خيار المجلس خيار المتبايعين .
أي باب خيار المتبايعين فحذف اخصارا .
مسألة : قال أبو القاسم C : والمتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما .
فصل : أحدها : أن البيع يقع جائزا ولكل من المتبايعين الخيار في فسخ البيع ماداما مجتمعين لم يتفرقا وهو قول أكثر أهل العلم يروى ذلك عن عمر وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأبي برزة وبه قال سعيد بن المسيب و شريح و الشعبي و عطاء و طاوس و الزهري و الأوزاعي و ابن أبي ذئب و الشافعي و إسحاق و أبو عبيد و أبو ثور وقال مالك وأصحاب الرأي : يلزم العقد بالإيجاب والقبول ولا خيار لهما لأنه روي عن عمر Bه : البيع صفقة أو خيار ولأنه عقد معاوضة فلزم بمجرده كالنكاح والخلع ولنا ما روى ابن عمر [ عن رسول الله A أنه قال : إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع وإن لم لم يتفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع ] متفق عليه و [ قال A : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ] رواه الأئمة كلهم ورواه عبد الله بن عمر و عبد الله و حكيم بن حزام و أبو برزة الأسلمي واتفق على حديث ابن عمر و حكيم ورواه عن نافع عن ابن عمر مالك و أيوب و عبيد الله بن عمر و ابن جريج و الليث بن سعد و يحيى بن سعيد وغيرهم وهو صريح في حكم المسألة وعاب كثير من أهل العلم على مالك مخالفته للحديث مع روايته له وثبوته عنده وقال الشافعي C : لا أدري هل أتهم مالك نفسه أو نافعا ؟ وأعظم أن أقول عبد الله بن عمر وقال ابن أبي ذئب : يستتاب مالك في تركه لهذا الحديث فإن قيل المراد : بالتفرق ههنا التفرق بالأقوال كما قال الله تعالى : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } و [ قال النبي A : ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ] أي بالأقوال والاعتقادات قلنا : هذا باطل لوجوه منها : أن اللفظ لا يحتمل ما قالوه إذ ليس بين المتبايعين تفرق بلفظ ولا اعتقاد إنما بينهما اتفاق على الثمن والمبيع بعد الاختلاف فيه الثاني : إن هذا يبطل فائدة الحديث إذ قد علم أنهما بالخيار قبل العقد في إنشائه وإتمامه أو تركه الثالث : إنه قال في الحديث : [ إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ] فجعل لهما الخيار بعد تبايعهما وقال : [ وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع ] الرابع : أنه يرده تفسير ابن عمر للحديث بفعله فإنه كان إذا بايع رجلا مشى خطوات ليلزم البيع وتفسير أبي برزة له بقوله على مثل قولنا وهما راويا الحديث وأعلم بمعناه وقول عمر : البيع صفقة أو خيار معناه أن البيع ينقسم إلى بيع شرط فيه الخيار وبيع لم يشترط فيه سماه صفقة لقصر مدة الخيار فيه فإنه روى عنه أبو إسحاق الجوزجاني مثل مذهبنا ولو أراد ما قالوه لم يجز أن يعارض به قول النبي A فلا حجة في قول أحد مع قول رسول الله A وقد كان عمر إذا بلغه قول النبي A رجع عن قوله فكيف يعارض قوله بقوله ؟ على أن قول عمر ليس بحجة إذا خالفه بعض الصحابة وقد خالفه ابنه و أبو برزة وغيرهما ولا يصح قياس البيع على النكاح لأن النكاح لا يقع غالبا إلا بعد روية ونظر وتمكث فلا يحتاج إلى الخيار بعده ولأن في ثبوت الخيار فيه مضرة لما يلزم من رد المرأة بعد ابتذالها بالعقد وذهاب حرمتها بالرد وإلحاقها بالسلع المبيعة فلم يثبت فيه خيار لذلك ولهذا لم يثبت فيه خيار الشرط ولا خيار الرؤية والحكم في هذه المسألة ظاهر لظهور دليله ووهاء ما ذكره المخالف في مقابلته والله أعلم .
