التلبية حكمها صيغتها والاحوال والمواضع التي تتأكد فيها وعقب الصلوات .
مسألة : قال : فإذا استوى على راحلته لبى .
التلبية في الإحرام مسنونة لأن النبي A فعلها وأمر برفع الصوت بهما وأقل أحوال ذلك الاستحباب و [ سئل النبي A أي الحج أفضل ؟ قال : العج والثج ] وهذا حديث غريب ومعنى العج رفع الصوت بالتلبية والثج اسالة الدماء بالذبح والنحر وروى سهل بن سعد قال : [ قال رسول الله A : ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ههنا وههنا ] رواه ابن ماجة وليست واجبة وبهذا قال الحسن بن حي والشافعي وعن أصحاب مالك أنها واجبة يجب بتركها دم وعن الثوري وأبي حنيفة أنها من شرط الإحرام لا يصح إلا بها كالتكبير للصلاة لأن ابن عباس قال في قوله تعالى { فمن فرض فيهن الحج } قال ابن عباس : الإهلال وعن عطاء وطاوس وعكرمة هو التلبية ولأن النسك عبادة ذات إحرام وإحلال فلكان فيها ذكر واجب كالصلاة .
ولنا أنها ذكر فلم تجب في الحج كسائر الأذكار وفارق الصلاة فإن النطق يجب في آخرها فوجب في أولها والحج بخلافه ويستحب البداية بها إذا استوى على راحلته لما روى أنس وابن عمر [ أن النبي A لما ركب راحلته واستوت به أهل ] رواهما البخاري و [ قال ابن عباس : أوجب رسول الله A الإحرام حين فرغ من صلاته فلما ركب راحلته واستوت به قائمة أهل ] يعني لبى ومعنى الإهلال رفع الصوت بالتلبية من قولهم : استهل الصبي إذا صاح والأصل فيه أنهم كانوا إذا رؤي الهلال صاحوا فيقال استهل الهلال ثم قيل لكل صائح مستهل وإنما يرفع الصوت بالتلبية .
فصل : ويرفع صوته بالتلبية لما وري [ عن النبي A أنه قال : أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية ] رواه النسائي و أبو داود و الترمذي وقال : حديث حسن صحيح قال أنس : سمعتهم يصرخون بها صراخا وقال أبو حازم : كان أصحاب رسول الله صلى الله عله وسلم لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم من التلبية وقال سالم : كان ابن عمر يرفع صوته بالتلبية فلا يأتي الروحاء حتى يصحل صوته ولا يجهد نفسه في رفع الصوت زيادة على الطاقة لئلا ينقطع صوته وتلبيه .
مسألة : قال : فيقول لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك .
هذه تلبية رسول الله A جاء في الصحيحين [ عن ابن عمر أن تلبية رسول الله A : لبيك اللهم لبيك : لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ] رواه البخاري عن عائشة ومسلم عن جابر والتلبية مأخوذة من لب بالمكان إذا لزمه فكأنه قال : أنا مقيم على طاعتك وأمرك غير خارج عن ذلك ولا شارد عليك هذا أو ما أشبهه وثنوها وكرروها لأنهم أرادوا اقامة بعد اقامة : كما قالوا : حنانيك أي رحمة بعد رحمة أو رحمة مع رحمة أو ما أشبهه وقال جماعة من أهل العلم : معنى التلبية إجابة نداء إبراهيم عليه السلام حين نادى بالحج وروي عن ابن عباس قال : لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قيل له : أذن في الناس بالحج فقال : رب وما يبلغ صوتي قال : اذن وعلي البلاغ فنادى إبراهيم : أيها الناس كتب عليكم الحج قال : فسمعه ما بين السماء والأرض أفلا ترى الناس يجيئون من أقطار الأرض يلبون ويقولون : لبيك إن الحمد ( بكسر الألف ) نص عليه أحمد والفتح جائز إلا أن الكسر أجود قال ثعلب : من قال أن بفتحها فقد خص ومن قال بكسر الألف فقد عم يعني أن من كسر جعل الحمد لله على كل حال ومن فتح فمعناه لبيك لأن الحمد لك أي لهذا السبب .
