الكتاب الثاني في قواعد كلية يتخرج عليها ما لا ينحصر من الصور الجزئية .
القاعدة الأولى .
الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد .
الأصل في ذلك إجماع الصحابة Bهم نقله ابن الصباغ و أن أبا بكر حكم في مسائل خالفه عمر فيها و لم ينقض حكمه و حكم عمر في المشتركة بعدم المشاركة ثم بالمشاركة و قال ذلك على ما قضينا و هذا على ما قضينا و قضى في الجد قضايا مختلفة .
و علته أنه ليس الاجتهاد الثاني بأقوى منا لأول فإنه يؤدي إلى أنه لا يستقر حكم و في ذلك مشقة شديدة فإنه إذا نقض هذا الحكم نقض ذلك النقض و هلم جرا .
و من فروع ذلك : .
لو تغير اجتهاده في القبلة عمل بالثاني و لا قضاء حتى صلى أربع ركعات لأربع جهات بالاجتهاد فلا قضاء .
و منها لو اجتهد فظن طهارة أحد الإناءين فاستعمله و ترك الآخر ثم تغير ظنه لا يعمل بالثاني بل يتيمم .
و منها لو شهد الفاسق فردت شهادته فتاب و أعادها لم تقبل لأن قبول شهادته بعد التوبة يتضمن نقض الاجتهاد بالاجتهاد كذا علله في التتمة .
و منها لو ألحقه القائف بأحد المتداعيين ثم رجع و ألحقه بالآخر لم يقبل .
و منها لو ألحقه قائف بأحدهما فجاء قائف آخر فألحقه بالآخر لم يلحق به لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد .
و منها لو حكم الحاكم بشيء ثم تغير اجتهاده لم ينقض الأول ط ن كان الثاني أقوى غير أنه في واقعة جديدة لا يحكم إلا بالثاني بخلاف ما لو تيقن الخطأ .
و منها حكم الحاكم في المسائل المجتهد فيها لا ينقض .
و لذلك أمثلة : .
منها الحكم بحصول الفرقة في اللعان بأكثر الكلمات الخمس و ببطلان خيار المجلس و العرايا و منع القصاص في المثقل و صحة نكاح الشغار و المتعة و أنه لا قصاص بين الرجل و المرأة في الأطراف و رد الزوائد مع الأصل في الرد بالعيب و جريان التوارث بين المسلم و الكافر و قتل الوالد بالولد و الحر بالعبد و المسلم بالذمي على ما صححه في أصل الروضة في الجميع و إن كان الصواب في الأخير النقض بمخالفته النص الصحيح الصريح .
و منها لو خالع زوجته ثلاثا ثم تزوجها الرابعة بلا محتل لاعتقاده أن الخلع فسخ ثم تغير اجتهاده و هو باق معها بذلك النكاح قال الغزالي : إن حكم حاكم بصحته لم تجب عليه مفارقتها و إن تغير اجتهاده لما يلزم في فراقها من تغير حكم الحاكم في المجتهدات قال : و إن لم يحكم حاكم ففيه تردد و المختار وجوب المفارقة لما يلزم في إمساكها من الوطء الحرام على معتقده .
الثاني قالوا و ما كره في حكم الحاكم مبني على أن حكمه ينفذ باطنا و إلا فلا يلزم من فراقه إياها نقض حكم الحاكم لأن هذا بالنسبة إلى أخذه في خاصة نفسه و امتناع نقض الحكم في المجتهدات لما تقدم ليظهر أثره في المتنازعين .
و على ذلك أيضا نبني ما حكاه ابن أبي الدم في أدب القضاء عن الأصحاب أن الحنفي إذا خلل خمرا فأتلفها عليه شافعي لا يعتقد طهارتها بالتخليل فترافعا إلى حنفي .
و ثبت ذلك عنده بطريقه فقضى على الشافعي بضمانها لزمه ذلك قولا واحدا حتى لو لم يكن للمدعي بينة و طالبه بعد ذلك بأداء ضمانها لم يجز للمدعى عليه أن يحلف أنه لا يلزمه شيء لأنه على خلاف ما حكم به الحاكم و الاعتبار في الحكم باعتقاد القاضي دون اعتقاده و كان هذا مفرع على نفوذ الحكم باطنا و إلا فيسوغ له الحلف و يزيده الخلاف فيما .
