طواف الوداع .
مسألة : قال : فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت يطوف به سبعا ويصلي ركعتين إذا فرغ من جميع أموره حتى يكون آخر عهده بالبيت .
وجملة ذلك أن من أتى مكة لا يخلو إما أن يريد الإقامة بها أو الخروج منها فإن أقام بها فلا وداع لأن الوداع من المفارق لا من الملازم سواء نوى الإقامة قبل النفر أو بعده وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : إن نوى الإقامة بعد أن حل له النفر لم يسقط ولا يصح لأنه غير مفارق فلا يلزمه وداع كمن نواها قبل حل النفر وإنما [ قال النبي A : لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت ] وهذا ليس بنافر فأما الخارج من مكة فليس له أن يخرج حتى يودع البيت بطواف سبع وهو واجب من تركه لزمه دم وبذلك قلا الحسن و الحكم و حماد و الثوري و إسحاق و أبو ثور وقال الشافعي في قول له : لا يجب بتركه شيء لأنه يسقط عن الحائض فلم يكن واجبا كطواف القدوم ولأنه كتحية البيت أشبه طواف القدوم .
ولنا ما روى ابن عباس قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض متفق عليه ولمسلم قال : [ كان الناس ينصرفون كل وجه فقال الرسول الله صلى الله عليه وسل : لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت ] وليس في سقوطه عن المعذور ما يجوز سقوطه لغيره كالصلاة تسقط عن الحائض وتجب على غريها بل تخصيص الحائض بإسقاطه عنها دليل على وجوبه على غيرها إذ لو كان ساقطا عن الكل لم يكن لتخصيصها بذلك معنى وإذا ثبت وجوبه فإنه ليس بركن بغير خلاف وذلك سقط عن الحائض ولم يسقط طواف الزيارة ويسمى طواف الوداع لأنه لتوديع البيت وطواف الصدر لأنه عند صدور لانا من مكة يسقط طواف الزيارة ويسمى طواف الوداع لأنه لتوديع البيت وطواف الصدر لأنه عند صدور الناس من مكة ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره ليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله ولذلك [ قال النبي A حتى يكون آخر عهده بالبيت ] .
فصل : ومن كان منزله في الحرم لهو كالمكي لا وداع عليه ومن كان منزله خارج الحرم قريبا منه فظاهر كلام الخرقي أنه لا يخرج حتى يودع البيت وهذا قول أبي ثور وقياس قول مالك ذكره ابن القاسم وقال أصحاب الرأي في أهل بستان ابن عامر وأهل المواقيت إنهم بمنزلة أهل مكة في طواف الوداع لأنهم معدودون من حاضري المسجد الحرام بدليل سقوط دم المتعة عنهم .
ولنا عموم قوله A : [ لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت ] ولأنه خارج من مكة فلزمه التوديع كالبعيد .
فصل : فإن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج فيه روايتان : إحداهما : يجزئه عن طواف الوداع لأنه أمر أن يكون آخر عهده بالمبيت وقد فعل ولأن ما شرع لتحية المسجد أجزأ عنه الواجب من جنسه كتحية المسجد بركعتين تجزئ عنهما المكتوبة وعنه لا يجزئه عن طواف الودع لأنهما عبادتان واجبتان فلم تجز إحداهما عن الأخرى كالصلاتين الواجبتين .
مسألة : قال : فإن ودع واشتغل في تجارة عاد فودع .
قد ذكرنا أن طواف الوداع إنما يكون عند خروجه ليكون آخر عهده بالبيت فإن طاف للوداع ثم اشتغل بتجارة أو إقامة فعليه إعادته وبهذا قال عطاء و مالك و الثوري و الشافعي و أبو ثور وقال أصحاب الرأي : إذا طاف للوداع أو طاف تطوعا بعدما حل له النفر أجزأه عن طواف الوداع إن قام شهرا أو أكثر لأن طاف بعدما حل له النفر فلم يلزمه إعادته كما لو نفر عقيبه .
