باب المزارعة .
مسألة : قال : وتجوز المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض .
معنى المزارعة دفع الأرض إلى إلى من يزرعها أو يعمل عليها والزرع بينهما وهي جائزة في قول كثير من أهل العلم قال البخاري قال أبو جعفر : ما بالمدينة أهل بيت إلا ويزرعون على الثلث والربع وزارع علي وسعد وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل علي وابن سيرين وممن رأى ذلك سعيد ابن المسيب وطاوس وعبد الرحمن بن الأسود وموسى بن طلحة والزهري وعبد الرحمن بن أبي ليلى وابنه وأبو يوسف ومحمد وروي ذلك عن معاذ والحسن وعبد الرحمن بن يزيد قال البخاري : وعامل عمر الناس على أنه إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا وكرهها عكرمة ومجاهد والنخعي وأبو حنيفة .
وروي عن ابن عباس الأمران جميعا وأجازها الشافعي في الأرض بين النخيل إذا كان بياض الأرض أقل فإن كان أكثر فعلى وجهين ومنعها في الأرض البيضاء لما روى رافع بن خديج قال : كنا نخابر على عهد رسول الله A فذكر أن بعض عمومته أتاه فقال نهى رسول الله A عن أمر كان لنا نافعا وطواعية رسول الله A أنفع قال : قلنا ما ذاك ؟ قال : قال رسول الله A : [ من كانت له أرض فليزرعها ولا يكريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى ] وعن ابن عمر قال : ما كنا نرى بالمزارعة بأسا حتى سمعنا رافع بن خديج يقول : نهى رسول الله A عنها وقال جابر : نهى رسول الله A عن المخابرة وهذه كلها أحاديث صحاح متفق عليها .
والمخابرة المزارعة واشتقاقها من الخبار وهي الأرض اللينة والخبير الأكار وقيل المخابرة معاملة أهل خيبر وقد جاء حديث جابر مفسرا فروى البخاري عن جابر قال : كانوا يزرعونها بالثلث والربع والنصف فقال النبي A [ من كانت له أرض فليزرعها أو لمنحها فإن لم يفعل فيمسك أرضه ] وروي تفسيرها عن زيد بن ثابت فروى أبو داود بإسناده عن زيد قال : نهى رسول الله A عن المخابرة قلت : وما المخابرة قال : [ أن يأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع ] .
ولنا ما روى ابن عمر قال : [ أن رسول الله A عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر ] متفق عليه وقد روى ذلك ابن عباس وجابر بن عبد الله .
A وقال أبو جعفر : عامل رسول الله A أهل خيبر بالشطر ثم أبو بكر ثم عمر وعثمان وعلي ثم أهلوهم إلى اليم يعطون الثلث والربع وهذا أمر صحيح مشهور عمل به رسول الله A حتى مات ثم خلفاؤه الراشدون حتى ماتوا ثم أهلوهم من بعدهم ولم يبق بالمدينة أهل بيت إلا عمل به وعمل به أزواج رسول الله A من بعده فروى البخاري عن ابن عمر أن النبي A عامل اهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع اوثمر فكان يعطي أزواجه مائة وسق ثمانون وسقا ثمرا وعشرون وسقا شعيرا فقسم عمر خيبر فخير أزواج النبي A أن يقطع لهن من الأرض والماء أو يمضي لهن الأوسق فمنهن من اختار الأرض ومنهن من اختار الأوسق فكانت عائشة اختارت الأرض ومثل هذا لا يجوز أن ينسخ لأن النسخ إنما يكون في حياة رسول الله A فأما شيء عمل به إلى أن مات ثم عمل به خلفاؤه بعده وأجمعت الصحابة رضوان الله عليهم عليه وعملوا به ولم يخالف فيه منهم أحد فكيف يجوز نسخه ومتى كان نسخه ؟ فإن نسخ في حياة رسول الله A فكيف عمل به بعد نسخه وكيف خفي نسخه فلم يبلغ خلفاؤه مع اشتهار قصة خيبر وعملهم فيها ؟ فأين كان راوي النسخ حتى لم يذكره ولم يخبرهم به ؟ .
فأما ما احتجوا به فالجواب عن حديث رافع من أربعة أوجه أحدها : أنه قد فسر المنهي عنه في حديثه بما لا يختلف في فساده فإنه قال كنا من أكثر الأنصار حقلا فكنا نكري الأرض على ان لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك فأما بالذهب والورق فلم ينهنا متفق عليه وفي لفظ فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس وهذا خارج عن محل الخلاف فلا دليل فيه عليه ولا تعارض بين الحديثين الثاني : أن خبره في الكراء بثلث أو ربع والنزاع في المزارعة ولم يدل حديثه عليها أصلا وحديثه الذي فيه المزارعة يحمل على الكراء أيضا لأن القصة واحدة رويت بالأفاظ مختلفة فيجب تفسير أحد اللفظين بما يوافق الآخر .
الثالث : أن أحاديث رافع مضطربة جا مختلفة اختلافا كثيرا يوجب ترك العمل بها لو انفردت فكيف يقدم على مثل حديثنا ؟ .