فصل : ولا يستحب الزيادة على تلبية رسول الله A ولا تكره ونحو ذلك قال الشافعي و ابن المنذر : وذلك لقول جابر : [ فأهل رسول الله A بالتوحيد لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ] وأهل الناس بهذا الذي يهلون ولزم رسول الله A تلبيته وكان ابن عمر يلبي بتلبية رسول الله A ويزيد مع هذا لبيك لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل متفق عليه وزاد عمر : لبيك ذا النعماء والفضل لبيك لبيك مرهوبا ومرغوبا إليك لبيك هذا معناه رواه الأثرم ويروى أن أنسا كان يزيد لبيك حقا حقا تعبدا ورقا وهذا يدل على أنه لا بأس بالزيادة ولا تستحب لأن النبي A لزم تلبيته فكررها ولم يزد عليها وقد روي أن سعيدا سمع بعض بني أخيه وهو يلبي : يا ذا المعارج فقال أنه لذو المعارج وما هكذا كما نلبي على عهد رسول الله A .
فصل : ويستحب ذكر ما أحرم به في تلبيته قال أحمد : إن شئت لبيت بالحج وإن شئت لبيت بالحج والعمرة وإن شئت بعمرة وإن لبيت بحج وعمرة بدأت بالعمرة فقلت : لبيك بعمرة وحجة وقال أبو الخطاب : لا يستحب ذلك وهو اختيار ابن عمر وقول الشافعي لأن جابرا قال : ما سمي النبي A في تلبيته حجا ولا عمرة وسمع ابن عمر رجلا يقول : لبيك بعمرة فضرب صدره وقال تعلمه ما في نفسك .
ولنا ما روى أنس قال [ سمعت رسول الله A يقول : لبيك عمرة وحجا ] وقال جابر : [ قدمنا مع النبي A ونحن نقول : لبيك بالحج ] وقال ابن عباس : [ قدم رسول الله A وأصحابه وهم يلبون بالحج ] وقال ابن عمر [ بدأ رسول الله A فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج ] متفق على هذه الأحاديث وقال أنس : سمعتهم يصرخون صراخا رواه البخاري وقال سعيد : [ خرجنا مع النبي A نصرخ بالحج فحللنا فلما كان يوم التروية لبينا بالحج وانطلقنا إلى منى ] وهذه الأحاديث أصح وأكثر من حديثهم وقول ابن عمر يخالفه قول أبيه فإن النسائي روى بإسناده عن الضبي بن معبد أنه أول ما حج لبى بالحج والعمرة جميعا ثم ذكر ذلك لعمر فقال : هديت لسنة نبيك وإن لم يذكر ذلك في تلبيته فلا بأس فإن النية محلها القلب والله عالم بها .
فصل : وإن حج عن غيره كفاه مجرد النية عنه قال أحمد : لا بأس بالحج عن الرجل ولا يسميه وإن ذكره في التلبية فحسن قال أحمد : إذا حج عن رجل يقول أول ما يلبي : عن فلان ثم لا يبالي أن يقول بعد وذلك لقول النبي A للذي سمعه يلبي عن شبرمة : [ لب عن نفسك ثم لبي عن شبرمة ] ومتى أتى بهما جميعا بدأ بذكر العمرة نص عليه أحمد في مواضع وذلك لقول أنس [ إن النبي A قال : لبيك بعمرة وحج ] .
مسالة : قال : ثم لا يزال يلبي إذا علا نشزا أو هبط واديا وإذا التقت الرفاق وإذا غطى رأسه ناسيا وفي دبر الصلوات المكتوبة .
