حكم عطب الهدي الواجب وغير الواجب .
مسألة : قال : ومن ساق هديا واجبا فعطب دون محله صنع به ما شاء وعليه مكانه .
الواجب من الهدي قسمان : أحدهما وجب بالنذر في ذمته والثاني : وجب بغيره كدم التمتع والقران والدماء الواجبة بترك واجب أو فعل محظور وجميع ذلك ضربان : أحدهما أن يسوقه ينوي به الواجب الذي عليه من غير أن يعينه بالقول فهذا لا يزول ملكه عنه إلا بذبحه ودفعه إلى أهله وله التصرف فيه بما شاء من بيع وهبة وأكل وغير ذلك لأنه يتعلق حق غيره به وله نماؤه وإن عطب تلف من ماله وإن تعيب لم يجزئه ذبحه وعليه الهدي الذي كان واجبا فإن وجوبه في الذمة فلا يبرأ منه إلا بإيصاله إلى مستحقه بمنزلة من عليه دين فحمله إلى مستحقه يقصد بدفعه إليه فتلف قبل أن يوصله إليه الضرب الثاني : أن يعين الواجب عليه بالقول فيقول : هذا الواجب علي فإنه يتعين الوجوب فيه من غير أن تبرأ الذمة منه لأنه لو أوجب هديا ولا هدي عليه لتعين فإذا كان واجبا فعينه فكذلك إلا أنه مضمون عليه فإن عطب أو سرق أو ضل أو نحو ذلك لم يجزه وعاد الوجوب إلى ذمته كما لو كان لرجل عليه دين فاشترى به منه مكيلا فتلف قبل قبضه انفسخ البيع وعاد الدين إلى ذمته ولأن ذمته لم تبرأ من الواجب بتعيينه وإنما تعلق الوجوب بمحل آخر فصار كالدين يضمنه ضامن أو يرهن به رهنا فإنه يتعلق الحق بالضامن والرهن مع بقائه في ذمة المدين فمتى تعذر استيفاؤه من الضامن أو تلف ارهن بقي الحق في الذمة بحاله وهذا كله لا نعلم فيه مخالفا وإن ذبحه فسرق أو عطب فلا شيء عليه قال أحمد : إذا نحر فلم يطعمه حتى سرق لا شيء عليه لأنه إذا نحر فقد فرغ وبهذا قال الثوري و ابن القاسم صاحب مالك وأصحاب الرأي وقال الشافعي : عليه الاعادة لأنه لم يوصل الحق إلى مستحقه فأشبه ما لو لم يذبحه .
ولنا أنه أدى الواجب عليه فبرئ منه كما لو فرقه ودليل أنه أدى الواجب لأنه لم يبق إلا التفرقة وليست واجبة بدليل أنه لو خلى بينه وبين الفقراء أجزأه ولذلك لما نحر النبي A البدنات قال : [ من شاء اقتطع ] وإذا عطب هذا المعين أو تعيب عيبا يمنع الأجزاء لم يجزه ذبحه عما في الذمة لأن عليه هديا سليما ولم يوجد وعليه مكانه ويرجع هذا الهدي إلى ملكه فيصنع به ما شاء من أكل أو بيع وهبة وصدقة وغيره هذا ظاهر كلام الخرقي وحكاه ابن المنذر عن أحمد و الشافعي و إسحاق و أبي ثور وأصحاب الرأي ونحوه عن عطاء وقال مالك يأكل ويطعم من أحب من الأغنياء والفقراء ولا يبيع منه شيئا ولنا ما روى سعيد ثنا سفيان عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس قال : إذا أهديت هديا تطوعا فعطب فانحره ثم غمس النعل في دمه ثم اضرب بها صفحته فإن أكلت أو أمرت به عرفت وإذا أهديت هديا واجبا فعطب فانحره ثم كله إن شئت واهده إن شئت وبعه إن شئت وتقو به في هدي آخر ولأنه متى كان له أن يأكل ويطعم الأغنياء فله أن يبيع لأنه ملكه روري عن أحمد أنه يذبح المعيب وما في ذمته جميعا ولا يرجع المعين إلى ملكه لأنه تعلق بحق الفقراء بتعيينه فلزم ذبحه كما لو عينه بنذره ابتداء .
