حكم تعيب الرهن ومنه استحالة العصير خمرا أو شرط الرهن الفاسد في البيع والشروط الصحيحة والفاسدة في عقد الرهن .
فصل : وإن تعيب الرهن أو استحال العصير خمرا قبل قبضه فللبائع الخيار بين قبضه معيبا ورضاه بلا رهن فيما إذا تخمر العصير وبين فسخ البيع ورد الرهن وإن علم بالعيب بعد قبضه فكذلك وليس له مع إمساكه أرش من أجل العيب لأن الرهن إنما لزم فيما حصل قبضه وهو الموجود والجزء الفائت لم يلزم تسليمه فلم يلزم الأرش بدلا عنه بخلاف المبيع وإن تلف أو تعيب بعد القبض فلا خيار للبائع وإن اختلفا في زمن حدوث العيب وهو مما لا يحتمل إلا قول أحدهما فالقول قوله من غير يمين لأن اليمن إنما تراد لدفع الاحتمال وهذا لا يحتمل وإن احتمل قوليهما معا انبنى على اختلاف المتبايعين في حدوث العيب المبيع وفيه روايتان فيكون فيه ههنا وجهان أحدهما : القول قول الراهن وهو قول أبو حنيفة والشافعي لأن الأصل صحة العقد ولزومه والآخر : القول قول المرتهن وهو قياس قول الخرقي لقوله مثل ذلك في البيع لأنهما اختلفا في قبض المرتهن للجزء الفائت فكان القول قوله كما لو اتلفا في قبض جزء منفصل منه وإن اختلفا في زمن التلف فقال الراهن : بعد القبض وقال المرتهن قبله فالقول قوله لأنه منكر للقبض وإن كان الرهن عصيرا فاستحال خمرا واختلفا في زمن استحالته فالقول قول الراهن نص عليه أحمد وقال القاضي : يخرج فيه رواية أخرى أن القول قول المرتهن كالاختلاف في البيع وهو قول أبي حنيفة لأن الأصل عدم القبض كما لو اختلفا في زمن التلف ولنا أنهما اتفقا على العقد والقبض واختلفا لأن الأصل عدم القبض كما لو اختلفا في شرط فاسد ويفارق اختلافهما في حدوث العيب من وجهين أحدهما : أنهما اتفقا على القبض ههنا وثم اختلفا في قبض الجزء الفائت الثاني : أنهما اختلاف هنا فيما يفسد العقد والعيب بخلافه .
فصل : ولو وجد بالرهن عيبا بعد أن حدث عنده عيب آخر فله رده وفسخ البيع لأن العيب الحادث في ملك الراهن لا يلزم المرتهن ضمانه بخلاف المبيع وخرجه القاضي على روايتين بناء على البيع فعلى قوله لا يملك الرد يملك الفسخ والصحيح ما ذكرناه وإن هلك الرهن في يد المرتهن ثم علم أنه كان معيبا لم يملك فسخ البيع لأنه تعذر عليه رده فإن قيل فالرهن غير مضمون ولهذا لا يمتنع رده بحدوث العيب فيه قلنا إنما تضمن قيمته لأن العقد لم يقع على ملكه وإنما وقع على الوثيقة فهو مضمون بالوثيقة أما إذا تعيب فقد رده فيستحق بدل ما رده وههنا لم يرد شيئا فلو أوجبنا له بدله لأوجبنا على الراهن غير ما شرط على نفسه .
فصل : ولو لم يشترطا رهنا في البيع فتطوع المشتري برهن وقبضه البائع كان حكمه حكم الرهن المشروط في البيع ولا ينفك شيء منه حتى يقضي جميع الدين ولا يملك الراهن انتزاع ولا التصرف فيه إلا بإذن المرتهن إلا أنه رده بعيب أو غيره لم يملك فسخ البيع .
