فصل : والحقوق ضربان : حق الله وحق الآدمي فأما حقوق الآدمين فعلى ثلاثة أضرب ضرب لا يقبل فيه إلا شاهدان ذكران أو رجل وامرأتان أو شاهد ويمين المدعي وهو ما كان القصد منه المال .
المقصود من هذه الجملة بيان عدد الشهود وصفتهم من الذكورة والأنوثة ولا شك أن الحقوق على ضربين : حق الله سبحانه وتعالى وحق الآدميين أما حق الله : فسيأتي إن شاء الله وأما حقوق الآدميين فهي على ثلاثة أضرب كما ذكره الشيخ : الأول ما هو مال أو كان المقصود منه المال أما المال كالأعيان والديون وأما ما كان المقصود منه المال وذلك كالبيع والإجارة والرهن والاقرار والغصب وقتل الخطأ ونحو ذلك فيقبل فيه رجلان أو رجل وامرأتان لقوله تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } فكان على عمومه إلا ما خصه دليل قال القاضي أبو الطيب : وهذا بالإجماع .
ثم لا فرق بين أن تتقدم شهادة الرجل على المرأتين أو تتأخر وسواء قدر على رجلين أو لم يقدر وكما يقبل في هذا الضرب رجل وامرأتان كذلك يقبل فيه شاهد ويمين المدعي لأنه صلى الله عليه سلم قضى بشاهد ويمين رواه مسلم من رواية ابن عباس وقال الماوردي ورواه من الصحابة عن النبي A ثمانية : علي وابن عباس وأبو هريرة وجابر وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي ابن كعب وزيد بن ثابت وسعد بن عبادة Bهم .
ولا فرق في ذلك بين أن يتمكن من البينة الكاملة أم لا لأنها حجة تامة وفيها وجه نعم يشترط أن يتغرض في يمينه لصدق شاهده فيقول : والله إن شاهدي فيما شهد به وإني لمستحق لكذا هذا هو الصحيح وقيل لا يشترط ذلك ويكفي الاقتصار على الاستحقاق لأن اليمين بمنزلة الشاهد الآخر ووجه مقابلة أن اليمين مع الشاهد حجتان مختلفتا الجنس فوجب ربط إحداهما بالأخرى ويجب تأخير اليمين على الشاهد وتعديله على الصحيح الذي قطع بن الجمهور والله أعلم .
فرع هل يقبل في الوقف ما يقبل في المال من رجل وامرأتين أو رجل ويمين ؟ فيه خلاف : الصحيح أنه يقبل ونص عليه الشافعي Bه وإن قلنا ينتقل إلى الله تعالى لأن المقصود من الوقف تمليك غلة للموقوف عليه وهي منفعة مالية فأشبه الإجارة ولو شهد بالسرقة رجل وامرأتان ثبت المال دون القطع على الصحيح وكذا لو شهد رجل وامرأتان على صداق في نكاح فإن يثبت الصداق لأنه المقصود والله أعلم قال : .
وضرب يقبل فيه شاهدان ذكران وهو النسب .
هذا هو الضرب الثاني وهو ما ليس بمال ولا يقصد منه المال وهو مما يطلع عليه الرجال كالنسب والنكاح والطلاق والعتاق والولاء والوكالة والوصية وقتل العمد الذي يقصد به القصاص وسائر الحدود غير حد الزنا وكذا الإسلام والردة أعاذنا الله منها والبلوغ وانقضاء العدة والعفو عن القصاص والإيلاء والظهار والموت والخلع من جانب المرأة والتدبير وكذا الكتابة في الأصح فلا يقبل في ذلك إلا رجلان والأصل في بعض ذلك قوله تعالى { حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم } وقال تعالى { فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم } قال A : [ لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل ] وقال ابن شهاب : مضت السنة من رسول الله A أنه لا تجوز شهادة النساء في الحدود ولا في النكاح ولا في الطلاق وفيه إرسال والله أعلم .
فرع ادعى شخص على آخر أنه غصبه مالا فقال : إن كنت غصبته فامرأتي طالق فأقام المدعي على الغاصب شاهدا وحلف معه أو رجلا وامرأتين ثبت الغصب وترتب عليه الضمان ولا يقع الطلاق كما لو قال : إن ولدت فأنت طالق فأقامت أربع نسوة على الولادة ثبت النسب والولادة ولا تطلق والله أعلم قال : .
وضرب لا يقبل فيه إلا أربع نسوة وهو ما لا يطلع عليه الرجال .
