فصلان : فيما يصح ضمان ومن لا يصح .
فصل : فيما يصح ضمانه يصح ضمان الجعل في الجعالة وفي المسابقة والمناضلة وقال أصحاب الشافعي : في أحد الوجهين لا يصح ضمانه لأنه لا يؤول إلى اللزوم فلم يصح ضمانه كمال الكتابة .
ولنا قول الله تعالى : { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } ولأنه يؤول إلى اللزوم إذا عمل العمل وإنما الذي لا يلزم العمل والمال يلزم بوجوده والضمان للمال دون العمل ويصح ضمان أرش الجناية سواء كانت نقودا كقيم المتلفات أو حيوانا كالديات وقال أصحاب الشافعي : لا يصح ضمان الحيوان لواجب فيها لأنه مجهول وقد مضى الدليل على صحة ضمان المجهول ولأن الابل الواجبة في الذمة معلومة الأسنان والعدد وجهالة اللون أو غيره من الصفات الباقية لا تضر لأنه إنما يلزمه أدنى لون أو صفة فتحصل معلومة وكذلك غيرها من الحيوان ولأن جهل ذلك لم يمنع وجوبه بالإتلاف فلم يمنع وجوبه بالالتزام ويصح ضمان نفقة الزوجة سواء كانت نفقة يومها أو مستقبلة لأن نفقة اليوم واجبة والمستقبلة مآلها إلى اللزوم ويلزمه ما يلزم الزوج في قياس المذهب وقال القاضي : إذا ضمن نفقة المستقبل لم تلزمه إلا نفقة المعسر لأن الزيادة على ذلك تسقط بالأعسار وهذا مذهب الشافعي على القول الذي قال فيه يصح ضمانها ولنا أنه يصح ضمان ما لم يجب واحتمال عدم وجوب الزيادة لا يمنع صحة ضمانها بدليل الجعل في الجعالة والصداق قبل الدخول والمبيع في مدة الخيار فأما النفقة في الماضي فإن كانت واجبة أما بحكم الحاكم بها أو قلنا بوجوبها بدون حكمه صح ضمانها وإلا فلا ويصح ضمان مال السلم في إحدى الروايتين والأخرى لا يصح لأنه يؤدي إلى استيفاء المسلم فيه من غير المسلم إليه فلم يجز كالحوالة به والأول أصح لأنه دين لازم فصح ضمانه كالأجرة وثمن المبيع ولا يصح ضمان الكتابة في إحدى الروايتين وهو قول الشافعي وأكثر أهل العلم والأخرى يصح لأنه دين على المكاتب فصح ضمانه كسائر الديون عليه والأولى أصح لأنه ليس بلازم ولا مآله إلى اللزوم فإن للمكاتب تعجيز نفسه والامتناع عن أدائه فإذا لم يلزم الأصيل فالضمين أولى ويصح ضمان الأعيان المضمونة كالمغصوب والعارية وبه قال أبو حنيفة و الشافعي في أحد القولين وقال في الآخر : لا يصح لأن الأعيان غير ثابتة في الذمة وإنما يضمن ما ثبت في الذمة ووصفنا لها بالضمان إنما معناه أنه يلزمه قيمتها إن تلفت والقيمة مجهولة ولنا أنها مضمونة على من هي في يده فصح ضمانها كالحقوق الثابتة في الذمة وقولهم أن الأعيان لا تثبت في الذمة قلنا الضمان في الحقيقة إنما هو ضمان استنقاذها وردها والتزام تحصيلها أو قيمتها عند تلفها وهذا مما يصح ضمانه كعهدة المبيع فإن ضمانها يصح وهو في الحقيقة التزام رد الثمن أو عوضه إن ظهر بالمبيع عيب أو خرج مستحقا فأما الأمانات كالوديعة والعين المؤجرة والشركة والمضاربة والعين التي يدفعها إلى القصار والخياط فهذه إن ضمنها من