باب ذكر الإحرام .
مسألة : قال أبو القاسم : ومن أراد الحج وقد دخل أشهر الحج فإذا بلغ الميقات فالاختيار له أن يغتسل .
قوله : وقد دخل أشهر الحج يدل على أنه لا ينبغي أن يحرم بالحج قبل أشهر وهذا هو الأول فإن الإحرام بالحج قبل أشهره مكروه لكونه إحراما به قبل وقته الإحرام به قبل ميقاته ولأن في صحته اختلافا فإن أحرم به قبل أشهره صح وإذا بقي على إحرامه إلى وقت الحج جاز نص عليه أحمد وهو قول النخعي و مالك و الثوري و أبي حنيفة و إسحاق وقال عطاء و طاوس و مجاهد و الشافعي : يجعله عمرة لقول الله تعالى : { الحج أشهر معلومات } تقديره وقت الحج أو أشهر الحج أشره معلومات فحذف المضاف وأقام المضاف إلى مقامه ومتى ثبت أنه وقته لم يجز تقديم إحرامه عليه كأوقات الصلوات .
ولنا قول الله تعالى : { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } فدل على أن جميع الأشهر ميقات ولأنه أحد نسكي القرآن فجاز الإحرام به في جميع السنة كالعمرة أو أحد الميقاتين فصح الإحرام قبله كميقات المكن والآية محمولة على أن الإحرام به إنما يستحب فيها .
وعلى كل حال فم أراد الإحرام استحب له أن يغتسل قبله في قول أكثر أهل العلم منهم طاوس و النخعي و مالك و الثوري و الشافعي وأصحاب الرأي لما روى خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه [ أنه رأى النبي A تجرد لإهلاله واغتسل ] رواه الترمذي وقال : حديث حسن غريب وثبت [ أن النبي A أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل عند الإحرام وأمر عائشة أن تغتسل عند الإهلال بالحج وهي حائض ] ولأنه هذه العبادة يجتمع لها الناس فسن لها الاغتسال كالجمعة وليس ذلك واجبا في قول عامة أهل العلم قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن الإحرام جائز بغير اغتسال وأنه غير واجب وحكي عن الحسن أنه قال : إذا نسي الغسل يغتسل إذا ذكره وقال الأثرام : سمعت أبا عبد الله قيل له عن بعض أهل المدينة : من ترك الغسل عند الإحرام فعليه دم لقول النبي A لأسماء وهي نفساء : اغتسلي فكيف الطاهر ؟ فأظهر التعجب من هذا القول وكان ابن عمر يغتسل أحيانا ويتوضأ أحيانا وأي ذلك فعل أجزأه ولا يجب الاغتسال ولا نقل الأمر به إلا الحائض أو نفساء ولو كان واجبا لأمر به غيرهما ولأنه لأمر مسقبل فأشبه غسل الجمعة .
فصل : فإن لم يجد ماء لم يسن له التيمم وقال القاضي : يتيمم لأنه غسل مشروع فناب عنه التيمم كالواجب ولنا أنه غسل مسنون فلم يستحب التيمم عند عدمه كغسل الجمعة وما ذكره منقض بغسل الجمعة ونحوه من الاغسال المسنونة والفرق بين الواجب والمسنون أن الواجب يراد لإباحة الصلاة والتيمم يقول مقامه في ذلك والمسنون يراد للتنظيف وقطع الرائحة والتيمم لا يحصل هذا بل يزيد شعثا وتغييرا ولذلك افترقا في الطهارة الصغرى فلم يشرع تجديد التيمم ولا تكرار المسح به .
فصل : ويستحب التنظيف بإزالة الشعث وقطع الرائحة ونتف الإبط وقص الشارب وقلم الأظفار وحلق العانة لأنه أمر يسن له الاغتسال والطيب فسن له هذا كالجمعة ولأن الإحرام يمنع قطع الشعر وقلم الأظفار فاستحب فعله قبله لئلا يحتاج إله في إحرامه فلا يتمكن منه .
مسألة : قال ويلبس ثوبين نظيفين .
يعني إزارا ورداء ف [ إن رسول الله A قال : وليحرم أحكم في إزار ورداء ونعلين ] قال ابن المنذر : ثبت ذلك عن رسول الله A وثبت أيضا [ أن رسول الله A قال : إذا لم يجد إزارا فليلبس السراويل وإذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين ] ولأن المحرم ممنوع من لبس المخيط في شيء من بدنه يعني بذلك ما يخاط على قدر الملبوس لعيه كالقميص والسراويل ولو لبس إزارا أو اتشح بثوب مخيط جاز ويستحب يكونا نظيفين إما جديدين وإما غسيلين لأننا أحببنا له التنظيف في بدنه فكذلك في ثيابه كشاهد الجمعة والأولى أن يكونا أبيضين لقول النبي A : [ خير ثيابكم البياض فألبسوها أحياءكم وكفنوا فيها موتاكم ] .
مسألة : قال : ويتطيب .