هذا هو الضرب الثالث وهو ما لا يطلع عليه الرجال ويختص النساء بمعرفته غالبا فيقبل فيها شهادتهن منفردات وذلك كالولادة والبكارة والثيوبة والرتق والقرن والحيض والرضاع وكذا عيوب المرأة من برص وغيره تحت الإزار حرة كانت أو أمة وكذا استهلال الولد على المشهور فكل هذا الضرب لا يقبل فيه إلا أربع نسوة واحتج لشهادتهن منفردات بقول الزهري : مضت السنة بأن تجوز شهادة النساء في كل شيء لا يليه غيرهن رواه عبد الرزاق عنه بمعناه ولأن الرجال لا يرون ذلك غالبا فلو لم تقبل منهن لتعذر إثباته واعتبار الأربع لأن الله تعالى أقام كل امرأتين حيث قبلت شهادة النساء مقام رجل وقال E : [ أما نقصان عقلهن فإن شهادة المرأتين بشهادة رجل واحد ] وإذا جاز شهادة النساء الخلص جاز شهادة رجل وامرأتين أو رجلين وهو أولى بالقبول والله أعلم .
فرع ما يثبت بشهادة النساء الخلص الأصح أنه لا يثبت بشاهد ويمين ولا بامرأتين ويمين وقيل يثبت في كل ذلك بامرأتين ويمين وكل ما يثبت بشهادة النساء المنفردات بالنسبة إلى الشهادة على الفعل لا تقبل فيه شهادتهن على الإقرار صرح به المتولي وغيره في الإقرار بالرضاع والله أعلم قال : .
وأما حقوق الله تعالى فلا تقبل فيها النساء وهي على ثلاثة أضرب : ضرب لا يقبل فيه أقل من أربعة وهو الزنا .
لا يقبل في حد الزنا واللواط وإتيان البهائم إلا أربعة من الرجال وحجة ذلك في الزنا واللواط قوله تعالى : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } وقوله تعالى : { لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء } وفي مسلم أن سعد بن عبادة Bه قال لرسول الله A : [ لو وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء ؟ قال : نعم ] ولأن الزنا واللواط من أعظم الفواحش فغلظ في الشهادة عليهما ليكون أستر للمحارم وأما إتيان البهائم فإنه إتيان فرج في فرج يوجب الغسل فأشبه الآدمي وقيل إن قلنا الواجب في إتيان البهائم التعزير وهو الراجح قيل فيه شاهدان لخروجه عن حكم الزنا وهذا ضعيف جدا لأن نقصان العقوبة لا يدل على نقصان الشهادة بدليل زنا الأمة فلو شهد ثلاثة بالزنا فهل يجب الحد على الشهود ؟ فيه خلاف الراجح أنهم يحدون لعدم تمام الحجة ولأنا لو لم نوجب الحد لاتخذ الناس الشهادة ذريعة إلى القذف فتستباح الأعراض بصورة الشهادة والله أعلم قال : .
وضرب يقبل فيه شاهدان وهو غير الزنا من الحدود .
وهذا هو الضرب الثاني من حقوق الله تعالى ولا مدخل للنساء فيه ولا يقبل فيه إلا رجلان كحد الشرب وقطع الطريق والقتل بالرد ونحو ذلك لقوله تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } وقياسا على النكاح والوصية والله أعلم قال : .
وضرب يقبل فيه شاهد واحد : وهو هلال رمضان .
لا يقبل الواحد إلا في هلال رمضان على الراجح واحتج له بقول ابن عمر Bهما [ تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله A أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه ] رواه أبو داود وابن حبان في صحيحه ورواه الدارقطني وأخرجه الحاكم في مستدركه وقال : صحيح على شرط مسلم ويستثنى مع مسألة الهلال مسألة أخرى ذكرها المتولي ونقلها عنه النووي في شرح المهذب فقال : فرع ذكر المتولي أنه لو مات كافر فشهد واحد أنه أسلم فلا يحكم بأنه مسلم في الإرث فيرثه الكافر لا المسلم وهل يحكم به في جواز الصلاة عليه ؟ قولان : كما في ثبوت هلال رمضان واستثنى الشيخ تاج الدين بن الفركاح مسألة نقلها عن الماوردي وهم فيها فليعلم ذلك والله أعلم قال : .
ولا تقبل شهادة الأعمى إلا في خمسة مواضع : النسب والموت والملك المطلق والترجمة وعلى المضبوط وما تحمله قبل العمى .
