مسألة : قال ومن أقر بشيء واستثنى من غير جنسه .
مسألة : قال : ومن أقر بشيء واستثنى من غير جنسه كان استثناؤه باطلا إلا أن يستثني عينا من ورق أو ورقا من عين .
في هذه المسألة فصلان .
الفصل الأول : أنه لا يصح الإستثناء في الإقرار من غير الجنس وبهذا قال زفر و محمد بن الحسن وقال أبو حنيفة : إن استثنى مكيلا أو موزونا جاز وإن استثنى عبدا أو ثوبا من مكيل أو موزون لم يجز وقال مالك و الشافعي يصح الاستثناء من غير الجنس مطلقا لأنه ورد في الكتاب العزيز ولغة العرب قال الله تعالى : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن } وقال تعالى : { لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما } وقال الشاعر : .
( وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس ) .
وقال آخر : .
( عيت جوابا وما بالربع من أحد ... إلا أواري لأيا ما أبينها ) .
ولنا أن الإستثناء صرف اللفظ بحرف الإستثناء عما كان يقتضيه لولاه وقيل هو إخراج بعض ما تناوله المستثني منه مشتق من ثنيت فلانا عن رأيه إذا صرفته عن رأي كان عازما عليه وثنيت عنان دابتي إذا صرفتها به عن وجهتها التي كانت تذهب إليها وغير الجنس المذكور ليس بداخل في الكلام فإذا ذكره فما صرف الكلام عن صوبه ولا ثناه عن وجه استرساله فلا يكون إستثناء وإنما سمي استثناء تجوزا وإنما هو في الحقيقة إستدراك وإلا ههنا بمعنى لكن هكذا قال أهل العربية منهم ابن قتيبة وحكاه عن سيبويه والإستدراك لا يأتي إلا بعد الجحد ولذلك لم يأت الإستثناء في الكتاب العزيز من غير الجنس إلا بعد النفي ولا يأتي بعده الإثبات إلا أن يوجد بعده جملة وإذا تقرر هذا فلا مدخل للإستدراك في الإقرار لأنه إثبات للمقر به فإذا ذكر الإستدراك بعده كان باطلا وإن ذكره بعده جملة كأن قال له : عندي مائة درهم إلا ثوبا لي عليه فيكون مقرا بشيء مدعيا لشيء سواه فيقبل إقراره وتبطل دعواه كما لو صرح بذلك بغير لفظ الإستثناء وأما قوله تعالى : { فسجدوا إلا إبليس } فإن إبليس كان من الملائكة بدليل أن الله تعالى لم يأمر بالسجود غيرهم فلو لم يكن منهم لما كان مأمورا بالسجود ولا عاصيا بتركه ولا قال الله تعالى في حقه : { ففسق عن أمر ربه } ولا قال : { ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك } وإذا لم يكن مأمورا فلما أنكسه الله وأهبطه ودحره ؟ ولم يأمر الله تعالى بالسجود إلا الملائكة فإن قالوا بل قد تناول الأمر الملائكة ومن كان معهم فدخل إبليس في الأمر لكونه معهم قلنا قد سقط استدلالكم فإنه متى كان داخلا في المستثنى منه مأمورا بالسجود فاستثناؤه من الجنس وهذا ظاهر لمن أنصف إن شاء الله تعالى فعلى هذا متى قال له : علي ألف درهم إلا ثوبا لزمه الألف وسقط الإستثناء بمنزلة ما لو قال له على ألف درهم لكن لي عليه ثوب .
الفصل الثاني : إذا استثنى عينا من ورق أو ورقا من عين فاختلف أصحابنا في صحته فذهب بو بكر عبد العزيز إلى أنه لا يصح لما ذكرنا وهو قول محمد بن الحسن وقال ابن أبي موسى فيه روايتان واختار الخرقي صحته لأن قدر أحدهما معلوم من الآخر ويعبر بأحدهما عن الآخر فإن قوما يسمون تسعة دراهم دينارا وآخرون يسمون ثمانية دراهم دينارا فإذا استثنى أحدهما من الآخر علم أنه أراد التعبير بأحدهما عن الآخر فإذا قال له : علي دينار إلا ثلاثة دراهم في موضه بعير فيه بالدينار عن تسعة كان معناه له علي تسعة دراهم إلا ثلاثة ومهما أمكن حمل الكلام على وجه صحيح لم يجز إلغاؤه وقد أمكن بهذا الطريق فوجب تصحيحه وقال أبو الخطاب لا فرق بين العين والورق وبين غيرهما ويلزم من صحة استثناء أحدهما من الآخر صحة استثناء الثياب وغيرها وقد ذكرنا الفرق ويمكن الجمع بين الروايتين بحمل رواية الصحة على ما إذا كان أحدهما يعبر به عن الآخر أو يعلم قدره منه ورواية البطلان على ما إذا انتفي ذلك والله أعلم