غير تعد فيها لم يصح ضمانها لأنها غير مضمونة على من هي في يده فكذلك على ضامنه وإن ضمنها إن تعدى فيها فظاهر كلام أحمد C يدل على صحة الضمان فإنه قال في رواية الأثرم في رجل يتقبل من الناس الثياب فقال له رجل : إدفع إليه ثيابك وأنا ضامن فقال له : هو ضامن لما دفعه إليه يعني إذا تعدى أو تلف بفعله فعلى هذا إن تلف بغير تفريط منه ولا فعله لم يلزم الضامن شيء لما ذكرنا وإن تلف بفعله أو تفريط لزمه ضمانها ولزم ضامنه ذلك لأنها مضمونة على من هي في يده فلزم ضامنه كالغصوب والعواري وهذا في الحقيقة ضمان ما لم يجب وقد بينا جوازه ويصح ضمان عهدة المبيع عن البائع للمشتري وعن المشتري للبائع فضمانه على المشتري هو أن يصمن الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه وإن ظهر فيه عيب أو استحق رجع بذلك على الضامن وضمانه عن البائع للمشتري هو ان يضمن عن البائع الثمن متى خرج المبيع مستحقا أو رد بعيب أو أرش العيب فضمان العهدة في الموضعين هو ضمان الثمن أو جزء منه عن أحدهما للآخر وحقيقة العهدة الكتاب الذي يكتب فيه وثيقة البيع ويذكر فيه الثمن فعبر به عن الثمن الذي يضمنه وممن أجاز ضمان العهدة في الجملة أبو حنيفة و مالك و الشافعي ومنع منه بعض الشافعية لكونه ضمان ما لم يجب وضمان مجهول وضمان عين وقد بينا جواز الضمان في ذلك كله ولأن الحاجة تدعوا إلى الوثيقة على البائع والوثائق ثلاثة : .
الشهادة والرهن والضمان فأما الشهادة فلا يستوفي منها الحق وأما الرهن فلا يجوز في ذلك بالإجماع لأنه يؤدي إلى أن يبقي أبدا مرهونا فلم يبق إلا الضمان ولأنه لا يضمن إلا ما كان واجبا حال العقد لأنه إنما يتعلق بالضمان حكم إذا خرج مستحقا أو معيبا حالا العقد ومتى كان كذلك فقد ضمن ما وجب حين العقد والجهالة منتفية لأنه ضمن الجملة فإذا خرج بعضه مستحقا لزمه بعض ما ضمنه إذا ثبت هذا فإنه يصح ضمان العهدة عن البائع للمشتري قبل قبض الثمن وبعده وقال الشافعي : إنما يصح بعد القبض لأنه قبل القبض لو خرج مستحقا لم يجب على البائع شيء وهذا ينبني على ضمان ما لم يجب إذا كان مفضيا إلى الوجوب كالجعالة وألفاظ العهدة أن يقول ضمنت عهدته أو ثمنه أو دركه أو يقول للمشتري ضمنت خلاصك منه أو يقول متى خرج المبيع مستحقا فقد ضمنت لك الثمن وحكي أبي يوسف أنه قال : ضمنت عهدته أو ضمنت لك العهدة والعهدة في الحقيقة هي الصك المكتوب فيه الإبتياع هكذا فسره به أهل اللغة فلا يصح ضمانه للمشتري لأنه ملكه وليس بصحيح لأن العهدة صارت في العرف عبارة عن الدرك وضمان الثمن والكلام المطلق يحمل على الأسماء العرفية دون اللغوية كالرواية تحمل عند اطلاقها على المزادة لا على الجمل وإن كان هو الموضوع فأما إن ضمن له خلاص المبيع فقال أبو بكر : هو باطل لأنه إذا خرج حرا أو مستحقا لا يستطيع تخليصه ولا يحل وقد قال أحمد في رجل باع عبدا أو أمة وضمن له الخلاص فقال كيف يستطيع الخلاص إذا