مسألة وفصول : أحكام استئجار الآدمي لعمل معين وأقسامه .
مسألة : قال : ومن استؤجر لعمل شيء بعينه فمرض أقيم مقامه من يعمله والأجرة على المريض .
وجملة ذلك أنه يجوز استئجار الآدمي بغير خلاف بين أهل العلم وقد آجر موسى عليه السلام نفسه لرعاية الغنم واستأجر النبي A وأبو بكر رجلا ليدلهما على الطريق و [ ذكر النبي A رجلا استأجر إجراء كل أجير بفرق من ذرة وقال : إنما مثلكم ومثل أهل الكتاب كمثل رجل استأجر أجراء فقال : من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط قيراط ؟ فعملت اليهود ثم قال : من يعمل لي من نصف النهار إلى العصر على قيراط قيراط ؟ فعملت النصارى ثم قال : من يعمل لي من العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين ؟ فعملتم أنتم فغضبت اليهود والنصارى وقالوا نحن أكثر عملا وأقل أجرا فقال : هل ظلمتكم من أجركم شيئا ؟ قالوا : لا قال : فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء ] ولأنه يجوز الانتفاع به مع بقاء عينه فجازت إجارته كالدور ثم إجارته تقع على ضربين أحدهما : استئجاره مدة بعينها لعمل بعينه كإجارة موسى عليه السلام نفسخ ثماني حجج واستئجار الأجراء المذكورين في الخبر والثاني : استئجاره على عمل معين في الذمة كاستئجار النبي A وأبي بكر دليلا يدلهما على الطريق واستئجار رجل لخياطة قميص أو بناء حائط ويتنوع ذلك نوعين أحدهما : أن تقع الإجارة على عين كإجارة عبده لرعاية غنمه أو ولده لعمل معين والثاني : أن تقع على عمل في الذمة كخياطة قميص وبناء حائط فمتى كانت على عمل في ذمته فمرض وجب عليه أن يقيم مقامه من يعمله لأنه حق وجب في ذمته فوجب عليه إيفاؤه كالمسلم فيه ولا يجب على المستأجر إنظاره لأن العقد بإطلاقه يقتضي التعجيل وفي التأخير إضرار به فأما إن كانت الإجارة على عبده في مدة أو غيرها فمرض لم يقم غيره مقامه لأن الإجارة وقعت على عمله بعينه لا على شيء في ذمته وعمل غيره ليس معقودا عليه وإنما وقع العقد على معين فأشبه ما لو اشترى معينا لم يجز أن يدفع إليه غيره ولا يبدله بخلاف ما لو وقع في الذمة فإنه يجوز إبدال المعيب ولا ينفسخ العقد بتلف ما تسلمه والمبيع المعين بخلافه فكذلك الإجارة وإن كانت الإجارة على عمل في الذمة لكنه لا يقوم غير الأجير مقامه كالنسخ فإنه يختلف القصد فيه باختلاف الخطوط لم يكلف إقامة غيره مقامه ولا يلزم المستأجر قبول ذلك إن بذله الأجير لأن الغرض لا يحصل من غير الناسخ كحصوله منه فأشبه ما لو أسلم إليه في نوع فسلم إليه غيره وهكذا كل ما يختلف باختلاف الأعيان .