فصل : وإن ضل المعين فذبح غيره ثم وجده أو عين غير الضال بدلا عما في الذمة ثم وجد الضال ذبحها معا روي ذلك عن عمر وابنه وابن عباس وفعلته عائشة وبه قال مالك و الشافعي و إسحاق ويتخرج على قولنا فيما إذا تعيب الهدي فإن له أن يصنع به ما شاء أو يرجع إلى ملك أحدهما لأنه قد ذبح ما في الذمة فلم يلزمه شيء آخر كما لو عطب المعين وهذا قول أصحاب الرأي ووجه الأول ما روي عن عائشة Bها أنها أهدت هديين فأضلتهما فبعث إليها ابن الزبير هديين فنحرتهما ثم عاد الضالان فنحرتهما وقالت هذه سنة الهدي رواه الدارقطني وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله A ولأنه تعلق حق الله بهما بإيجابهما أو ذبح أحدهما وإيجاب الآخر .
فصل : وإن عين معيبا عما في ذمته لم يجزئه ولزمه ذبحه على قياس قوله في الأضحية إذا عينها معيبة لزمه ذبحها ولم يجزه وإن عين صحيحا فهلك أو تعيب بغير تفريطه لم يلزمه أكثر مما كان واجبا في الذمة لأن الزائد لم يجب في الذمة وإنما تعلق بالعين فسقط بتلفها لأصل الهدي إذا لم يجب بغير التعيين وإن أتلفه أو تلف بتفريطه لزمه مثل المعين لأن الزائد تعلق به حق الله تعالى وإذا فوته لزمه ضمانه كالهدي المعين ابتداء .
فصل : ويحصل الإيجاب بقوله هذا هدي أو بتقليده وإشعاره ناويا به الهدي وبهذا قال الثوري و إسحاق ولا يجب بالشراء مع النية ولا بالنية المجردة في قول أكثر أهل العلم قولا أبو حنيفة : يجب بالشراء مع النية ولنا أنه إزالة ملك على ووجه القربة فلم يجب بالنية كالعتق والوقف .
فصل : إذا غصب شاة فذبحها عن الواجب عليه لم يجزه سواء رضي مالكها أو لم ير أو عوضه عنها أو لم يعوضه وقال أبو حنيفة : يجزئه إن رضي مالكها ولن أن هذا لم يكن قربة في ابتدائه فلم يصر قربة في أثنائه كما لو ذبحه للأكل ثم نوى التقرب وكما لو أعتق ثم نواه عن كفارته .
مسألة : قال : وإن كان ساقه تطوعا نحره موضعه وخلى بينه وبين المساكين ولم يأكل منه هو ولا أحد من أهل رفقته ولا بدل عليه .