خرج حرا فإن ضمن عهدة المبيع وخلاصه بطل في الخلاص وهل يصح في العهدة على وجهين بناء على تفريق الصفقة إذا ثبت صحة ضمان العهدة فالكلام فيما يلزم الضامن فنقول إن إستحقاق رجوع المشتري بالثمن لا يخلو إما أن يكون بسبب حادث بعد العقد أو مقارن له فأما الحادث فمثل تلف المبيع من المكيل والموزون في يد البائع أو بغضب من يده أو يتقايلان فإن المشتري يرجع على البائع دون الضامن لأن هذا الإستحقاق لم يكن موجودا حال العقد وإنما ضمن الإستحقاق الموجود حال العقد ويحتمل أن يرجع به على الضامن لأن ضمان ما لم يجب جائز وهذا منه وأما إن كان بسبب مقارن نظرنا فإن كان بسبب لا تفريط من البائع فيه كأخذه بالشفعة فإن المشتري يأخذ الثمن من الشفيع ولا يرجع على البائع ولا الضامن ومتى لم يجب على المضمون عنه شيء لم يجب على الضامن بطريق الأولى وأما إن زال ملكه عن المبيع بسبب مقارن لتفريط من البائع باستحقاق أو حرية أو رد بعيب قديم فله الرجوع إلى الضامن وهذا ضمان العهدة فإن أراد أخذ أرش العيب رجع على الضان أيضا لأنه إذا لزمه كل الثمن لزمه بعضه إذا استحق ذلك على المضمون عنه وسواء ظهر كل المبيع مستحقا أو بعضه لأنه إذا ظهر بعضه مستحقا بطل العقد في الجميع في إحدى الروايتين فقد خرجت العين كلها من يده بسبب الاستحقاق وعلى الرواية الأخرى يبطل العقد في الجميع ولكن استحق ردها فإن ردها كلها فالحكم كذلك وإن أمسك المملوك منها فله المطالبة بالأرش كما لو وجد بها عيبا ولو باعه عينا أو أقرضه شيئا بشرط أن يرهن عنده عينها فتكفل رجل بتسليم الرهن لم تصح الكفالة لأنه لا يلزم الراهن إقباضه وتسليمه فلا يلزم الكفيل ما لا يلزم الأصيل وإن ضمن للمشتري قيمة ما يحدث في المبيع من بناء أو غراس صح سواء ضمنه البائع أو أجنبي فإذا بنى أو غرس واستحق المبيع رجع المشتري على الضامن بقيمة ما تلف أو نقص وبهذا قال أبو حنيفة وقال الشافعي : لا يصح لأنه ضمان مجهول وضمان ما لم يجب وقد بينا جواز ذلك .
فصل : فيمن يصح ضمانه ومن لا يصح يصح ضمان كل جائز التصرف في ماله سواء كان رجلا أو امراة لأنه يقصد به المال فصح من المرأة كالبيع ولا يصح من المجنون والمبرسم ولا من صبي غير مميز بغير خلاف لأنه إيجاب مال بعقد فلم يصح منهم كالنذر والإقرار ولا يصح من السفيه المحجور عليه ذكره أوب الخطاب وهو قول الشافعي وقال القاضي : يصح ويتبع به بعد فك الحجر عنه لأنه من أصلنا إن إقراره صحيح يتبع به من بعد فك الحجر عنه صح فكذلك ضمانه والأول أولى لأنه إيجاب مال بعقد فلم يصح منه كالبيع والشراء ولا يشبه الإقرار لأنه إخبار بحق سابق وأما الصبي المميز فلا يصح ضمانه في الصحيح من الوجهين وهو قول الشافعي وخرجه أصحابنا على الروايتين في صحة إقراره وتصرفاته بإذن وليه ولا يصح هذا الجمع لأن هذا التزام مال لا فائدة له فيه فلم يصح منه كالتبرع والنذر بخلاف البيع وإن اختلفا في وقت الضمان بعد بلوغه