جواز بيع الصبرة تحريم الغش في بيعها .
مسألة : قال : ومن اشترى صبرة طعام لم يبعها حتى ينقلها .
هذا المسألة تدل على حكمين أحدهما : إباحة بيع الصبرة جزافا مع جهل البائع والمشتري بقدرها وبهذا قال أبو حنيفة و الشافعي ولا نعلم فيه خلافا وقد نص عليه أحد ودل عليه قول ابن عمر : [ كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله A أن نبيعه حتى ننقله من مكانه ] متفق عليه ولأنه معلوم بالرؤية فصح بيعه كالثياب والحيوان ولا يضر عدم مشاهدة باطن الصبرة فإن ذلك يشق لكونه الحب بعضه على بعض ولا يمكن بسطها حبة حبة ولأن الحب تتساوى أجزاؤه في الظاهر فاكتفي برؤية ظاهرة بخلاف الثوب فإن نشره لا يشق ولم تختلف أجزاؤه ولا يحتاج إلى معرفة قدرها مع المشاهدة لأنه علم ما اشترى بأبلغ الطرق وهو الرؤية وكذلك لو قال : بعتك نصف هذه الصبرة أو ثلثها أو جزءا منها معلوما جاز لأن ما جاز بيع جملته جاز بيع بعضه كالحيوان ولأن جملتها معلومة بالمشاهدة فكذلك جزؤها : قال ابن عقيل : ولا يصح هذا إلا أن تكون الصبرة متساوية الأجزاء فإن كانت مختلفة مثل صبرة بقا القرية لم يصح ويحتمل أن يصح لأنه يشتري منها جزءا مشاعا فيستحق من جيدها ورديئها بقسطه لوا فرق بين الأثمان والمثمنات في صحة بيعها جزافا وقال مالك : لا يجوز في الأثمان لأن لها خطرا ولا يشق وزنها ولا عددها فأشبه الرقيق والثياب .
ولنا أنه معلوم بالمشاهدة فأشبه المثمنات والنقرة والحلي ويبطل بذلك ما قاله وأما لرقيق فإنه يجوز بيعهم إذا شاهدهم ولم يعدهم وكذلك الثياب إذا نشرها ورأى جميع أجزائها الحكم الثاني : أنه إذا اشترى الصبرة جزافا لم يجز له بيعها حتى ينقلها نص عليه أحمد في رواية الأثرم : وعنه رواية أخرى له بيعها قبل نقلها اختارها القاضي وهو مذهب مالك لأنه مبيع متعين لا يحتاج إلى حق توفية فأشبه الثوب الحاضر .
ولنا قول ابن عمر إنا كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله A أن بيعه حتى ننقله من مكانه وعموم [ قوله عليه السلام : من ابتاع طعاما فلا بيعه حتى يستوفيه ] مع ما ذكرنا من الأخبار وروى الأثرم بإسناده عن عبيد بن حنين قال : قدم زيت من الشام فاشتريت منه أبعرة وفرغت من شرائها فقال إلي رجل فأربحني فيه ربحا فبسطت يدي لأبايعه فإذا رجل يأخذني من خلفي فنظرت فإذا زيد بن ثابت فقال : لا تبعه حتى تنقله إلى رحلك فإن رسو الله A أمرنا بذلك فإذا تقرر هذا فإن قبضها نقلها كما جاء في الخبر ولأن القبض لو لم يعين في الشرع لوجب رده إلى العرف كما قلنا في الأحياء والإحراز والعادة في قبض الصبرة النقل .
فصل : ولا يحل لبائع الصبرة أن يغشها بأن يجعلها على دكة أو ربوة أو حرج ينقصها أو يجعل الرديء في باطنها أو المبلول ونحو ذلك لما روى أبو هريرة [ أن رسول الله A مر على صبرة من طعام فأدخل يده فنالت أصابعه بللا فقال : يا صاحب الطعام ما هذا ؟ قال : أصابته السماء يا رسول الله قال : أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس ؟ ثم قال : من غشنا فليس منا ] قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح فإذن وجد ذلك ولم يكن المشتري علم به فله الخيار بين الفسخ وأخذ تفاوت ما بينهما لأنه عيب وإن بان تحتها حفرة أو بان باطنها خيرا من ظاهرها فلا خيار للمشتري لأنه زيادة له وإن علم البائع ذلك فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة به وإن لم يكن علم فله الفسخ كما لو باع بعشرين درهما فوزنها بصنجه ثم وجد الصنجة زائدة كان له الرجوع وكذلك لو باع بمكيال ثم وجه زائدا ويحتمل أنه لا خيار له لأن الظاهر أنه باع ما يعلم فلا يثبت له الفسخ بالاحتمال .
مسألة : قال : ومن عرف مبلغ شيء لم يبعه صبرة .
نص أحمد على هذا في مواضع وكره عطاء و ابن سيرين و مجاهد و عكرمة وبه مالك و إسحاق وروي ذلك عن طاوس قال مالك : لم يزل أهل العلم ينهون عن ذلك وعن أحمد أن هذا مكروه غير محرم فإن بكر ابن محمد روى عن أبيه أنه سأله عن الرجل يبيع الطعام جزافا وقد عرف كيله وقلت له إن مالكا يقول إذا باع الطعام ولم يعلم المشتري فإن أحب أن يرده ردهن قال : هذا تغليظ شديد ولكن لا يعجبني إذا عرف كيله إلا أن يخبره فإن باعه فهو جائز عليه وقد أساء ولم ير أبو حنيفة و الشافعي بذلك بأسا لأنه إذا جاز البيع مع جهلهما بمقداره فمع العلم من أحدهما أولى ؟ ووجه الأولى ما روى الأوزاعي أن النبي صلى الله عليه وسل من عرف مبلغ شيء فلا يبعه جزافا حتى يبينه قال القاضي وقد روي عن النبي A أنه نهى عن بيع الطعام مجازفة وهو يعلم كيله والنهي يقتضي التحريم وأيضا الإجماع الذي نقله مالك ولأن الظاهر أن البائع لا يعدل إلى البيع جزافا مع علمه بقدر الكيل إلا للتغرير بالمشتري والغش له ولذلك أثر في عدم لزوم العقد وقد قال عليه السلام : من غشنا فليس منا فصار كما لو دلس العيب فإن باع ما لعم كيله صبرة فظاهر كلام أحمد في رواية محمد بن الحكم أن البيع صحيح لازم وهو قول مالك و الشافعي لأن المبيع معلوم لهما ولا تغرير من أحدهما فأشبه ما لو علما كيله أو جهلاه ولم يثبت من ما روي من النهي فيه وإنما كره أحمد كراهة تنزيله لاختلاف العلماء فيه ولأن استواءهما في العلم والجهل أبعد من التغرير وقال القاضي وأصحابه : هذا بمنزلة التدليس والغش إن علم به المشتري فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة فهو كما لو اشترى مصراة يعلم تصريتها وإن لم يعلم أن البائع كان عالما بذلك فله الخيار في الفسخ والإمضاء وهذا قول مالك لأنه غش وغدر من البائع فصح العقد معه ويثبت للمشتري الخيار ؟ وذهب قوم من أصحابنا إلى أن البيع فاسد لأنه منهي عنه يقتضي الفساد