام شرطه ومتى كان لها ماء غير دائم أو الظاهر انقطاعه قبل الزرع أو لا يكفي الزرع فهي كالتي لا ماء لها ومذهب الشافعي في هذا كله كما ذكرنا .
فصل : وإن اكترى أرضا غارقة بالماء لا يمكن زرعها قبل انحساره عنها وقد ينحسر ولا ينحسر فالعقد باطل لأن الانتفاع بها في الحال غير ممكن ولا يزول المانع غالبا وإن كان ينحسر عنها وقت الحاجة إلى الزراعة كأرض مصر في وقت مد النيل صح العقد لأن المقصود متحقق بحكم العادة المستمرة وإن كانت الزراعة فيها ممكنة ويخاف غرقها والعادة غرقها لم يجز إجارتها لأنها في حكم الغارقة بحكم العادة المستمرة .
فصل : ومتى غرق الزرع أو هلك بحريق أو جراد أو برد أو غيره فلا ضمان على المؤجر ولا خيار للمكتري نص عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافا وهو مذهب الشافعي لأن التالف غير المعقود عليه وإنما تلف مال المكتري فيه فأشبه من اشترى دكانا فاحترق متاعه فيه ثم إن أمكن المكتري الانتفاع بالأرض بغير الزرع أو بالزرع في بقية المدة فله ذلك وإن تعذر ذلك فالأجر لازم له لأن تعذره لفوات وقت الزراعة بسبب غير مضمون على المؤجر لا لمعنى في العين وإن تعذر الزرع بسبب غرق الأرض أو انقطاع مائها فللمستأجر الخيار لأنه لمعنى في العين وإن تلف الزرع بذلك فليس على المؤجر ضمانه لأنه لم يتلفه بمباشرة ولا بسبب وإن قل الماء بحيث لا يكفي الزرع فله الفسخ لأنه عيب فإن كان ذلك بعد الزرع فله الفسخ أيضا ويبقى الزرع في الأرض إلى أن يستحصد وعليه من المسمى بحصته إلى حين الفسخ وأجر المثل لما بقي من المدة لأرض لها مثل ذلك الماء وكذلك إن انقطع الماء بالكلية أو حدث بها عيب من غرق يهلك بعض الزرع أو يسوء حاله به