وجملة ذلك أن من تطوع بهدي غير واجب ولم يخل من حالين أحدهما : أن ينويه هديا ولا يوجب بلسانه ولا بإشعاره وتقليده فهذا لا يلزمه امضاؤه وله أولاده ونماؤه والرجوع فيه متى شاء ما لم يذبحه لأنه نوى الصدقة بشيء من ماله فأشبه ما لو نوى الصدقة بدرهم الثاني : أن يوجب بلسانه هذا هدي أو يقلده أو يشعره ينوي بذلك اهداءه فيصير واجبا معينا يتعلق الوجوب بيعنيه دون ذمة صاحبه ويصير في يدي صاحبه كالوديعة يلزمه حفظه وإيصاله إلى محله فإن تلف بغير تفريط منه أو سوق أو ضل لم يلزمه شيء لأن لم يجب في الذمة إنما تعلق الحق بالعين فسقط بتلفها بغير تفريط كالوديعة وقد روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر Bهما قال : [ سمعت رسول الله A يقول : من أهدى تطوعا ثم ضلت فليس عليه البدل إلا أن يشاء فإن كان نذرا فعليه البدل ] وفي رواية قال : [ من أهدى تطوعا ثم عطب فإن شاء أبدل وإن شاء أكل وإن كان نذرا فليبدل ] فأما أن أتلفه أو تلف بتفريطه فعليه ضمانه لأنه أتلف واجبا لغيره فضمنه كالوديعة وإن خاف عطبه أو عجز عن المشي وصحبه الرفاق نحره موضعه وخلى بين وبين المساكين ولم يبح له أكل شيء منه ولا لأحد من صحابته وإن كانوا فقراء ويستحب له أن يضع نعل الهدي المقلد في عقنه في دمه ثم يضرب به صفحته ليعرفه الفقراء فيعلموا أنه هدي وليس بميتة فيأخذوه وبهذا قال الشافعي و سعيد بن جبير وروي عن ابن عمر أن أكل من هدية الذي عطب ولم يقض مكانه قوال مالك : يباح برفقته ولسائر الناس غير صاحب أو سائقه ولا يأمر أحدا يأكل منه فإن أكل أو أمر من أكل أو حز شيئا من لحمه ضمنه واحتج ابن عبد البر لذلك بما روى هشام بن عورة عن أبيه [ عن ناجية بنت كعب صاحب بدن رسول الله A أنه قال : يا رسول الله كيف أصنع بما عطب من الهدي ؟ قال : انحره ثم اغمس قلائده في دمه ثم اضرب بها صفحة عنقه ثم حل بنيه وبين الناس ] قال وهذا أصح من حديث ابن عباس وعليه العمل عند الفقهاء ويدخل في عموم قوله : وخل بينه وبين الناس رفقته غيرهم .
لونا ما [ روى ابن عباس أن ذؤيبا أبا قبيصة حدثه أن رسول الله A كان يبعث معه البدن ثم يقول : إن عطب منها شيء فخشيت عليها فانحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب به صفحتها ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك ] رواه مسلم وفي لفظ رواه الإمام أحمد : [ ويخليها والناس ولا يأكل منها هو ولا أحد من أصحابه ] وقال سعيد : حدثنا اسماعيل بن إبراهيم عن أبي التياح عن موسى بن سلمة [ عن رسول الله A أنه بعث بثماني عشرة بدنة مع رجل وقال : إن ازدحف عليك منها شيء فانحرها ثم اصبغ نعلها في دمها ثم اضرب بها في صفحتها ولا تأكل أنت ولا أحد من أهل رفقتك ] وهذا صحيح متضمن للزيادة ومعنى خاص فيجب تقديمه على عموم ما خالفه ولا تصح التسوية بين رفقته وبين سائر الناس لأن الإنسان يشفق على رفقته يوجب التوسعة عليهم وربما وسع عليهم من مؤنته وإنما منع السائق ورفقته من الأكل منها لئلا يقصر في حفظها فيعطبها ليأكل هو ورفقته منها فتحلقه التهمة في عطبها لنفسه ورفقته فحرموها لذلك فإن أكل منها أو باع أو أطعم غنيا أو رفقته ضمنه بمثله لحما وإن أتلفها أو تلف بتفريطه أ خاف عطبها فلم ينحرها حتى هلكت فعلي ضمانها بما يوصله إلى فقراء الحرم لأنه لا يتعذر عليه إيصال الضمان إليهم بخلاف العاطب وإن أطعم منها فقيرا أو أمره بالأكل منها فلا ضمان عليه لأنه أوصله إلى المستحق فأشبه ما لو أطعم فقيرا بعد بلوغه محله وإن تعيب ذبحه وأجزأه وقال أبو حنيفة : لا يجزئه إلا أن يحدث العيب به بعد اضجاعه للذبح ولنا أنه لو عطب لم يلزمه شيء فالعيب أولى لأن العطب يذهب بجميعه والعيب ينقصه ولأنه عيب حدث بعد وجوبه فأشبه ما لو حدث بعد اضجاعه وإن تعيب بفعل آدمي فعليه ما نقصه من القيمة يتصدق به وقال أبو حنيفة : يباع جميعه ويشترى هدي وبنى ذلك على أنه لا يجزئ وقد بينا أنه مجزئ