الفصل الثاني : أن البيع يلزم بتفرقهما لدلالة الحديث عليه ولا خلاف في لزومه بعد التفرق والمرجع في التفريق إلى عرف الناس وعادتهم فيما يعدونه تفرقا لأن الشارع علق عليه حكما ولم يبينه فدل ذلك على أنه أراد ما يعرفه الناس كالقبض والإحراز فإن كنا في فضاء واسع كالمسجد الكبير والصحراء فبأن يمشي أحدهما مستديرا لصاحبه خطوات وقيل : هو أن يبعد منه بحيث لا يسمع كلامه الذي يتكلم به في العادة قال أبو الحارث : سئل أحمد عن تفرقه الأبدان فقال : إذا أخذ هذا كذا وهذا كذا فقد تفرقا وروى مسلم عن نافع قال : فكان ابن عمر إذا بايع فأراد أن لا يقيله مشى هنيهة ثم رجع وإن كانا في دار كبيرة ذات مجالس وبيوت فالمفارقة من بيت إلى بيت أو إلى مجلس أو صفة أو من مجلس إلى بيت أو نحو ذلك فإن كانا في دار صغيرة فإذا صعد أحدهما السطح أو خرج منها فقد فارقه وإن كانا في سفينته صغيرة خرج أحدهما منها ومشى وإن كانت كبيرة صعد أحدهما على أعلاها ونزل الآخر في أسفلها وهذا كله مذهب الشافعي فإن كان المشتري هو البائع مثل أن يشتري لنفسه من مال ولده أو اشترى لولده من مال نفسه لم يثبت فيه خيار المجلس لأنه تولى طرفي العقد فلم يثبت له خيار كالشفيع ويحتمل أن يثبت فيه ويعتبر مفارقة مجلس العقد للزومه لأن الافتراق لا يمكن ههنا لكون البائع هو المشتري ومتى حصل التفرق لزم العقد قصدا ذلك أو لم يقصداه علماه أو جهلاه لأن النبي A علق الخيار على التفرق وقد وجد ولو هرب أحدهما من صاحبه لزم العقد لأنه فارقه باختياره ولا يقف لزوم العقد على رضاهما ولهذا كان ابن عمر يفارق صاحبه ليلزم البيع ولو أقاما في المجلس وسدلا بينهما سترا أو بنيا بينهما حاجزا أو ناما أو قاما فمضيا جميعا ولم يتفرقا فالخيار بحاله وإن طالت المدة لعدم التفرق وروى أبو داود و الأثرم بإسنادهما عن أبي الرضى قال : غزونا غزوة لنا فنزلنا منزلا فباع صاحب لنا فرسا بغلام ثم أقاما بقية يومهما وليلتهما فلما أصبحا من الغد فحضر الرحيل قام إلى فرسه يسرجه فندم فأتى الرجل وأخذه بالبيع فأبى الرجل أن يدفع إليه فقال : بيني وبينك أبو برزة صاحب رسول الله A فأتيا أبا برزة في ناحية العسكر فقالا له هذه القصة فقال : أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله A ؟ [ قال رسول الله A : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ] ما أراكما افترقتما فإن فارق أحدهما الآخر مكرها احتمل بطلان الخيار لوجود غايته وهو التفرق ولأنه لا يعتبر رضاه في مفارقة صاحبه له فكذلك في مفارقته لصاحبه وقال القاضي : لا ينقطع الخيار لأنه حكم علق عليه الطلاق ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين فعلى قول من لا يرى انقطاع الخيار إن أكره أحدهما على فرقة صاحبه انقطع خيار صاحبه كما لو هرب منه وفارقه بغير رضاه ويكون الخيار للمكره منهما في المجلس الذي يزول عنه فيه الإكراه حتى يفارقه وإن أكرها جميعا انقطع خيارهما لأن كل واحد منهما ينقطع خياره بفرقة الآخر له فأشبه ما لو أكره صاحبه دونه وذكر ابن عقيل من صور الإكراه ما لو رأيا سبعا أو ظالما خشياه فهربا فزعا منه أو حملهما سيل أو فرقت ريح بينهما .
فصل : وإن خرس أحدهما قامت إشارته مقام لفظه إن لم تفهم إشارته أو جن أو أغمي عليه قام وليه من الأب أو وصيه أو الحاكم مقامه وهذا مذهب الشافعي وإن مات أحدهما بطل خياره لأنه قد تعذر منه الخيار والخيار لا يورث وأما الباقي منهما فيبطل خياره أيضا لأنه يبطل بالتفرق والتفرق بالموت أعظم ويحتمل أن لا يبطل لأن التفرق بالأبدان لم يحصل فإن حمل الميت بطل الخيار لأن الفرقة حصلت بالبدن والروح معا .