فصل : يجوز الاستئجار لحفر الآبار والأنهار والقني لأنها منفعة معلومة يجوز أن يتطوع بها الرجل على غيره فجاز عقد الإجارة عليه كالخدمة ولا بد من تقدير العمل بمدة أو عمل معين فإن قيده بمدة نحو أن يقول استأجرتك شهرا لتحفر لي بئرا أو نهرا لم يحتج إلى معرفة القدر وعليه أن يحفر ذلك الشهر قليلا حفر أو كثيرا ويحتاج إلى معرفة الأرض التي يحفر فيها وقال بعض أصحابنا : لا يحتاج إلى معرفتها لأن الغرض لا يختلف بذلك والأول أولى إن شاء الله لأن الأرض قد تكون صلبة فيكون الحفر عليه شاقا وقد تكون سهلة فيسهل ذلك عليه وإن قدره بالعمل فلا بد من معرفة الموضع بالمشاهدة لأن المواضع تختلف بالسهولة والصلابة ولا ينضبط ذلك بالصفة ويعرف دور البئر وعمقها وطول النهر وعمقه وعرضه لأن العمل يختلف بذلك فإذا حفر بئرا فعليه شيل التراب لأنه لا يمكنه الحفر إلا بذلك فقد تضمنه العقد فإن تهور تراب من جانبيها أو سقطت فيه بهيمة أو نحو ذلك لم يلزمه شيله وكان على صاحب البئر لأنه سقط فيها من ملكه ولم يتضمن عقد الإجارة رفعه وإن وصل إلى صخرة أو جماد يمنع الحفر لم يلزمه حفره لأن ذلك مخالف لما شاهده من الأرض وإنما اعتبرت مشاهدة الأرض لأنها تختلف فإذا ظهر فيها ما يخالف المشاهدة كان له الخيار في الفسخ فإذا فسخ كان له من الأجر بحصة ما عمل فيقسط الأجر على ما بقي وما عمل فيقال كم أجر ما عمل ؟ وكم أجر ما بقي ؟ ويقسط الأجر المسمى عليهما ولا يجوز تقسيطه على عدد الأذرع لأن أعلى البئر يسهل نقل التراب منه وأسفله يشق ذلك فيه وإن نبع ما يمنعه من الحفر فهو بمنزلة الصخرة على ما ذكرنا .
فصل : ويجوز الاستئجار لضرب اللبن لما ذكرنا ويكون على مدة أو عمل فإن قدره بالعمل احتاج إلى تبيين عدده وذكر قالبه وموضع الضرب لأن الأجر يختلف باختلافه لكون التراب في بعض الأماكن أسهل والماء أقرب فإن كان هناك قالب معروف لا يختلف جاز كما إذا كان المكيال معروفا وإن قدره بالطول والعرض والسمك جاز ولا يكتفي بمشاهدة قالب الضرب إذا لم يكن معروفا لأن فيه غررا وقد يتلف القالب ولا يصح كما لو أسلم في مكيال بعينه .
فصل : ويجوز الاستئجار للبناء وتقديره بالزمان أو العمل فإن قدره بالعمل فلا بد من معرفة موضعه لأنه يختلف أيضا بقرب الماء وسهولة التراب ولا بد من ذكر طوله وعرضه وسمكه وآلة البناء من لبن وطين أو حجر وطين أو شيد وآجر أو غير ذلك قال ابن أبي موسى : وإذا استأجره لبناء ألف لبنة في حائطه أو استأجره يبني له فيه يوما فعمل ما استأجره عليه ثم سقط الحائط فله أجره لأنه وفى العمل وإن قال ارفع لي هذا الحائط عشرة أذرع فرفع بعضه ثم سقط فعليه إعادة ما سقط وإتمام ما وقعت عليه الإجارة من الزرع وهذا إذا لم يكن سقوطه في الأول لأمر من جهة العامل فأما إن فرط أو بناه محلولا أو نحو ذلك فسقط عليه إعادته وغرامة ما تلف منه .
فصل : ويجوز الاستئجار لتطيين السطوح والحيطان وتجصيصها ولا يجوز على عمل معين لأن الطين يختلف فمنه رقيق وثخين وأرض السطح تختلف فمنها العالي ومنها النازل وكذلك الحيطان فلذلك لم يجز إلا على مدة .
فصل : ويجوز استئجار ناسخ لينسخ له كتب فقه أو حديث أو شعرا مباحا أو سجلات نص عليه في رواية مثنى بن جامع وسأله عن كتابة الحديث بالأجر فلم ير به بأسا ولا بد من التقدير بالمدة أو العمل فإن قدره بالعمل ذكر عدد الأوراق وقدرها وعدد السطور في كل ورقة وقدر الحواشي ودقة القلم وغلظه فإن عرف الخط بالمشاهدة جاز وإن أمكن ضبطه بالصفة ضبطه وإلا فلا بد من مشاهدته لأن الأجر يختلف باختلافه ويجوز تقدير الأجر بأجزاء الفرع ويجوز بأجزاء الأصل المنسوخ منه وإن قاطعه على نسخ الأصل بأجر واحد جاز وإذا أخطأ بالشيء اليسير الذي جرت العادة به عفي عنه لأن ذلك لا يمكن التحرز منه وإن أسرف في الغلط بحيث يخرج عن العادة فهو عيب يرد به قال ابن عقيل : وليس له محادثة غيره حالة النسخ ولا التشاغل بما يشغل سره ويوجب غلطه ولا لغيره تحديثه وشغله وكذلك كل الأعمال التي تختل بشغل السر والقلب كالقصارة والنساجة ونحوهما .