فقال الصبي : قبل بلوغي وقال المضمون له : بعد البلوغ فقال القاضي : قياس قول أحمد أن القول قول المضمون له لأن معه سلامة العقد فكان القول قوله كما لو اختلفا في شرط فاسد ويحتمل أن القول قول الضامن لأن الأصل عدم البلوغ وعدم وجوب الحق عليه وهذا قول الشافعي ولا يشبه هذا ما إذا اختلفا في شرط فاسد لأن المختلفين ثم متفقان علىأهلية التصرف والظاهر أنهما لا يتصرفان إلا تصرفا صحيحا فكان قول مدعي الصحة هو الظاهر وههنا اختلفا في أهلية التصرف وليس مع من يدعي الأهلية ظاهر يستند إليه ولا أصل يرجع إليه فلا ترجع دعواه والحكم فيمن عرف لهحال جنون كالحكم في الصبي وإن لم يعرف له حال جنون فالقول قول المضمون له لأن الأصل عدمه فأما المحجور عليه لفلس فيصبح ضمانه ويتبع به بعد فك الحجر عنه لأنه من أهل التصرف والحجر عليه في ماله لا في ذمته فأشبه الراهن فصح تصرفه فيما عدا الرهن فهو كما لو اقترض أو أقر اشترى في ذمته ولا يصح ضمان العبد بغير إذن سيده سواء كان مأذونا له في التجارة أو غير مأذون له وبهذا قال ابن أبي ليلى و الثوري و أبو حنيفة : ويحتمل أن يصح ويتبع به بعد العتق وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأنه من أهل التصرف فصح تصرفه بما لا ضرر على السيد فيه كالإقرار بالإتلاف ووجه الأول أنه عقد تضمن إيجاب مال فلم يصح بغير إذن كالنكاح وقال أبو ثور : إن كان من جهة التجارة جاز وإن كان من غير ذلك لم يجز فإن ضمن فإذن سيده صح لأن بيده لو أذن له في التصرف صح قال القاضي وقياس المذهب تعلق المال برقبته وقال ابن عقيل : ظاهر المذهب وقياسه أنه يتعلق بذمة السيد وقال أبو الخطاب : هل يتعلق برقبته أو بذمة سيده على روايتين كاستدانته فإذن سيده وقد سبق الكلام فيها فإن أذن له سيده في الضمان ليكون القضاء من المال الذي في يده صح ويكون ما في ذمته متعلقا بالمال الذي في يد العبد كتعلق حق الجناية برقبة الجاني كما لو قال الحر : ضمنت لك الدين على أن تأخذ من مالي هذا صح وأما المكاتب فلا يصح ضمانه بغير إذن سيده كالعبد القن لأنه تبرع بالتزام مال فأشبه نذر الصدقة بغير مال ويحتمل أن يصح ويتبع به بعد عتقه كقولنا في العبد وإن ضمن بإذنه ففيه وجهان : أحدهما لا يصح أيضا لأنه ربما أدى إلى تفويت الحرية والثاني : لا يصح لأن الحق لهما لا يخرج عنهما فأما المريض فإن كان مرضه غير مخوف أو غير مرض الموت فحكمه حكم الصحيح وإن كان مرض الموت المخوف فحكم ضمانه حكم تبرعه يحسب من ثلثه لأنه تبرع بالتزام مال لا يلزمه ولم يأخذ عنه عوضا فأشبه الهبة وإذا فهمت إشارة الأخرس صح ضمانه لأنه يصح بيعه وإقراره وتبرعه فصح ضمانه كالناطق ولا يثبت الضمان بكتابة منفردة عن إشارة يفهم بها أنه قصد الضمان لأنه قد يكتب عبثا أو تجربة فلم يثبت الضمان به مع الاحتمال ومن لا تفهم إشارته لا يصح منه الضمان لأنه لا يدري بضمانه ولأنه لا يصح سائر تصرفاته فكذلك ضمانه