جملة ذلك أنه يستحب لمن أراد الإحرام أن يتطيب في بدنه خاصة ولا فرق بين ما يبقى عينه كالمسك والغالية أو أثره كالعود والبخور وماء الورد هذا قول ابن عباس وابن الزبير وسعيد بن أبي وقاص وعائشة وأم حبيبة ومعاوية وروي عن محمد الحنيفة و أبي سعيد الخدري و عروة و القاسم و الشعبي و ابن جريج وكان عطاء يكره ذلك وهو قول مالك وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر Bهم واحتج مالك بما روى يعلى بن أمية [ أن رجلا أتى النبي A : فقال يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب ؟ فسكت النبي A يعني ساعة ثم قال : اغسل الطيب الذي بك - ثلاث مرات - وانزع عنك الجبة واصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك ] متفق عليه ولأنه يمنع من ابتدائه فمنع استدامته كاللبس .
ولنا [ قول عائشة : كنت أطيب رسول الله A لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت قالت : وكأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله A وهو محرم ] متفق عليه وفي لفظ لمسلم [ طيبته بأطيب الطيب ] وقالت بطيب فيه مسك وفي لفظ للنسائي : [ كأني أنظر إلى وبيص طيب المسك في مفرق رسول الله A ] وحديثهم في بعض ألفاظه عليه وجبه بها أثر خلوق رواه مسلم وفي بعضها وهو متضمخ بالخوق وفي بعضها لعيه درع من زعفران وهذا الألفاظ تدل على أن طيب الرجل كان من زعفران وهو منهي عنه للرجال في غير الإحرام ففيه أولى وقد روى البخاري [ أن النبي A نهى أن يتزعفر الرجل ] ولأن حديثهم في سنة ثمان وحديثنا في عشر قال ابن جريج : كان شأن صاحب الجنة قبل حجة الوداع قال ابن عبد البر : لا خلاف بين جماعة أهل العلم بالسير والآثار أن قصة صاحب الجبة كانت عام حنين بالجعرانة سنة ثمان وحديث عائشة في حجة الوداع سنة عشر فعند ذلك أن قدر التعارض فحديثنا ناسخ لحديثهم فإن قيل فقد روى محمد بن المنتشر قال : سمعت ابن عمر ينهى عن الطيب عند الإحرام فقال : لأن أطلى بالقطران أحب إلي من ذلك قلنا تمام الحديث قال : فذكرت ذلك عائشة فقالت يرحم الله أبا عبد الرحمن قد كنت أطيب رسول والله A فيطوف في نسائه ثم يصبح ينضح طيبا فإذا صار الخبر حجة على من احتج ابتداءه دون استدامة .
فصل : وان طيب ثوبه فله استدامة لبسه ما لم ينزعه فإن نزعه لم يكن له أن يلبسه فإن لبسه افتدى لأن الإحرام يمنع ابتداء الطيب ولبس المطيب دون الاستدامة وكذلك إن نفل الطيب من موضع من بدنه إلى موضع آخر افتدى لأنه تطيب في إحرامه وكذا أن تعمد مسه بيده أو نحاه من موضعه ثم رده إليه فإما إن عرق الطيب أو ذاب بالشمس فسال من موضعه إلى موضع آخر فلا شيء عليه لأنه ليس من فعله فجرى مجرى الناسي [ قالت عائشة : كنا نخرج مع النبي A إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عند الإحرام فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراها النبي A فلا ينهاها ] رواه أبو داود .
مسألة : قال : فإن حضر صلاة مكتوب وإلا صلى ركعتين .
المستحب أن يحرم عقيب الصلاة فإن حضرت صلاة مكتوبة أحرم عقبيها وإلا صلى ركعتين تطوعا وأحرم عقيبهما استحب ذلك عطاء و طاوس و مالك و الشافعي و الثوري و أبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وقد وروي عن أحمد أنالإحرام عقيب الصلاة وإذا استوت به راحلته وإذا بدأ بالسير سواء لأن الجميع قد روي عن النبي A منطرق صحيحة قال الأثرم : سألت أبا عبد الله أيما أحب إليك : الإحرام في دبر الصلاة أو إذا استوت به راحلته ؟ فقال : لك ذلك قد جاء : في دبر الصلاة وإذا علا البيداء وإذا استوت به ناقته فوسع في ذلك كله قال ابن عباس : ركب النبي A راحلته حتى استوت عن البيداء أهل هو وأصحابه وقال أنس لما ركب راحلته واستوت به أهل وقال ابن عمر : أهل النبي A حين استوت به راحلته قائمة رواهن البخاري والأولى الإحرام عقيب الصلاة لما روى سعيد بن جبير قال : ذكرت لابن عباس اهلال رسول الله A فقال أوجب رسول الله A الإحرام حين فرغ من صلاته ثم خرج فلما ركب رسول لله A راحلته واستوت به قائمة أهل فأدرك ذلك مه قوم فقالوا : أهل حين استوت به الراحلة وذلك أنهم لم يدركوا إلا ذلك ثم سار حتى علا البيداء فأهل فأدرك ذلك منه قوم فقالوا : أهل حين علا البيداء رواه أبو داود و الأثرم وهذا لفظ الأثرم وهذا فيه بيان وزيادة علم فيتعين حمل الأمر عليه ولو لم يقله ابن عباس لتعين حمل الأمر عليه جميعا بين الأخبار المختلفة وهذا يدل على سبيل الاستحباب وكيفما أحرم جاز لا نعلم أحدا خالف في ذلك