بيع السلعة الغائبة والبيعة بالصفة وخيار الرؤية .
فصل : وكلام الخرقي يحتمل أن يريد به بيوع الأعيان المرئية فلا يكون فيه تعرض لبيع الغائب ويحتمل أنه أراد كل ما يسمى خيارا فيدخل فيه خيار الرؤية وغيره وفي بيع الغائب روايتان أظهرهما أن الغائب الذي لم يوصف ولم تتقدم رؤيته لا يصح بيعه وبهذا قال الشعبي و النخعي و الحسن و الأوزاعي و مالك و إسحاق وهو أحد قولي الشافعي وفي رواية أخرى أنه يصح وهو مذهب أبي حنيفة والقول الثاني للشافعي وهل يثبت للمشتري خيار الرؤية ؟ على روايتين أشهرهما ثبوته وهو قول أبي حنيفة واحتج من أجازه بعموم قول الله تعالى : { أحل الله البيع } وروي عن عثمان وطلحة أنهما تبايعا داريهما بالكوفة والأخرى بالمدينة فقيل لعثمان إنك قد غبنت فقال : ما أبالي لأني بعت ما لم أره وقيل لطلحة فقال : لي الخيار لأنني اشتريت ما لم أره فتحاكما إلى جبير فجعل الخيار وهذا اتفاق منهم على صحة البيع ولأنه عقد معاوضة فلم تفتقر صحته إلى رؤية المعقود عليه كالنكاح ولنا ما [ روي عن النبي A أنه نهى عن بيع الغرر ] رواه مسلم ولأنه باع ما لم يره ولم يوصف له فلم يصح كبيع النوى في التمر ولأنه نوع بيع فلم يصح مع الجهل بصفة المبيع كالسلم والآية مخصوصة بالأصل الذي ذكرناه وأما حديث عثمان وطلحة فيحتمل أنهما تبايعا بالصفة على أنه قول صحابي وفي كونه حجة خلاف ولا يعارض به حديث رسول الله A والنكاح لا يقصد منه المعارضة ولا يفسد العوض ولا بترك ذكره ولا يدخله شيء من الخيارات وفي اشتراط الرؤية مشقة على المخدرات واضرار بهن على أن الصفات التي تعلم بالرؤية ليست هي المقصودة بالنكاح فلا يضر الجهل بها بخلاف البيع فإن قيل فقد روي [ عن النبي A أنه قال : من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذا رآه ] والخيار لا يثبت إلا في عقد صحيح قلنا : هذا يرويه عمر بن إبراهيم الكردي وهو متروك الحديث ويحتمل أنه بالخيار بين العقد عليه وتركه .
إذا ثبت هذا فإنه يشترط رؤية ما هو مقصود بالبيع كداخل الثوب وشعر الجارية ونحوهما فلو باع ثوبا مطويا أو عينا حاضرة لا يشاهد منها ما يختلف الثمن لأجله كان كبيع الغائب وإن حكمنا بالصحة فللمشتري الخيار عند رؤية المبيع في الفسخ والإمضاء ويكون على الفور فإن اختار الفسخ فله ذلك وإن لم يفسخ لزم العقد لأن الخيار خيار الرؤية فوجب أن يكون عندها وقيل يتقيد بالمجلس الذي وجدت الرؤية فيه لأنه خيار ثبت بمقتضى العقد من غير شرط فتقيد بالمجلس كخيار المجلس وإن اختار الفسخ قبل الرؤية انفسخ لأن العقد غير لازم في حقه فملك الفسخ كحالة الرؤية وإن اختار إمضاء العقد لم يلزم لأن الخيار يتعلق بالرؤية ولأنه يؤدي إلى إلزام العقد على المجهول فيفضي إلى الضرر وكذلك لو تبايعا بشرط أن لا يثبت الخيار للمشتري لم يصح الشرط لذلك وهل يفسد البيع بهذا الشرط ؟ على وجهين بناء على الشروط الفاسدة في البيع .
فصل : ويعتبر لصحة العقد الرؤية من البائع والمشتري جميعا وإن قلنا بصحة البيع مع عدم الرؤية فباع ما لم يره فله الخيار عند الرؤية وإن لم يره المشتري فلكل واحد منهما الخيار وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ليس له الخيار لحديث عثمان وطلحة ولأننا لو جعلنا له الخيار لثبت لتوهم الزيادة والزيادة في المبيع لا تثبت الخيار وكذلك لو باع شيئا على أنه معيب فبان غير معيب لم يثبت له الخيار ولنا أنه جاهل بصفة المعقود عليه فأشبه المشتري فأما الخبر فإنه قول جبير وطلحة وقد خالفهما عثمان وقوله أولى لأن البيع يعتبر فيه الرضا منهما فتعتبر الرؤية التي هي مظنة الرضا منهما .