فصل : وإذا تبايعا بشرط أو يكون المبيع رهنا على ثمنه لم يصح قاله ابن حامد وهو قول الشافعي لأن المبيع حين شرط رهنه لم يكن ملكا له وسواء شرط رهنه قبل قبضه وروي عن أحمد أنه قال : إذا حبس المبيع ببقية الثمن فهو غاصب ولا يكون رهنا إلا أن يكون شرطا عليه في نفس البيع وهذا يدل على صحة الشرط لأنه يجوز بيعه فجاز رهنه وقال القاضي : معنى هذه الرواية أنه شرط عليه في نفس رهنا غير المبيع فيكون له حبس المبيع حتى يقبض الرهن وإن لم يف به فسخ البيع فأما شرط رهن المبيع على ثمنه فلا يصح لوجوه منها أنه غير مملوك له ومنها أن البيع يقتضي إيفاء من غير المبيع والرهن يقتضي الوفاء منه ومنها أن البيع يقتضي تسليم المبيع أولا ورهن المبيع يقتضي أن لا يسلمه حتى يقبض الثمن ومنها أن البيع يقتضي أن يكون إمساك المبيع مضمونا والرهن يقتضي أن لا يكون مضمونا وهذا يوجب تناقض أحكامهما وظاهر الرواية صحة رهنه وقولهم إنه غير مملوك قلنا إنما شرط رهنه بعد هلكه وقولهم البيع يقتضي إيفاء الثمن من غير المبيع غير صحيح إنما يقتضي وفاء الثمن مطلقا ولو تعذر وفاء الثمن من غير المبيع لاستوفي من ثمنه وقولهم البيع يقتضي تسليم المبيع قبيل تسليم الثمن ممنوع وإن سلم فلا يمنع أن يثبت بالشرط خلافه كما أن مقتضى البيع حلول الثمن ووجوب تسليمه في الحال ولو شرط التأجيل جاز وكذلك مقتضى البيع ثبوت الملك في المبيع والتمكين والتصرف فيه وينتفي بشرط الخيار وهذا هو الجواب عن الوجه الثالث والرابع فأما إن لم يشترط ذلك في البيع لكن رهنه عنده بعد البيع فإن كان بعد لزوم المبيع فالأولى صحته لأنه يصح رهنه عند غيره فصح عنده كغيره ولأنه يصح رهنه على غير ثمنه فصح رهنه على ثمنه وإن كان قبل لزوم البيع انبنى على جواز التصرف في المبيع ففي كل موضع جاز التصرف فيه جاز رهنه وما لا فلا لأنه نوع تصرف فأشبه بيعه .
فصل : وإذا شرط في البيع رهنا فاسدا كالمحرم والمجهول والمعدوم وما لا يقدر على تسليمه أو غير المعين أو شرط رهن المبيع على ثمنه ففي فساد البيع روايتان مضى توجيههما في الشروط الفاسدة في البيع واختار أبو الخطاب ههنا فساد البيع وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وقد مضى ذكر ذلك .
فصل : والشروط في الرهن تنقسم قسمين صحيحا وفاسدا فالصحيح مثل أن يشترط كونه على يد عدل عينه أو عدلين أو أكثر أو أن يبيعه العدل عند حلول الحق ولا نعلم في صحة هذا خلافا وإن شرط أن يبيعه المرتهن صح وبه قال أبو حنيفة و مالك وقال الشافعي : لا يصح لأنه توكيل فيما يتنافى فيه الغرضان فلم يصح كما لو وكله في بيعه من نفسه ووجه التنافي أن الراهن يريد الصبر على المبيع والاحتياط في توفير الثمن والمرتهن يريد تعجيل الحق وانجاز البيع .
ولنا أن ما جاز توكيل غير المرتهن فيه جاز توكيل المرتهن فيه كبيع عين لأرى ولأن من جاز أن يشترط له الإمساك جاز اشتراط البيع له كالعدل ولا يضر اختلاف الغرضين إذا كان غرض المرتهن مستحقا له وهو استيفاء الثمن عند حلول الحق وانجاز البيع وعلى أن الراهن إذا وكله مع العلم بغرضه فقد سمح له بذلك والحق له فلا يمنع من المساحة به كما لو وكل فاسقا في بيع ماله وقبض ثمنه ولا نسلم أنه لا يجوز توكيله في بيع شيء من نفسه وإن سلمنا فلأن الشخص الواحد يكون بائعا مشتريا وموجبا قابلا وقابضا من نفسه لنفسه بخلاف مسألتنا .
