بيع اللحم باللحم وبالحيوان واللبن باللبن ومشتقاته .
مسألة : قال : وسائر اللحمان جنس واحد .
أراد جميع اللحم وجمعه - وهو اسم جنس - لاختلاف أنواعه ظاهر كلام الخرقي أن اللحم كله جنس واحد وذكره أبو الخطاب و ابن عقيل رواية عن أحمد وهو قول أبي ثور وأحد قولي الشافعي وأنكر القاضي أبو يعلى كون هذا رواية عن أحمد وقال : الأنعام والوحوش والطير ودواب الماء أجناس يجوز التفاضل فيها رواية واحدة وإنما في اللحم روايتان إحداهما : أنه أربعة أجناس كما ذكرنا وهو مذهب مالك إلا أنه يجعل الأنعام والوحش جنسا واحدا فيكون عنده ثلاثة أصناف والثانية : أنه أجناس باختلاف أصوله وهو قول أبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وهي أصح لأنها فروع أصول هي أجناس فكانت أجناسا كالأدقة والأخباز وهذا اختيار ابن عقيل واختيار القاضي أنها أربعة أجناس وحمل كلام الخرقي عليها واحتج بأن لحوم هذه الحيوانات تختلف المنفعة بها والقصد إلى أكلها فكانت أجناسا وهذا ضعيف جدا لأن كونها أجناسا لا يوجب حصرها في أربعة أجناس ولا نظير لهذا فيقاس عليه ولا يصح حمل كلام الخرقي عليه لعدم احتمال لفظه له وتصريحه في الأيمان بأنه إذا حلف لا يأكل لحما فأكل من لحم الأنعام أو الطائر أو السمك حنث فيتعين حمل كلامه على عمومه في أن جميع اللحم جنس لأنه اشترك في الاسم الواحد حال حدوث الربا فيه فكان جنسا واحدا كالطلع والصحيح أنه أجناس باختلاف أصوله وهذا الدليل ينتقض بالتمر الهندي والتمر البرني وعسل القصب وعسل النحل وغير ذلك فعلى هذا لحم الإبل كله صنف بخاتيها وعرابها والبقر عرابها وجواميسها صنف والغنم ضأنها ومعزها صنف ويحتمل أن يكونا صنفين لأن الله تعالى سماها في الأزواج الثمانية فقال : { ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين } ففرق بين الإبل والبقر فقال : { ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين } والوحش أصناف بقرها صنف وغنمها صنف وظباؤها صنف وكل ماله اسم يخصه فهو صنف والطيور أصناف كل ما انفراد باسم وصفة فهو صنف فيباع لحم صنف بلحم صنف آخر متفاضلا ومتماثلا ويباع بصفة متماثلا ومن جعلها صنفا واحدا لم يجز عنده بيع لحم بلحم إلا متماثلا .
مسألة : قال : ولا يجوز بيع بعضه ببعض رطبا ويجوز إذا تناهى جفافه مثلا بمثل .
اختار الخرقي أنه لا يباع بعضه ببعض إلا في حال جفافه وذهاب رطوبته كلها وهو مذهب الشافعي وذهب أبو حفص في شرحه إلى هذا قال القاضي والمذهب جواز بيعه ونص عليه وقوله في الرطب بالرطب بجواز البيع ينبه على إباحة بيع اللحم باللحم من حيث كان اللحم حال كماله ومعظم نفعه في حال رطوبته دون حال يبسه فجرى مجرى اللبن بخلاف الرطب فإن حال كماله ومعظم نفعه في حال يبسه فإذا جاز فيه البيع ففي اللحم أولى ولأنه وجد التماثل فيهما في الحال على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقص فجاز كبيع اللبن باللبن فأما بيع رطبه بيابسه أو نيئه بمطبوخه أو مشويه فغير جائز لانفراد أحدهما بالنقص في الثاني فلم يجز كالرطب بالتمر .
فصل : قال القاضي : ولا يجوز بيع بعضه ببعض إلا منزوع العظام كما لا يجوز بيع العسل بالعسل إلا بعد التصفية وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي وكلام أحمد C يقتضي الإباحة من غير نزع عظامه ولا جفافه قال في رواية حنبل : إذا صار إلى الوزن مثلا بمثل رطلا برطل فاطلق ولم يشترط شيئا وذلك لأن العظم تابع للحم بأصل الخلقة فلم يشترط نزعه كالنوى في التمر وفارق العسل من حيث إن اختلاف الشمع بالعسل من فعل النحل لا من أصل الخلقة .