إذا حكم الحنفي للشافعي بشفعة الجوار هل تحل له ؟ .
تنبيهات .
الأول وقع في فتاوى السبكي أن امرأة وقفت دارا ذكرت أنها بيدها و ملكها و تصرفها على ذريتها و شرطت النظر لنفسه ثم لولدها و أشهد حاكم شافعي على نفسه بالحكم بموجب الإقرار المذكور و بثبوت ذلك عنده و بالحكم به و بعده شافعي آخر فأراد حاكم مالكي إبطال هذا الوقف بمقتضى شرطها النظر لنفسها و استمرار يدها عليها و بمقتض كون الحاكم لم يحكم بصحته و أن حكمه بالموجب لا يمنع النقض و أفتاه بعض الشافعية بذلك تعلقا بما ذكره الرافعي عن أبي سعيد الهروي في قول الحاكم صح ورود هذا الكتاب علي فقبلته قبول مثله و ألزمت العمل بموجبه أنه ليس بحكم و تصوب الرافعي ذلك .
قال السبكي : و الصواب عندي أنه لا يجوز نقضه : سواء اقتصر على الحكم بالموجب أم لا لأن كل شيء حكم فيه حاكم حكما صحيحا لا ينقض حكمه و أما من خص ذلك في الحكم بالصحة فلا .
و ليس هذا اللفظ في شيء من كتب العلم فليس من شرط امتناع النقض أن يأتي الحاكم بلفظ الحكم بالصحة .
قال و لأن الحكم بموجب الإقرار مستلزم للحكم بصحة الإقرار و صحة المقر به في حق المقر فإذا حكم المالكي ببطلان الوقف استلزم الحكم ببطلان الإقرار و ببطلان المقر به في حق المقر .
قال و لأن الاختلاف بين الحكم بالصحة و الموجب إنما يظهر فيما يكون الحكم فيه بالصحة مطلقا على كل أحد أما الإقرار فالحكم بصحته إنما هو على المقر و الحكم بموجبه كذلك .
قال : و أما ما نقله الرافعي عن الهروي فالضمير في قوله بموجبه عائد على الكتاب وموجب الكتاب صدور ما تضمنه من إقرار أو تصرف أو غير ذلك و قبوله و إلزام العمل به هو أنه ليس بزور و أنه مثبت الحجة غير مردود ثم يتوقف الحكم بها على أمور أخرى .
منها عدم معارضة بينة أخرى كما صرح به الهروي في بقية كلامه و غير ذلك و لذلك قال الرافعي الصواب أنه ليس بحكم و نحن نوافقه على ذلك في تلك المسالة .
أما مسألتنا هذه فالحكم بموجب الإقرار الذي هو مضمون الكتاب و لم يتكلم الرافعي و لا الهروي فيه بشيء فزال التعلق بكلامهما انتهى .
الثاني .
معنى قولهم الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد .
أي في الماضي و لكن يغير الحكم في المستقبل لانتفاء الترجيح الآن و لهذا يعمل بالاجتهاد الثاني في القبلة و لا ينقض ما مضى .
و في المطلب ما قاله الأصحاب في الخنثى : إذا تعارض البول مع الحيض فلا دلالة تقتضي أنه لو بال من فرج الرجل و حكمنا بذكورته ثم حاض في أوانه حكمنا بإشكاله إذ البول يتقدم إمكان الحيض .
قال و ما اقتضاه كلامهم مشكل لأنه نقض للاجتهاد بالاجتهاد .
قال الأسنوي : و الجواب عنه أن النقض الممتنع إنما هو في الأحكام الماضية و نحن لا نتعرض لها و إنما غيرنا الحكم لانتفاء المرجح الآن و صار كالمجتهد في القبلة و غيرها إذا غلب على ظنه دليل فأخذ به ثم عارضه دليل آخر فإنه يتوقف عن الأخذ به في المستقبل و لا ينقض ما مضى .
الثالث .
استثنى من القاعدة صور .
الأولى : للإمام الحمى و لو أراد من بعده نقضه فله ذلك في الأصلح لأنه للمصلحة و قد تتغير .