فصل : وإذا رهنه أمة فشرطا كونها عند امرأة أو ذي محرم لها أو كونها في يد المرتهن أو أجنبي على وجه لا يفضي إلى خلوة بها مثل أن يكون لهما زوجات أو سراري أو نساء من محارمهما معهما في دارهما جاز لأنه لا يفضي إلى محرم وإن لم يكن كذلك فسد الشرط لأنه يفضي إلى خلوة المحرمة ولا يؤمن عليها ولا يفسد الرهن لأنه لا يعود إلى نقص ولا ضرر في حق المتعاقدين ويكون الحكم فيه كما لو رهنها من غير شرط يصح الرهن ويجعلها الحاكم على يد من يجوز أن تكون عنده وإن كان الرهن عبدا فشرط موضعه جاز وإن لم يشترط موضعه صح أيضا كالأمة ويحتمل أن لا يصح لأن للأمة غرفا بخلاف عبدا فشرط موضعه أصح فإن الأمة إذا كان المرتهن ممن يجوز وضعها عند كالعبد وإذا كان مرتهن العبد امرأة لا زوج لها فشرطت كونه عندها على وجه يفضي إلى خلوته بها لم يجز أيضا فاستويا .
فصل : والقسم الثاني الشروط الفاسدة مثل أن يشترط ما ينافي مقتضى الرهن نحو أن يشترط أن لا يباع الرهن عند حلول الحق أو لا يستوفي الدين من ثمنه أو لا يباع ما خيف تلفه أو بيع الرهن بأي ثمن كان أو أن لا يبيعه إلا بما يرضيه فهذه شروط فاسدة لمنافاتها مقتضى العقد فإن المقصود مع الوفاء بهذه الشروط مفقود وكذلك إن شرطا الخيار للراهن أو أن يكون العقد لازما في حقه أو توقيت ارهن أو أن يكون رهنا يوما ويوما لا أو كون الراهن أو أن ينتفع به أو ينتفع به المرتهن أو كونه مضمونا على المرتهن أو العدل فهذه كلها فاسدة لأن منها ما ينافي مقتضى العقد ومنها ما لا يقتضيه العقد ولا هو من مصلحته وإن شرطا شيئا منها في عقد الرهن فقال القاضي : يحتمل أن يفسد الرهن بها بكل حال لأن العاقد إنما بذل ملكه بهذا الشرط فإذا لم يسلم له لم يصح العقد لعدم الرضا به بدونه وقيل أن شرط الرهن مؤقتا أو رهنه يوما ويوما لا فسد الرهن وهل يفسد بسائرها ؟ على وجهين بناء على الشروط الفاسدة في البيع ونصر أبو الخطاب في رؤوس المسائل صحته وبه قال أبو حنيفة لأن النبي A قال : [ لا يغلق الرهن ] وهو مشروط فيه شرط فاسد ولم يحكم بفساده وقيل ما ينقص حق المرتهن يبطله وجها واحدا وما لا فعلى وجهني وهذا مذهب الشافعي لأن المرتهن شرطت له زيادة لم تصح له فإذا فسدت الزيادة لم يبطل أصل الرهن .