فصل : ويجوز أن يستأجر من يكتب له مصحفا في قول أكثر أهل العلم وروي ذلك عن جابر بن زيد ومالك بن دينار وبه قال أبو حنيفة و الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر وقال ابن سيرين : لا بأس أن يستأجر الرجل شهرا ثم يستكتبه مصحفا وكره علقمة كتابة المصحف بالأجر ولعله يرى أن ذلك مما يختص فاعله بكونه من أهل القربة فكره الأجر عليه كالصلاة ولنا أنه فعل مباح يجوز أن ينوب فيه الغير عن الغير فجاز أخذ الأجر عليه ككتابة الحديث وقد جاء في الخبر أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله .
فصل : ويجوز أن يستأجر لحصاد زرعه ولا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم وكان إبراهيم بن أدهم يؤجر نفسه لحصاد الزرع ويجوز أن يقدره بمدة وبعمل معين مثل أن يقاطعه على حصاد زرع معين ويجوز أن يستأجر رجلا لسقي زرعه وتنقيته ودياسه ونقله إلى موضع معين ويجوز أن يستأجر رجلا ليحتطب له لأنه عمل مباح تدخله النيابة أشبه حصاد الزرع قال أحمد في رجل استأجر أجيرا على أن يحتطب له على حمارين كل يوم فكان الرجل ينقل عليهما وعلى حمير لرجل آخر ويأخذ منه الأجرة فإن كان يدخل عليه ضرر يرجع عليه بالقيمة فظاهر هذا أن المستأجر يرجع على الأجير بقيمة ما استضر باشتغاله عن عمله لأنه قال : إن كان يدخل عليه ضرر يرجع عليه بالقيمة فاعتبر الضرر وظاهر هذا أنه إذا لم يستضر لا يرجع بشيء لأنه اكتراه لعمل فوفاه على التمام فلم يلزمه شيء كما لو استأجره لعمل فكان يقرأ القرآن في حال عمله فإن ضر المستأجر يرجع عليه بقيمة ما فوت عليه ويحتمل أنه أراد أنه يرجع عليه بقيمة ما عمله لغيره لأنه صرف منافعه المعقود عليها إلى عمل غير المستأجر فكان عليه قيمتها كما لو عمل لنفسه وقال القاضي : معناه أنه يرجع عليه بالأجر الذي أخذه من الآخر لأن منافعه في هذه المدة مملوكة لغيره فما حصل في مقابلتها يكون للذي استأجره .
فصل : ويجوز الاستئجار لاستيفاء القصاص في النفس فما دونها وبه قال مالك و الشافعي و أبو ثور وقال أبو حنيفة : لا يجوز في النفس لأن عدد الضربات تختلف وموضع الضربات غير متعين إذ يمكن أن يضرب من ما يلي الرأس ومن ما يلي الكتف فكان مجهولا .
ولنا أنه حق يجوز التوكيل في استيفائه لا يختص فاعله بكونه من أهل القربة فجاز الاستئجار عليه كالقصاص في الطرف وقوله أن عدد الضربات يختلف وهو مجهول يبطل بخياطة الثوب فإن عدد الغرزات مجهول وقوله إن محله غير متعين قلنا هو متقارب فلا يمنع ذلك صحته كموضع الخياطة من حاشية الثوب والأجر على المقتص منه وبهذا قال الشافعي و أبو ثور وقال أبو حنيفة و مالك : هو على المستوفي لأنه غير متعين فليس على المقتص منه إلا التمكين كما لو اشترى ثمرة نخله .
ولنا أنه أجر يجب لإيفاء حق فكان على الموفي كأجر الكيال والوزان وما ذكروه غير صحيح فإن القطع مستحق عليه بخلاف الثمرة بدليل أنه لو مكنه من القطع فلم يقطع وقطعه آخر لم يسقط حق صاحب القصاص ولو كان التمكين تسليما لسقط حقه كالثمرة .