ولنا قوله عليه السلام : [ لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت ] ولأنه إذا أقام بعده خرج عن أن يكون وداعا في العادة فلم يجزه كما لو طافه قبل حل النفر فأما إن قضى حاجة في طريقه أو اشترى زادا أو شيئا لنفسه في طريقه لم يعده لأن ذلك ليس بإقامة تحرج طوافه عن أن يطوف آخر عهده بالبيت وبهذا قال مالك و الشافعي ولا نعلم مخالفا لهما .
مسألة : قال : فإن خرج قبل الوداع رجع إن كان بالقرب وإن بعد بعث بدم .
هذا قول عطاء و الثوري و الشافعي و إسحاق و أبي ثور والقريب هو الذي بينه وبين مكة دون مسافة القصر والبعيد من بلغ مسافة القصر نص عليه أحمد وهو قول الشافعي وكان عطاء يرى الطائف قريبا وقال الثوري : حد ذلك الحرم فمن كان في الحرم فهو قريب ومن خرج منه فهو بعيد ووجه القول الأول أن من دون مسافة القصر في حكم الحاضر في أنه لا يقصر ولا يفطر ولذلك عددناه من حاضري المسجد الحرام وقد وري أن عمر رد رجلا من مر إلى مكة ليكون آخر عهده بالبيت رواه سعيد وإن لم يمكنه الرجوع لعذر فهو كالبعيد ولو لم يرجع القريب الذي يمكنه الرجوع لم يكن علي أكثر من دم ولا فرق بين تركه عمدا أو خطأ لعذر أو غيره لأنه من واجبات الحج فاستوى عمده وخطؤه والمعذور ويغره كسائر واجباته فإن رجع البعيد فطف للوداع فقال القاضي : لا يسقط عند الدم لأنه قد استقر عليه الدم ببلوغه مسافة القصر فلم تسقط برجوعه كمن تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه ثم رجع إليه وإن رجع القريب فطاف فلا دم لعيه سواء كان ممن له عذر يسقط عنه الرجوع أو لا لأن الدم لم يستقر عليه لكونه في حكم الحاضر ويحتمل سقوط الدم عن البعيد برجوعه لأنه واجب أتى به فلم يجب عليه بدله كالقريب .
فصل : إذا رجع البعيد فينبغي أن لا يجوز له تجاوز الميقات إن كان جاوزه إلا محرما لأنه ليس من أهل الأعذار فيلزمه طواف لإحرامه بالعمرة والسعي وطواف لوداعه وفي سقوط الدم عنه ما ذكرنا من الخلاف وإن كان دون الميقات أحرم من موضعه فأما إن رجع القرب فظاهر قول من ذكرنا قوله أنه لا يلزمه إحرام لأنه رجع لإتمام نسك مأمور به فأشبه من رجع لطواف الزيارة فإن ودع خرج ثم دخل مكة لحاجة فقال أحمد : أحب إلي ألا يدخل إلا محرما وأحب إلي إذا خرج أن يودع البيت بالطواف وهذا لأنه لم يدخل لإتمام السنك إنما دخل غير متكررة فأشبه من يدخلها للإقامة بها .
مسألة : قال : والمرأة إذا حاضت قبل أن تودع خرجت ولا وداع عليها ولا فدية .
هذا قول عامة فقهار الأمصار وقد روي عن عمر وابنه أنهما أمرا الحائض بالمقام لطواف الوداع وكان زيد بن ثابت يقول به ثم رجع فروى مسلم أن زيد ين ثابت خالف ابن عباس في هذا قال طاوس : كنت مع ابن عباس إذا قال زيد بن ثابت يفتي : أن لا تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت فقال له ابن عباس : إما لا تسأل فلانه الأنصارية هل أخرها رسول الله A بذلك ؟ قال : فرجع زيد إلى ابن عباس يضحك وهو يقول : ما أراك إلا قد صدقت وروي عن ابن عمر أنه رجع إلى قول الجماعة أيضا وقد ثبت التخفيف عن الحائض بحديث صفية حين [ قالوا : يا رسول الله إنها حائض فقال : أحابستنا هي ؟ قالوا : يا رسول الله إنه قد أفاضت يوم النحر قال فلتنفر إذا ] ولا أمرها بفدية ولا غيرها وفي حديث ابن عباس إلا أنه خفف عن المرأة الحائض والحكم في النفساء كالحكم في الحائض لأن أحكام النفاس أحكام الحيض فيما يوجب ويسقط .