اعلم أن المشهود به قد يكون العلم به من جهة حاسة البصر وقد يكون من جهة حاسة السمع فبأي الجهتين حصل العلم جاز الاعتماد فيه على قبول الشهادة فما يستفاد العلم به بحاسة السمع ما طريقه الاستفاضة وذلك كالنسب والموت والملك المطلق لأن الشهادة والحالة هذه معتمدة على السماع فالأعمى والبصير في ذلك على السواء هذا هو الصحيح الذي قاله الجمهور وقيل لا تقبل شهادة الأعمى في ذلك لأن المخبرين لابد من العلم بعدالتهم والأعمى لا يشاهدهم فلا يعرف عدالتهم قال القاضي أبو الطيب : وهذا يعني القبول محمول على ما إذا سمع ذلك في دفعات وتكرر من قوم مختلفين في أزمان مختلفة حتى يتيقنه ويصير كالتواتر عنده ولا يجوز التحمل إلا على هذا الوجه وكما تجوز الشهادة في هذه المواضع كذلك تجوز شهادته في الترجمة على الأصح وكذا تجوز شهادة الأعمى على المضبوط وصورة المسألة : أن يقر شخص في أذنه بشيء فيمسكه إما بأن يضع يده على رأسه أو بأن يمسك بيده ويحمله إلى القاضي ويشهد عليه بما قاله في أذنه لحصول العلم بذلك هذا هو الأصح وفي وجه لا يقبل لجواز أن يكون المقر غيره وهو بعيد قال القاضي حسين : ومحل الخلاف إذا جمعهما مكان خال وألصق فاه بإذنه وضبطه فلو كان هناك جماعة وأقر في أذنه لم يقبل وكذلك تقبل شهادة الأعمى فيما تحمله قبل العمى بشرط أن يعرف اسم المشهود عليه ونسبه لأن الأعمى كالبصير في العلم بذلك والبصر له أن يشهد والحالة هذه وإن لم ير المشهود عليه لغيبة أو موت فكذلك الأعمى والله أعلم قلت : وأبدى ابن الصلاح احتمالا في إلحاق موضع سادس وهو أن يألف شخصا ويعرف صورته ضرورة فينبغي أن يجوز أن يشهد عليه لأنه يقين ولهذا قال أصحابنا : لو أن يشهد بالاستفاضة وهذا الذي قاله ابن الصباغ أورده بضعهم سؤالا وقال : ينبغي إذا عرف صوت شخص وألفه أن تسمع شهادته عليه كما أن له أن يطأ زوجته بمثل ذلك .
وأجيب بأن وطء الزوجة أحق بدليل أنه أبيح له الوطء اعتمادا على اللمس إذا عرف به علامة فيها ويقبل خبر الواحدة إذا زفتها إليه وقالت إنها زوجته ولا تجوز الشهادة بمثل ذلك والله أعلم .
فرع تقبل رواية الأعمى فيما تحمله قبل العمى بلا خلاف وكذا فيما تحمله بعد العمى على الأصح إذا حصلت الثقة الظاهرة بقوله وصحح الإمام مقابله .
فإن قلت : ما الفرق بين الرواية والشهادة ؟ فالجواب قال القرافي : بقيت زمانا أتطلب الفرق بالحقيقة فلم أجد الأكثرين يفرقون بالحكم كاشتراط العدالة والحرية والذكورة وحاصل الفرق أن المخبر عنه إن كان أمرا عاما لا يختص بمعين فهذه الرواية فإن اختص بمعين فهو شهادة كقول العدل للحاكم : لهذا على هذا كذا والله أعلم قال : .
ولا تجوز شهادة الجار لنفسه نفعا ولا الدافع عنها ضررا .
من شرط الشهادة عدم التهمة وللتهمة أسباب : منها أن يجر إلى نفسه نفعا وذلك كشهادة الوارث لمورثه بجراحة قيل الاندمال حيث كانت مما تسري لأن الشاهد هو مستحق موجب الجراحة فيصير شاهدا لنفسه وكذلك أيضا لا تصح شهادة الغرماء للمفلس بعد الحجر لأن حقوقهم تتعلق بما يثبتونه فتصير شهادة لأنفسهم وكذا لا تصح شهادة الوصي لليتيم والوكيل والموكل فيما فوض إليهما النظر فيه ونحو ذلك من الصور الكثيرة واحتج لذلك بقوله تعالى : { وأدنى أن لا ترتابوا } والريبة حاصلة هنا وبقوله A [ لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ] والظنين المتهم وهذا لا تقبل شهادة الدافع عن نفسه ضررا كشهادة العاقلة الأغنياء الأقربين على شهود القتل بالفسق للتهمة لأنهم يدفعون عن أنفسهم التحمل وكذا لا تقبل شهادة الضامن ببراءة الممضمون عنه قال الرافعي : وكذا شهادة المشتري شراء فاسدا بعد القبض بأن العين المبيعة لغير بائعة لما في ذلك من نقل الضمان وما أشبه ذلك والله أعلم قال :