فصل : واللحم والشحم جسنان والكبد صنف والطحال صنف والقلب صنف والمخ صنف ويجوز بيع كل صنف بصنف آخر متفاضلا وقال القاضي : لا يجوز بيع اللحم بالشحم وكره مالك ذلك إلا أن يتماثلا وظاهر المذهب إباحة البيع فيهما متماثلا ومتفاضلا وهو قول أبي حنيفة و الشافعي لأنهما جنسان فجاز التفاضل فيهما كالذهب والفضة وإن منع منه لكون اللحم لا يخلو من شحم لم يصح لأن الشحم لا يظهر وإن كان فيه شيء فهو غير مقصود فلا يمنع البيع ولو منع لذلك لم يجز بيع لحم بلحم لاشتمال كل واحد منهما على ما ليس من جنسه ثم لا يصح هذا عند القاضي لأن السمين الذي يكون مع اللحم لحم عنده فلا يتصور اشتمال اللحم على الشحم وذكر القاضي أن اللحم الأبيض الذي على ظاهر اللحم الأحمر هو الأحمر جنس واحد وإن الألية والشحم جنسان وظاهر كلام الخرقي خلاف هذا لقوله أن اللحم لا يخلو من شحم ولو لم يكن هذا شحما لم يختلط لحم بشحم فعلى قوله كل أبيض في الحيوان يذوب بالإذابة ويصير دهنا فهو جنس واحد وهذا أصح لقول تعالى : { حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما } فاستثنى ما حملت الظهور من الشحم ولأنه يشبه الشحم في ذوبه ولونه مقصده فكان شحما كالذي في البطن .
فصل : وفي اللبن روايتان إحداهما : هو جنس واحد لما ذكرنا في اللحم والثانية : هو أجناس باختلاف أصوله كاللحم وهذا مذهب الشافعي وبه قال مالك لأن الأنعام كلها جنس واحد وقال ابن عقيل : لبن البقر الأهلية والوحشية جنس واحد على الروايات كلها لأن اسم البقر يشملهما وليس بصحيح لأن لحمها جنسان فكان لبنها جنسين كالإبل والبقر ويجوز بيع اللبن بغير جنسه متفاضلا وكيف شاء يدا بيد وبجنسه متماثلا كيلا قال القاضي : هو مكيل لا يباع إلا بالكيل لأنه العادة فيه ولا فرق بين أن يكونا حليبين أو حامضين أو أحدهما حليب والآخر حامض لأن تغيير الصفة لا يمنع جواز البيع كالجودة والرداءة وإن شيب أحدهما بماء أو غيره لم يجز بيعه بخالص ولا بمشوب من جنسه لأن معه من غير جنسه ليغير مصلحته .
فصل : ويتفرع من اللبن قسمان ما ليس فيه غيره كالزبد والسمن والمخيض واللبأ وما فيه غيره وكلامهما لا يجوز بيعه باللبن لأنه مستخرج من اللبن فلم يجز بيعه بأصله الذي فيه منه كالحيوان باللحم والسمسم بالشيرج وهذا مذهب الشافعي وعن أحمد أنه يجوز بيع اللبن بالزبد إذا كان الزبد المنفرد أكثر من الزبد الذي في اللبن وهذا يقتضي جواز بيعه به متفاضلا ومنع جوازه متماثلا قال القاضي : وهو الرواية لا تخرج على المذهب لأن الشيئين إذا دخلهما الربا لم يجز بيع أحدهما بالآخر ومعه من غير جنسه كمدة عجوة ودرهم بمدين والصحيح أن هذه الرواية دالة على جواز البيع في مسألة مدة عجوة وكونها مخالفة لروايات أخر لا يمنع كونها رواية كسائر الروايات المخالفة لغيرها لكنها مخالفة لظاهر المذهب والحكم في السمن كالحكم في الزبد وأما اللبن بالمخيض الذي فيه زبده فلا يجوز نص عليه أحمد فقال : اللبن بالمخيض لا خير فيه ويتخرج الجواز كالتي قبلها وأما اللبن باللبأ فإن كان قبل أن تمسه النار جاز متماثلا لأنه لبن بلبن وإن مسته النار لم يجز وذكر القاضي وجها أنه يجوز وليس بصحيح لأن النار عقدت أجزاء أحدهما وذهبت ببعض رطوبته فلم يجز بيعه بما لم تمسه النار كالخبز بالعجين والمقلية بالنيئة وهذا مذهب الشافعي وأما بيع النوع من فروع اللبن بنوعه فما فيه خلط من غير اللبن كالكشك والكامخ ونحوهما لا يجوز بيعه بنوعه ولا بغيره لأنه مختلط بغيره فهو كمسألة مد عجوة وما ليس فيه غيره أو فيه غيره إلا أن ذلك الغير لمصلحته فيجوز بيع كل نوع منه بعضه ببعض إذا