فصل : وإذا وصف المبيع المشتري فذكر له من صفاته ما يكفي في صحة السلم صح بيعه في ظاهر المذهب وهو قول أكثر أهل العلم وعن أحمد لا يصح حتى يراه لأن الصفة لا تحصل بها معرفة المبيع فلم يصح البيع بها كالذي لا يصح السلم فيه ولنا أنه بيع بالصفة فصح كالسلم ولا نسلم أنه لا تحصل به معرفة المبيع فإنها تحصل بالصفات الظاهرة التي تختلف بها الثمن ظاهرا وهذا يكفي بدليل أنه يكفي في السلم وأنه لا يعتبر في الرؤية الإطلاع على الصفات الخفية وأما ما لا يصح السلم فيه فلا يصح بيعه بالصفة لأنه لا يمكن ضبطه بها إذا ثبت هذا فإنه متى وجده على الصفة لم يكن له الفسخ وبهذا قال محمد بن سيرين و أيوب و مالك و العنبري و إسحاق و أبو ثور و ابن المنذر وقال الثوري و أبو حنيفة وأصحابه : له الخيار بكل حال لأنه يسمى بيع خيار الرؤية ولأن الرؤية من تمام العقد فأشبه غير الموصوف ولأصحاب الشافعي وجهان كالمذهبين ولنا أنه سلم له المعقود عليه بصفاته فلم يكن له الخيار كالمسلم فيه ولأنه مبيع موصوف فلم يكن للعاقد فيه الخيار في جميع الأحوال كالسلم وقولهم إنه يسمى بيع خيار الرؤية لا نعرف صحته فإن ثبت فيحتمل أن يسميه من يرى ثبوت الخيار ولا يحتج به على غيره فأما إن وجده بخلاف الصفة فله الخيار ويسمى خيار الخلف في الصفة لأنه وجد الموصوف بخلاف الصفة فلم يلزمه كالسلم وإن اختلفا فقال البائع لم تختلف الصفة وقال المشتري قد اختلفت فالقول قول المشتري لأن الأصل براءة ذمته من الثمن فلا يلزمه ما لم يقر به أو يثبت ببينة أو ما يقوم مقامها .
فصل : والبيع بالصفة نوعان أحدهما : بيع عين معينة مثل أن يقول بعتك عبدي التركي ويذكر سائر صفاته فهذا ينفسخ العقد عليه برده على البائع وتلفه قبل قبضه لكون المعقود عليه معينا فيزول العقد بزوال محله ويجوز التفرق قبل قبض ثمنه وقبضه كبيع الحاضر .
الثاني : بيع موصوف غير معين مثل أن يقول بعتك عبدا تركيا ثم يستقصي صفات السلم فهذا في معنى السلم فمتى السلم إليه عبدا على غير ما وصف فرده أو على ما وصف فأبدله لم يفسد العقد لأن العقد لم يقع على غير هذا فلم ينفسخ العقد برده كما لو سلم إليه في السلم غير ما وصف له فرده ولا يجوز التفرق عن مجلس العقد قبض المبيع أو قبض ثمنه وهذا قول الشافعي لأنه بيع في الذمة فلم يجز التفرق فيه قبل قبض أحد العوضين كالسلم وقال القاضي : يجوز التفرق فبه قبل القبض لأنه بيع حال فجاز التفرق فيه قبل القبض كبيع العين .
فصل : إذا رأيا المبيع ثم عقدا البيع بعد ذلك بزمن لا تتغير العين فيه جاز في قول أكثر أهل العلم وحكي عن أحمد رواية أخرى لا يجوز حتى يرياها حاله العقد وحكي ذلك عن الحكم و حماد لأن ما كان شرطا في صحة العقد يجب أن يكون موجودا حال العقد كالشهادة في النكاح ولنا أنه معلوم عندهما أشبه ما لو شاهداه حالة العقد والشرط إنما هو العلم وإنما الرؤية طريق للعلم ولهذا اكتفى بالصفة المحصلة للعلم والشهادة في النكاح تراد لحل العقد والاستيثاق عليه فلهذا اشترطت حال العقد ويقرر ما ذكرناه ما لو رأيا دارا ووقفا في بيت منها أو أرضا ووقفا في طريقها وتبايعاها صح بلا خلاف مع عدم المشاهدة للكل في الحال ولو كانت الرؤية المشروطة للبيع مشروطة حال العقد لاشترط رؤية جميعه ومتى وجد المبيع بحاله لم يتغير لزم البيع وإن كان ناقصا ثبت له الخيار لأن ذلك كحدوث العيب وإن اختلفا في التغير فالقول قول المشتري مع يمينه لأنه يلزمه الثمن فلا يلزمه ما لم يعترف به فأما إن عقد البيع بعد رؤية المبيع بمدة يتحقق فيها فساد المبيع لم يصح البيع لأنه مما لا يصح بيعه وإن لم يتغير فيها لم يصح بيعه لأنه مجهول وكذلك إن كان الظاهر تغيره فأما إن كان يحتمل التغير وعدمه وليس الظاهر تغيره صح بيعه لأن الأصل السلامة ولم يعارضه ظاهر فصح بيعه كما لو كانت الغيبة يسيرة وهذا ظاهر مذهب الشافعي