فصل : وإذا نفرت الحائض بغير وداع فطهرت قبل مفارقة البنيان رجعت فاغتسلت وودعت لأنه في حكم الإقامة بدليل أنها لا تسبيح الرخص فإن لم يمكنها الإقامة فمضت أو مضت لغير عذر فعليها دم وإن فارقت البنيان لم يجب الرجوع إذا كانت قريبة كالخارج من غير عذر قلنا هناك ترك واجبا فلم يسقط بخروجه حتى يصير إلى مسافة القصر لأنه يكون إنشاء سفر طويل غير الأول وها هنا لم يكن واجبا ولا يثبت وجوبه ابتداء إلا في حق من كان مقيما .
فصل : ويستحب أن يقف المودع في الملتزم وهو ما بين الركن والباب فيلزمه يلصق به صدره ووجهه ويدعو الله D لما روى أبو داود [ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : طفت مع عبد الله فلما جاء دبر الكعبة قلت : ألا تتعوذ ؟ قال : نعوذ بالله من النار ثم مضى حتى استلم الحجر فقام بين الركن والباب فوضع صدره ووجهه وذراعيه كفيه هكذا وبسطها بسطا وقال : هكذا رأيت رسول الله A يفعله ] و [ عن عبد الرحمن بن صفوان قال : لما فتح رسول الله A مكة انطلقت فرأيت رسول الله A قد خرج من الكعبة هو وأصحابه قد استلموا الركن من الباب إلى الحطيم ووضعوا خدودهم على البيت ورسول الله A وسطهم ] رواه أبو داود وقال منصور : سألت مجاهدا إذا أردت الوداع كيف أصنع ؟ قال : تطوف بالبيت سبعا وتصلي ركعتين خلف المقام ثم تأتي زمزم فتشرب من مائها ثم تأتي الملتزم ما بين الحجر والباب فتستلمه ثم تدعو ثم تسأل حاجتك ثم تستلم الحجر وتنصرف قال بعض أصحابنا : ويقول في دعائه : اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك حملتني على ما سخرت لي من خلقك وسيرتني في بلادك حتى بلغتني نعمتك إلى بيتك واعتني على أداء نسكي فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي في غي مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك للهم فاصحبني العافية في بدني والصحة في جسمي والعصمة في ديني وأحس منقلبي وارزقني طاعتك أبدا ما أبقيني واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة إنك على كل شيء قدير وعن طاوس قال : رأي إعرابيا أتى الملتزم فتعلق باستار الكعبة فقال : بك أعود وبك ألوذ اللهم فاجعل لي في اللهف إلى جودك والرضاء بضمانك مندوحا عن منع الباخلين وغني عما في أيدي المستأثرين اللهم بفرجك القريب ومعروفك القديم وعادتك الحسنة ثم أضلني في الناس فلقيته بعرفات قائما وهو يقول ك اللهم إن كنت لم تقبل حجتي وتعبي ونصبي فلا تحرمني أجر المصاب على مصيبته فلا أعلم مصيبة ممن ورد حوضك وانصرف محروما من وجه رغبتك وقال آخر : يا خير موفود إلهي قد ضعفت قوتي وذهبت منتي وأتيت إليك بذنوب لا تغسلها البحار أستجير برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك رب ارحم من شملته الخطايا وغمرته الذنوب وظهرت منه العيوب ارحم أسير ضر وطريد فقر أسألك أن تهب لي عظيم جرمي يا مستزادا ومستعاذا من نقمة ارحم صة حزين دعاك بزفير وشهيق اللهم إن كنت بسطت إليك يدي داعيا فطالما كفيتني ساهيا فبنعمتك التي تظاهرت علي عند الغفلة لا أيأس منها عند التوبة فإن تقطع رجائي منك لما قدمت من اقتراف وهب لي الإصلاح في الولد والأمن في البلد والعافية في الجسد إنك سميع مجيب اللهم إن لك علي حقوقا فتصدق بها علي وللناس قبلي تبعات فتحملها عني وقد أوجبت لكل ضيف قرى وأنا ضيفك الليلة فاجعل قراي الجنة اللهم إن سائلك عند بابك من ذهبت أيامه وبقيت آثامه وانقطعت شهوته وبقيت تبعته فارض عنه وإن لم ترض عنه فاعف عنه فقد يعفو السيد عن عبده وهو عنه غير راض ثم يصلي على النبي A والمرأة إذا كانت حائضا لم تدخل المسجد ووقفت على بابه فدعت بذلك .