يتسحب استدامة التلبية والإكثار منها على كل حال لما روى ابن ماجة عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : [ قال رسول الله A : ما من مسلم يضحي لله يلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت بذنوبه فعاد كما ولدته أمه ] وهي أشد استحبابا في المواضع التي سمى الخرقي لما روى جابر قال : [ كان رسول الله A يلبي في حجته إذا لقي راكبا أو علا أكمة أو هبط واديا وفي ادبار الصلوات المكتوبة ومن آخر الليل ] وقال إبراهيم و النخعي : كانوا يستحبون التلبية دبر الصلاة المكتوبة وإذا هبط واديا وإذا علا نشزا وإذا لقي راكبا وإذا استوت به راحلته وبهذا قال الشافعي وقد كان قبل يقول مثل قول مالك : لا يلبي عند اصطدام الرفاق وقول النخعي يدل على أن السلف رحمهم الله كانوا يستحبون ذلك والحديث يدل عليه أيضا .
فصل : ويجزئ من التلبية في دبر الصلاة مرة واحدة قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله : ما شيء يفعله العامة يلبون في دبر الصلاة ثلاث مرات ؟ فتبسم وقال : ما أدري من أين جاؤوا به ؟ قلت : أليس التكبير في ادبار الصلوات في أيام الأضحى وأيام التشريق ولا بأس بالزيادة على مرة لأن ذلك زيادة ذكر وخير وتكراره ثلاثا حسن فإن الله وتر يحب الوتر .
فصل : ولا يستحب رفع الصوت بالتلبية في الأمصار ولا في مساجدها إلا في مكة والمسجد الحرام لما روي عن ابن عباس أنه سمع رجلا يلبي بالمدينة فقال : إن هذا المجنون إنما التلبية إذا برزت وهذا قول مالك وقال الشافعي : يلبي في المساجد كلها ويرفع صوته أخذا من عموم الحديث .
ولنا قول ابن عباس : ولأن المساجد إنما بنيت للصلاة وجاءت الكراهة لرفع الصوت فيها عاما إلا الإمام خاصة فوجب ابقاؤها على عمومها فأما مكة فتستحب التلبية فيها لأنه محل السنك وكذلك المسجد الحرام وسائر مساجد الحرم كمسجد منى وفي عرفات أيضا .
فصل : ولا يلبي بغير العربية إلا أن يعجز عنها لأنه ذكر مشروع فلا يشرع بغير العربية كالأذان والاذكار المشروعة في الصلاة .
فصل : ولا بأس بالتلبية في طواف القدوم وبه يقول ابن عباس و عطاء بن السائب و ربيعة بن عبد الرحمن و ابن أبي ليلى و داود و الشافعي وروي عن سالم بن عبد الله له أنه قال : لا يلبي حول البيت وقال ابن عيينة : ما رأينا أحدا يقتدي به يلبي حول البيت إلا عطاء بن السائب وذكر أبو الخطاب أنه لا يلبي وهو قول الشافعي لأنه مشتغل بذكر بخصه فكان أولى .
ولنا أنه زمن التلبية فلم يكره له كما لو لم يكن حول البيت ويمكن الجمع بين التلبية الذكر المشروع في الطواف ويكره له رفع الصوت بالتلبية لئلا يشغل الطائفين عن طوافهم واذكارهم وإذا فرع من التلبية صلى على النبي A ودعا بما أحب من خير الدنيا والآخرة لما روى الدارقطني بإسناده عن خزيمة بن ثابت [ أن رسول الله A كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله مغفرته ورضوانه واستعاده برحمته من النار ] وقال القاسم بن محمد : يستحب للرجل إذا فرغ من تلبيته أن يصلي على محمد A وجاء في التفسير في تأويل قوله تعالى : { ورفعنا لك ذكرك } لا أذكر إلا ذكرت معي ولأن أكثر المواضع التي شرع فيها ذكر الله تعالى شرع فيها ذكر نبيه عليه السلام كالأذان والصلاة .
فصل : ولا بأس أن يلبي الحلال وبه قال الحسن و النخعي و عطاء بن السائب و الشافعي و أبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي وكرهه مالك