و منع الإمام الاستثناء و قال ليس مأخذ التجويز هذا و لكن حمى الأول كان للمصلحة و هي المتبع في كل عصر .
الثانية : لو قسم في قسمة إجبار ثم قامت بينة بغلط القاسم أو حيفه نقضت مع أن القاسم قسم باجتهاده فنقض القسمة بقول مثله و المشهود به مجتهد فيه مشكل و قد استشكله صاحب المطلب لذلك .
الثالثة : إذا قوم المقومون ثم اطلع على صفة زيادة أو نقص بطل تقويم الأول لكن هذا يشبه نقض الاجتهاد بالنص لا بالاجتهاد .
الرابعة : لو أقام الخارج بينة و حكم له بها و صارت الدار في يده ثم أقام الداخل بينة حكم له بها و نقض الحكم الأول لأنه إنما قضى للخارج لعدم حجة صاحب اليد هذا هو الأصح في الرافعي .
و قال الهروي : في الإشراف : قال القاضي حسين اشكلت في هذه المسألة منذ نيف و عشرين سنة لما فيها من نقض الاجتهاد بالاجتهاد و تردد جوابي ثم استقر رأي على أنه لا ينقض .
فائدة .
قال السبكي : إذا كان للحاكم أهلية الترجيح و رجح قولا منقولا بدليل جيد جاز و نفذ حكمه و إن كان مرجوحا عند أكثر الأصحاب ما لم يخرج عن مذهبه و ليس له أن يحكم بالشاذ الغريب في مذهبه و إن ترجح عنده لأنه كالخارج عن مذهبه فلو حكم بقول خارج عن مذهبه و قد ظهر له رجحانه فإن لم يشرط عليه الإمام في التولية .
التزام مذهب جاز و إن شرط عليه باللفظ أو العرف كقوله على قاعدة من تقدمه و نحو ذلك لم يصح الحكم لأن التولية لم تشمله .
و أفتى ابن عبد السلام : بأن الحاكم المعلوم المذهب إذا حكم بخلاف مذهبه و كان له رتبة الاجتهاد أو وقع الشك فيه فالظاهر أنه لا يحكم بخلاف مذهبه فينقض حكمه .
و قال الماوردي : إذا كان الحاكم شافعيا و أداه اجتهاده في قضية أن يحكم بمذهب أبي حنيفة جاز .
و منع منه بعض أصحابنا لتوجه التهمة إليه و لأن السياسة تقتضي مدافعة استقرار المذاهب و تمييز أهلها .
و منع منه بعض أصحابنا لتوجه التهمة إليه و لأن السياسة تقتضي مدافعة استقرار المذاهب و تمييز أهلها .
و قال ابن صلاح : لا يجوز لأحد أن يحكم في هذا الزمان بغير مذهبه فإن فعل نقض لفقد الاجتهاد في أهل الزمان .
خاتمة .
ينقض قضاء القاضي إذا خالف نصا أو إجماعا أو قياسا جليا .
قال القرافي : أو خالف القواعد الكلية قال الحنفية : أو كان حكما لا دليل عليه نقله السبكي في فتاويه .
قال : و ما خالف شرط الواقف فهو مخالف للنص و هو حكم لا دليل عليه سواء كان نصه في الوقف نصا أو ظاهرا .
قال : و ما خالف المذاهب الأربعة فهو كالمخالف للإجماع .
قال : و إنما ينقض حكم الحاكم لتبين خطئه .
و الخطأ قد يكون في نفس الحكم بكونه خالف نصا أو شيئا مما تقدم .
و قد يكون الخطأ في السبب كان يحكم ببينة مزورة ثم تبين خلافه فيكون الخطأ في السبب لا في الحكم .
و قد يكون الخطأ في الطريق كما إذا حكم ببينة ثم بان فسقها .
و في هذه الثلاثة : ينقض الحكم بمعنى أنا تبينا بطلانه فلو لم يتعين الخطأ بل حصل مجرد التعارض : كقيام بينة بعد الحكم بخلاف البينة التي ترتب الحكم عليها فلا نقل في المسألة .
و الذي يترجح : أنه لا ينقض لعدم تبين الخطأ