فصل : وإن شرط أنه متى حل الحق ولم يوفني فالرهن لي بالدين أو فهو مبيع لي بالدين الذي عليك فهو شرط فاسد روي ذلك عن ابن عمر و شريح و النخعي و مالك و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي ولا نعلم أحدا خالفهم والأصل في ذلك ما روى معاوية بن عبد لله نب جعفر قال [ قال رسول الله A : لا يغلق الرهن ] رواه الأثرم قال الأثرم : قلت لأحمد ما معنى قوله [ لا يغلق الرهن ] ؟ قال لا يدفع رهنا إلى رجل ويقول إن جئتك بالدراهم إلى كذا وكذا وإلا فالرهن لك : قال ابن المنذر : هذا معنى قوله لا يغلق الرهن عند مالك و الثوري و أحمد وفي حديث معاوية بن عبد الله بن جعفر [ أن رجلا رهن دارا بالمدينة إلى أجل مسمى فمضى الأجل فقال الذي ارتهن منزلي فقال النبي A : لا يغلق الرهن ] ولأنه علق البيع على شرط فإن جعله مبيعا بشرط أن لا يوفيه الحق في محله والبيع والمعلق بشرط لبا يصح وإذا شرط هذا الشرط فسد الرهن ويتخرج أن لا يفسد لما ذكرنا في سائر الشروط الفاسدة وهذا ظاهر قول أبي الخطاب في رؤوس المسائل واحتد بقول النبي A لا يغلق الرهن نفي غلقه دون أصله فيدل على صحته ولأن الراهن قد رضي برهنه مع هذا الشرط فمع بطلانه أولى أن يرضى به ولنا أنه رهن بشرط فاسد فكان فاسدا كما لو شرط توفيته وليس في الخبر أنه شرط ذلك في ابتداء العقد فلا يكون فيه حجة .
فصل : ولو قال الغريم : رهنتك عبدي هذا على أن تزيدني في الأجل كان باطلا لأن الأجل لا يثبت في الدين إلا أن يكون مشروطا في عقد وجب به فإذا لم يثبت الأجل لم يصح الرهن لأنه جعله في مقابلته ولأن ذلك يضاهي ربا الجاهلية كانوا يزيدون في الدين ليزدادوا في الأجل .
فصل : إذا كان له على رجل ألف فقال : أقرضني ألفا بشرط أن أرهنك عبدي هذا بالألفين : فنقل حنبل عن أحمد أن القرض باطل وهو مذهب الشافعي لأنه قرض يجر منفعة وهو الاستيثاق بالألف الأول وإذا بطل الرهن فإذا قيل أليس لو شرط أنه يعطيه رهنا بما يقترضه جاز ؟ قلنا ليس هذا قرضا جر منفعة لأن غاية ما حصل له تأكيد الاستيفاء لبدل ما أقرضه وهو مثله والقرض يقتضي وجوب الوفاء وفي مسألتنا شرط في هذا القرض الاستيثاق لدينه الأول فقد شرط استيثاقا لغير موجب القرض ونقل أن القرض صحيح ولعل أحمد حكم بصحة القرض مع فساد الشرط كيلا يفضي إلى جر المنفعة بالقرض أو حكم بفساد الرهن في الألف الأول وحده صححه فيما عداه ولو كان مكان القرض بيع فقال : بعني عبدك هذا بألف على أن أرهنك عبدي به وبالألف الآخر الذي علي فالبيع باطل رواية واحدة لأن الثمن مجهول فإنه جعل الثمن ألفا ومنفعة هي وثيقة بالألف الأول وتلك المنفعة مجهولة ولأنه شرط عقد الرهن بالألف الأول فلم يصح كما لو أفرده أو كما لو باعه داره بشرط أن يبيعه الآخر داره .
فصل : وإذا فسد الرهن وقبضه المرتهن لم يكن عليه ضمانه لأنه قبضه بحكم أنه رهن وكل عقد كان صحيحه غير مضمون أو مضمونا ففاسده كذلك فإن كان مؤقتا أو شرط أنه يصير للمرتهن بعد انقضاء مدته صار بعد ذلك مضمونا لأنه مقبوض بحكم بيع فاسد وحكما الفاسد من العقود حكم الصحيح في الضمان فإن كان أرضا فغرسها قبل انقضاء الأجل فهو كالغرس الغاصب لأنه غرس بغير إذن وإن غرس بعد الأجل وكان قد شرط أن الرهن يصير له فقد غرس بإذن لأن البيع وإن كان فاسدا فقد تضمن الإذن في التصرف فيكون الراهن مخيرا بين ثلاثة أشياء : بين أن يقر غرسه له وبين أخذه بقيمته وبين أن يجبره على قلعه ويضمن له ما نقص