فصل : وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده [ أن النبي A قال : البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار فلا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله ] رواه النسائي و الأثرم و الترمذي وقال : حديث حسن وقوله : إلا أن تكون صفقته خيار يحتمل أنه أراد البيع المشروط فيه الخيار فإنه لا يلزم بتفرقهما ولا يكون تفرقهما غاية للخيار فيه لكونه ثابتا بعد تفريقهما ويحتمل أنه أراد البيع الذي شرطا فيه أن لا يكون بينهما فيه خيار فيلزم بمجرد العقد من غير تفرق وظاهر الحديث تحريم مفارقة أحد المتبايعين لصاحبه خشية من فسخ البيع وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية الأثرم فإنه ذكر له فعل ابن عمر وحديث عمرو بن شعيب فقال : هذا الآن قول النبي A وهذا اختيار أبي بكر وذكر القاضي أن ظاهر كلام أحمد جواز ذلك لأن ابن عمر كان إذا اشترى شيئا يعجبه فارق صاحبه متفق عليه والأول أصح لأن قول النبي A يقدم على فعل ابن عمر والظاهر أن ابن عمر لم يبلغه هذا ولو علمه لما خالفه .
الفصل الثالث : أن ظاهر كلام الخرقي أن الخيار يمتد إلى التفرق ولا يبطل بالتخاير قبل العقد ولا بعده وهو إحدى الروايتين عن أحمد لأن أكثر الروايات عن النبي A : [ البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ] من غير تقييد ولا تخصيص وهكذا رواه حكيم بن حزام و أبو برزة وأكثر الروايات عن عبد الله بن عمر والرواية الثانية : أن الخيار يبطل بالتخاير اختارها الشريف ابن أبي موسى وهذا مذهب الشافعي وهو أصح لقول النبي A في حديث ابن عمر : [ فإن خير أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع ] يعنى لزم وفي لفظ : [ المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يكون البيع كان عن خيار فإن كان البيع عن خيار فقد وجب البيع ] متفق عليه والأخذ بالزيادة أولى والتخاير في ابتداء العقد وبعده في المجلس واحد فالتخاير في ابتدائه أن يقول بعتك ولا خيار بيننا ويقبل الآخر على ذلك فلا يكون لهما خيار والتخاير بعده أن يقول كل واحد منهما بعد العقد اخترت امضاء العقد أو ألزمه أو اخترت العقد أو أسقطت خياري فيلزم العقد من الطرفين وإن اختار أحدهما دون الآخر لزم في حقه وحده كما لو كان خيار الشرط لهما فاسقط أحدهما خياره دون الآخر وقال أصحاب الشافعي : في التخاير في ابتداء العقد قولان أظهرهما لا يقطع الخيار لأنه إسقاط للحق قبل سببه فلم يجز كخيار الشفعة فعلى هذا هل يبطل العقد بهذا الشرط ؟ على وجهين بناء على الشروط الفاسدة .
ولنا قوله عليه السلام : [ فإن خير أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع ] وقوله : [ إلا أن يكون البيع كان عن خيار فإن كان البيع عن خيار وجب البيع ] وهذا صريح في الحكم فلا يعول على ما خالفه ولأن ما أثر في الخيار في المجلس أثر فيه مقارنا للعقد كاشتراط الخيار ولأنه أحد الخيارين في البيع فجاز إخلاؤه عنه كخيار الشرط وقولهم : إنه إسقاط للخيار قبل سببه ليس كذلك فإن سبب الخيار البيع المطلق فأما البيع مع التخاير فليس بسبب له ثم لو ثبت أنه سبب الخيار لكن المانع مقارن له فلم يثبت حكمه وأما الشفيع فإنه أجنبي من العقد فلم يصح اشتراط إسقاط خياره في العقد بخلاف مسألتنا فإن قال أحدهما لصاحبه : اختر ولم يقل الآخر شيئا فالساكت منهما على خياره لأنه لم يوجد منه ما يبطل خياره وأما القائل فيحتمل أن يبطل خياره لما روى ابن عمر [ أن النبي A قال : البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ] أو يقول أحدهما لصاحبه اختر رواه البخاري و أبو داود و النسائي ولأنه جعل لصاحبه ما ملكه من الخيار فسقط خياره وهذا ظاهر مذهب الشافعي ويحتمل أن لا يبطل خياره لأنه خيره فلم يختر فلم يؤثر فيه كما لو جعل لزوجته الخيار فلم تختر شيئا ويحتمل الحديث على أنه خيره فاختار والأول أولى لظاهر الحديث ولأنه جعل الخيار لغيره ويفارق الزوجة لأنه ملكها ما لا تملك فإذا لم تقبل سقط وههنا كل واحد منهما يملك الخيار فلم يكن قوله تمليكا إنما كان إسقاطا فسقط