تساويا في النشافة والرطوبة فيبيع المخيض بالمخيض واللبأ باللبأ والجبن بالجبن والمصل بالمصل والاقط بالاقط والزبد بالزبد والسمن بالسمن متساويا ويعتبر التساوي بين الاقط بالاقط بالكيل لأنه قدر بالصاع في صدقة الفطر وهو يشبه المكيلات وكذلك المصل والمخيض ويباع الخبز بالخبز بالوزن لأنه موزون ولا يمكن كيله فأشبه الخبز وكذلك الزبد والسمن ويتخرج أن يباع السمن بالكيل ولا يباع ناشف من ذلك برطب كما لا يباع الرطب بالتمر ويحتمل كلام الخرقي أن لا يباع رطب من ذلك برطب كاللحم وأما بيع ما نزع من اللبن بنوع آخر كالزبد والسمن والمخيض فظاهر المذهب أنه يجوز بيع الزبد والسمن بالمخيض مماثلا ومتفاضلا لأنهما جنسان وذلك لأنهما شيئان من أصل واحد أشبها اللحم بالشحم وممن أجاز بيع الزبد بالمخيض الثوري و الشافعي و إسحاق ولأن اللبن الذي في الزبد غير مقصود وهو يسير فأشبه الملح في الشيرج وبيع السمن بالمخيض أولى بالجواز لخلو السمن من المخيض ولا يجوز بيع الزبد بالسمن لأن في الزبد لبنا يسيرا ولا شيء في السمن فيختل التماثل ولأنه مستخرج من الزبد فلم يجز بيعه به كالزيتون بالزيت وهذا مذهب الشافعي وقال القاضي : عندي يجوز لأن اللبن في الزبد غير مقصود فوجوده كعدمه ولذلك جاز بيعه بالمخيض وبزبد مثله وهذا لا يصح لأن التماثل واجب بينهما وانفراد أحدهما بوجود اللبن فيه يخل بالتماثل فلم يجز بيعه به كتمر منزوع النوى بتمر فيه نواه ولأن أحدهما ينفرد برطوبة لا توجد في الآخر فأشبه الرطب بالتمر والعنب بالزبيب وكل رطب بيابس من جنسه ولا يجوز بيع شيء من الزبد والسمن والمخيض بشيء من أنواع اللبن كالجبن واللبأ ونحوهما لأنه هذه الأنواع لم ينتزع منها شيء فيكون حكمها حكم اللبن الذي فيه زبده فلم يجز بيعها بها كبيع اللبن بها وأما بيع الجبن بالاقط فلا يجوز مع رطوبتهما أو رطوبة أحدهما كما لا يجوز بيع الرطب بالتمر وإن كانا يابسين احتمل أن لا يجوز أيضا لأن الجبن موزون والاقط مكيل فلم يجزز بيع أحدهما بالآخر كالخبز بالدقيق ويحتمل الجواز إذا تماثلا كبيع الخبز بالخبز .
مسألة : قال : ولا يجوز بيع اللحم بالحيوان .
لا يختلف المذهب أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان من جنسه وهو مذهب مالك و الشافعي وقول فقهاء المدينة السبعة وحكي عن مالك أنه لا يجوز بيع اللحم ويجوز بغيره وقال أبو حنيفة : يجوز مطلقا لأنه باع مال الربا بما لا ربا فيه أشبه بيع اللحم بالدراهم أو بلحم من غير جنسه ولنا ما [ روي أن النبي A نهى عن بيع اللحم بالحيوان ] رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب عن النبي A قال ابن عبد البر : هذا أحسن أسانيده و [ روي عن النبي A أنه نهى أن يباع حي بميت ] ذكره الإمام أحمد وروي عن ابن عباس أن جزورا نحرت فجاء رجل بعناق فقال أعطوني جزاء بهذا العناق فقال أبو بكر : لا يصلح هذا قال الشافعي لا أعلم مخالفا لأبي بكر في ذلك وقال أبو الزناد وكل من ادركت ينهى عن بيع اللحم بالحيوان ولأن اللحم نوع فيه الربا بيع بأصله الذي فيه منه فلم يجز كبيع السمسم بالشيرج وبهذا فارق ما قاسوا عليه وأما بيع اللحم بحيوان من غير جنسه فظاهر كلام أحمد و الخرقي أنه لا يجوز فإن أحمد سئل عن بيع الشاة باللحم فقال : لا يصح لأن النبي A نهى أن يباع حي بميت واختار القاضي جوازه و للشافعي فيه قولان واحتج من منعه بعموم الأخبار وبأن اللحم كله جنس واحد ومن أجازه قال : مال الربا بيع بغير أصله ولا جنسه فجاز كما لو باعه بالأثمان وإن باعه بحيوان غير مأكول اللحم جاز في ظاهر قول أصحابنا وهو قول عامة الفقهاء