فصل : ويجوز استئجار رجل ليدله على طريق فإن النبي A وأبا بكر استأجرا عبد الله بن أريقط هاديا خريتا وهو الماهر بالهداية ليدلهما على طريق المدينة ويجوز استئجار كيال ووزان لعمل معلوم أو في مدة معلومة وبهذا قال مالك و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه مخالفا وقد روي في حديث سويد بن قيس [ أتانا رسول الله A فاشترى منا رجل سراويل وثم رجل يزن بأجر فقال رسول الله A زن وأرجح ] رواه أبو داود ويجوز استئجار رجل ليلازم غريما يستحق ملازمته وسئل أحمد عن ذلك فقال : لا بأس قد شغله وقال في موضع آخر : غير هذا أعجب إلي كرهه لأنه يؤول إلى الخصومة وفيه تضييق على مسلم ولا يأمن أن يكون ظالما فيساعده على ظلمه لكنه جائز في الجملة لأن الظاهر أنه محق فإن الظاهر أن الحاكم لا يحكم إلا بحق ولهذا أجزنا للموكل فعله .
فصل : ويجوز أن يستأجر سمسارا يشتري له ثيابا ورخص في ابن سيرين و عطاء و النخعي وكرهه الثوري و حماد .
ولنا أنها منفعة مباحة تجوز النيابة فيها فجاز الاستئجار عليها كالبناء ويجوز على مدة معلومة مثل أن يستأجره عشرة أيام يشتري له فيها لأن المدة معلومة والعمل معلوم أشبه الخياط والقصار فإن عين العمل دون الزمان فجعل له من كل ألف درهم شيئا معلوما صح أيضا وإن قال كلما اشتريت ثوبا فلك درهم أجرا وكانت الثياب معلومة بصفة أو مقدرة بثمن جاز وإن لم يكن كذلك فظاهر كلام أحمد أنه لا يجوز لأن الثياب تختلف باختلاف أثمانها والأجر يختلف باختلافها فإن اشترى فله أجر مثله وهذا قول أبي ثور و ابن المنذر لأنه عمل عملا بعوض لم يسلم له فكان له أجر المثل كسائر الإجارات الفاسدة .
فصل : وإن استأجره ليبيع له ثيابا بعينها صح وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا يصح لأن ذلك يتعذر عليه فأشبه ضراب الفحل وحمل الحجر الكبير .
ولنا أنه عمل مباح تجوز النيابة فيه وهو معلوم فجاز الاستئجار عليه كشراء الثياب ولأنه يجوز عقد الإجارة عليه مقدرا بزمن فجاز مقدرا بالعمل كالخياطة وقولهم إنه غير ممكن لا يصح فإن الثياب لا تنفك عن راغب فيها ولذلك صحت المضاربة ولا تكون إلا بالبيع والشراء بخلاف ما قاسوا عليه فإنه متعذر وإن استأجره على شراء ثياب معينة احتمل أن لا يصح لأن ذلك لا يكون إلا من واحد وقد لا يبيع فيتعذر تحصيل العمل بحكم الظاهر بخلاف البيع وإن استأجره في البيع لرجل بعينه فهو كما لو استأجره لشراء ثياب بعينها ويحتمل أن يصح لأنه ممكن في الجملة فإن حصل من ذلك شيء استحق الأجر وإلا بطلت الإجارة كما لو لم يعين البائع ولا المشتري .
فصل : ويجوز أن يستأجر لخدمته من يخدمه كل شهر بشيء معلوم وسواء كان الأجير رجلا أو امرأة حرا أو عبدا وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي و أبو ثور لأنه تجوز النيابة فيه ولا يختص عامله بكونه من أهل القربة قال أحمد : أجير المشاهرة يشهد الأعياد والجمعة ولا يشترط ذلك قيل له : فيتطوع بالركعتين ؟ قال : ما لم يضر بصاحبه إنما أباح له ذلك لأن أوقات الصلاة مستثناة من الخدمة ولهذا وقعت مستثناة في حق المعتكف بترك معتكفه لها وقال ابن المبارك : لا بأس أن يصلي الأجير ركعات السنة وقال أبو ثور و ابن المنذر : ليس له منعه منها وقال أحمد : يجوز للرجل أن يستأجر الأمة والحرة للخدمة ولكن يصرف وجهه عن النظر ليست الأمة مثل الحرة ولا يخلو معها في بيت ولا ينظر إليها متجردة ولا إلى شعرها إنما قال ذلك لأن حكم النظر بعد الإجارة كحكمه قبلها وفرق بين الأمة والحرة لأنهما يختلفان قبل الإجارة فكذلك بعدها