قال الإمام أحمد : حديث رافع ألوان وقال أيضا : حديث رافع ضروب وقال ابن المنذر : قد جاءت الأخبار عن رافع لعلل تدل على أن النهي كان لذلك منها : الذي ذكرناه ومنها خمس أخرى وقد أنكره فقيهان من فقهاء الصحابة زيد بن ثابت وابن عباس قال زيد بن ثابت : أنا أعلم بذلك منه وإنما سمع النبي A رجلين قد اقتتلا فقال : [ إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع ] رواه أبو داود و الأثرم وروى البخاري عن عمرو بن دينار قال : قلت لطاوس لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي A نهى عنها قال : أن أعلمهم - يعني ابن عباس - أخبرني [ أن النبي A لم ينه عنها ولكن قال : أن بمنح أحدكم أخاه خير من أن ياخذ عليها خراجا معلوما ] .
ثم أن أحاديث رافع منها ما يخالف الإجماع وهو النهي عن كراء المزارع على الإطلاق ومنها ما لا يختلف في فساده كما قد بينا وتارة يحدث عن بعض عمومته وتارة عن سماعه وتارة عن ظهير بن رافع وإذا كانت أخبار رافع هكذا وجب إخراجها واستعمال الأخبار الواردة في خيبر الجارية مجرى التواتر التي لا اختلاف فيها وقد عمل بها الخلفاء الراشدون وغيرهم فلا معنى لتركها بمثل هذه الأحاديث الواهية الجواب الرابع : أنه لو قدر صحة خبر رافع وامتنع تأويله وتعذر الجمع لوجب حمله على أنه منسوخ لأنه لا بد من نسخ أحد الخبرين ويستحيل القول بنسخ حديث خيبر لكونه معمولا به من جهة النبي A إلى حين موته ثم من بعده إلى عصر التابعين فمتى كان نسخه ؟ وأما حديث جابر في النهي عن المخابرة فيجب حمله على أحد الوجوه التي حمل عليها خبر رافع فغنه قد روى حديث خيبر أيضا فيجب الجمع بين حديثيه مهما أمكن ثم لو حمل على المزارعة لكان منسوخا بقصة خيبر لإستحالة نسخها كما ذكرنا وكذلك القول في حديث زيد بن ثابت فإن قال أصحاب الشافعي : تحمل أحاديثكم على الأرض التي بين النخيل وأحاديث النهي عن الأرض البيضاء جمعا بينهما قلنا : هذا بعيد لوجوه خمسة أحدها : أنه يبعد أن تكون بلدة كبيرة يأتي منها أربعون ألف وسق ليس فيها أرض بيضاء ويبعد أن يكون قد عاملهم على بعض الأرض دون بعض فينقل الرواة كلهم القصة على العموم من غير تفصيل مع الحاجة إليه الثاني : أن ما يذكرونه من التأويل لا دليل عليه وما ذكرناه دل عليه بعض الروايات وفسره الراوي له بما ذكرناه وليس معهم سوى الجمع بين الأحاديث والجمع بينهما يحمل بعضها على ما فسره روايه به أولى من التحكم بما لا دليل عليه الثالث : أن قولهم يفضي إلى تققيد كل واحد من الحديثين وما ذكرناه حمل لأحدهما وحده الرابع : أن فيما ذكرناه موافقة عمل الخلفاء الراشدين وأهليهم وفقهاء الصحابة وهم أعلم بحديث رسول الله A وسنته ومعانيها وهو أولى من قول من خالفهم الخامس : أن ما ذهبنا إليه مجمع عليه فأن أبا جعفر روى ذلك عن كل أهل بيت بالمدينة وعن الخلفاء الأربعة وأهليهم وفقهاؤ الصحابة واستمرار ذلك وهذا مما لا يجوز خفاؤه ولم ينكره من الصحابة منكر فكان إجماعا وما روى في مخالفته فقد بينا فساده فيكون هذا إجماعا من الصحابة Bهم لا يسوغ لأحد خلافه والقياس يقتضيه فأن الأرض عين تنمي بالعمل فيها فجازت المعاملة عليها ببعض نمائها كالأثمان في المضاربة والنخل في المساقاة أو نقول أرض فجازت المزارعة عليها كالأرض بين النخيل ولأن الحاجة داعية إلى المزارعة لأن أصحاب الأرض قد لا يقدرون على زرعها والعمل عليها والأكرة يحتجون إلى الزرع ولا أرض لهم فاقتضت حكمة الشرع جواز المزارعة كما قلنا في المضاربة والمساقاة بل الحاجة ههنا آكد لأن الحاجة إلىالزرع آكد منها إلى غيره لكونه مقتاتا ولكون الأرض لا ينتفع بها إلا بالعمل عليها بخلاف المال ويدل على ذلك قول راوي حديثهم نهانا رسول الله A عن أمر كان لنا نافعا والشارع لا ينهي عن المنافع وإنما ينهي عن المضار والمفاسد فيدل ذلك على غلط الراوي في المنهي عنه وحصول المنفعة فيما ظنه منهيا عنه إذا ثبت هذا فأن حكم المزارعة حكم المساقاة في أنها إنما تجوز بدزء للعامل من الزرع وفي جوازها ولزومها وما يلزم العامل ورب الأرض وغير ذلك من أحكامها