فصل : قال أحمد : إذا ودع البيت يقوم عند الباب إذا خرج ويدعو فإذا ولى لا يقف ولا يلتفت بالبيت ويصلي فإذا انصرف خرج ثم استقبل القبلة فقام فقال : ما كنت أحسب يصنع هذا اليهود والنصارى قال أبو عبد الله أكره ذلك وقول أبي عبد الله إن التفت رجع فودع على سبيل الاستحباب إذ لا نعلم لإيجاب ذلك عليه دليلا وقد قال مجاهد : إذا كدت تخرج من باب المسجد فالتفت ثم انظر إلى الكعبة ثم قل : اللهم لا تجعله آخر العهد .
مسألة : قال : ومن ترك طواف الزيارة رجع من بلده حراما حتى يطوف بالبيت .
وجملة ذلك أن طواف الزيارة ركن الحج لا يتم إلا به ولا يحل من إحرامه حتى يفعله فإن رجع إلى بلده قبله لم ينفك إحرامه ورجع متى أمكنه محرما لا يجزئه غير ذلك وبذلك عطاء و الثوري و مالك و الشافعي و إسحاق و أبو ثور وأصحاب الرأي وابن المنذر : وقال الحسن : يحج من العام المقبل وحكي نحو ذلك عن عطاء قولا ثانيا وقال : يأتي عاما قابلا من حج أو عمرة .
ولنا قول النبي A حين ذكر له أن صفية حاضت [ قال : أحابستنا هي ؟ قيل إنها قد أفاضت يوم النحر قال : فلتنفر إذا ] يدل على أن هذا الطواف لا بد منه وأنه حابس لمن لم يأت به فإن نوى التحلل ورفض إحرامه لم يحل بذلك لأن الإحرام لا يخرج منه بنية الخروج ومتى رجع إلى مكة فطاف بالبيت حل بطوافه لأن الطواف لا يفوت وقته على ما أسلفناه .
فصل : فإن ترك بعض الطواف فهو كما لو ترك جميعه فيما ذكرنا وسواء ترك شوطا أو أقل أو أكثر وهذا قول عطاء ومالك والشافعي وإسحاق وأبي ثور وقال أصحاب الرأي : من طاف أربعة أشواط من طواف الزيارة أو طواف العمرة وسعى بين الصفا والمروة ثم رجع إلى الكوفة إن سعيه يجزئه وعليه دم لما ترك من الطواف بالبيت .
ولنا ما أتى به لا يجزئه إذا كان بمكة فلا يجزئه إذا خرج منها كما لو طاف دون الأربعة أشواط .
فصل : وإذا ترك طواف الزيارة بعد رمي جمرة العقبة فلم يبق محرما إلا عن النساء خاصة لأنه قد حصل له التحلل الأول برمي جمرة العقبة فلم يبق محرما إلا عن النساء خاصة وإن وطئ لم يفسد حجه ولم تجب عليه بدنه لكن عليه دم ويجدد إحرامه ليطوف في إحرام صحيح قال أحمد : من طاف للزيارة أو أخترق الحجر في طوافه ورجع إلى بغداد فإنه يرجع لأه على بقية إحرامه فإن وطئ النساء أحرم من التنعيم على حديث ابن عباس وعليه دم وهذا كما قلنا .
مسألة : قال : وإن كان طاف للوداع لم يجزئه لطواف الزيارة .
وإنما لم يجزه عن طواف الزيارة لأن تعيين النية شرط فيه على ما ذكرناه فمن طاف للوداع فلم يعين النية له فكذلك لم يصح