جمع باغ والبغي الظلم ومجاوزة الحد سموا بذلك لظلمهم وعدولهم عن الحق كما يقال بغت المرأة إذا فجرت وافتتحه في المحرر بقوله تعالى " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا " الآية وليس فيها ذكر الخروج على الإمام لكنها تشمل لعمومها أو تقتضيه لأنه إذا طلب القتال لبغي طائفة على طائفة للبغي على الإمام أولى والإجماع منعقد على قتالهم .
قال الشافعي رضي الله تعالى عنه أخذت السيرة في قتال المشركين من النبي A وفي قتال المرتدين من أبي بكر رضي الله تعالى عنه وفي قتال البغاة من علي رضي الله تعالى عنه وقد عرف المصنف رضي الله تعالى عنه البغاة بقوله " هم " مسلمون " مخالفو الإمام " ولو جائرا وهم عادلون كما قاله القفال وحكاه ابن القشيري عن معظم الأصحاب وما في الشرح والروضة من التقييد بالإمام العادل وكذا هو في الأم والمختصر مرادهم إمام أهل العدل فلا ينافي ذلك ويدل لذلك قول المصنف في شرح مسلم إن الخروج على الأئمة وقتالهم حرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين لكن نوزع في الإجماع بخروج الحسين على يزيد بن معاوية وابن الزبير على عبد الملك بن مروان ومع كل منهما خلق كثير من السلف وقد يقال إن مراده الإجماع بعد ذلك وفرق بعضهم بين من تغلب على الإمامة فيجوز الخروج عليه إذا جار وبغى وبين من عقدت له الإمامة فلا يجوز .
وتحصل مخالفة الإمام بأحد أمرين إما " بخروج عليه " نفسه " و " إما بسبب " ترك الانقياد " له " أو " لا بهذين الأمرين بل بخروج عن طاعته بسبب " منع حق " مالي لله تعالى أو لآدمي أو غيره كقصاص أو حد " توجه عليهم " لأن الصديق رضي الله تعالى عنه قاتل مانعي الزكاة لمنعهم الزكاة ولم يخرجوا عليه وإنما منعوا الحق المتوجه عليهم وإنما يكون مخالفو الإمام بغاة " بشرط شوكة لهم " بكثرة أو قوة ولو بحصن بحيث يمكن معها مقاومة الإمام فيحتاج في ردهم إلى الطاعة لكلفة من بذل مال وتحصيل رجال " و " بشرط " تأويل " يعتقدون به جواز الخروج عليه أو منع الحق المتوجه عليهم لأن من خالف من غير تأويل كان معاندا للحق .
تنبيه : .
يشترط في التأويل أن يكون فاسدا لا يقطع بفساده بل يعتقدون به جواز الخروج كتأويل الخارجين من أهل الجمل وصفين على علي رضي الله تعالى عنه بأنه يعرف قتلة عثمان Bه ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لمواطأته إياهم وتأويل بعض مانعي الزكاة من أبي بكر رضي الله تعالى عنهم بأنهم لا يدفعون الزكاة إلا لمن صلاته سكن لهم وهو النبي A .
و .
بشرط " مطاع فيهم " أي متبوع يحصل به قوة لشوكتهم .
وإن لم يكن إماما منصوبا فيهم يصدرون عن رأيه إذ لا قوة لمن لا يجمع كلمتهم مطاع وهذا نقله الرافعي عن الإمام وظاهر كلامه أن المطاع شرط لحصول الشوكة لا أنه شرط آخر غير الشوكة كما يقتضيه تعبير الكتاب ولهذا لم يذكر في المحرر غير ( 4 / 124 ) شرطين وجعل المطاع قيدا في الشوكة " قيل و " يشترط " إمام منصوب " فيهم حتى لا تتعطل الأحكام بينهم وهذا ما نسبه الرافعي للجديد ونسبه الإمام للمعظم وجزم به جمع كثير .
تنبيه : ان أحدهما كلام المصنف يوهم اعتبار وجود شخصين على هذا الوجه وليس مرادا بل المراد أنه لا بد من مطاع وهل يشترط أن يكون منصوبا فيه وجهان أصحهما عند الأكثرين المنع لأن عليا رضي الله تعالى عنه قاتل أهل الجمل ولا إمام لهم وأهل صفين قبل نصب إمامهم وسكت المصنف عن شرط آخر وهو انفراد البغاة ببلدة أو قرية أو موضع من الصحراء كما نقله في الروضة وأصلها عن جمع وحكى الماوردي الاتفاق عليه .
الثاني ليس أهل البغي بفسقة كما أنهم ليسوا بكفرة لأنهم إنما خالفوا بتأويل جائز باعتقادهم لكنهم مخطئون فيه وليس اسم البغي ذما والأحاديث الواردة فيما يقتضي ذمهم كحديث من حمل علينا السلاح فليس منا وحديث من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وحديث من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فميتته جاهلية محمول على من خرج عن الطاعة بلا تأويل أو بتأويل فاسد قطعا فإن فقدت فيهم الشروط المذكورة بأن خرجوا بلا تأويل كما نعي حق الشرع كالزكاة عنادا أو بتأويل يقطع بفساده كتأويل المرتدين ومانعي حق الشرع كالزكاة الآن والخوارج أو لم يكن لهم شوكة بأن كانوا أفرادا يسهل الظفر بهم أو ليس فيهم مطاع فليسوا بغاة لانتفاء حرمتهم فيترتب على أفعالهم مقتضاها ولأن ابن ملجم قتل عليا متأولا بأنه وكيل امرأة قتل علي أباها فاقتص منه ولم يعط حكمهم في سقوط القصاص لانتفاء شوكته .
ولو أظهر قوم رأي الخوارج .
وهم قوم من المبتدعة يكفرون من ارتكب كبيرة ويطعنون بذلك في الأئمة ولا يحضرون معهم الجمعة والجماعات كما إشار إلى ذلك بقوله " كترك الجماعات وتكفير ذي " أي صاحب " كبيرة " ولم نكفرهم بذلك كما هو الأصح " ولم يقاتلوا " وهم في قبضتنا كما في المحرر والشرح والروضة " تركوا " فلا نتعرض لهم سواء كانوا بيننا أم امتازوا بموضع عنا لكن لم يخرجوا عن طاعة الإمام كما قاله الأذرعي ولم يفسقوا بذلك ما لم يقاتلوا لأن اعتقادهم أن من أتى كبيرة كفر وحبط عمله وخلد في النار وإن دار الإمام صارت لظهور الكبائر فيها دار كفر وإباحة فلذلك طعنوا في الأئمة ولم يصلوا خلفهم وتجنبوا الجمعة والجماعة ولو صرحوا بسب الإمام أو غيره من أهل العدل غزروا لا إن عرضوا في الأصح لأن عليا رضي الله تعالى عنه سمع رجلا من الخوارج يقول لا حكم إلى الله ورسوله وعرض بتخطئته في الحكم .
فقال كلمة حق أريد بها باطل لكم علينا ثلاث لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا ولا نبدؤكم بقتال فجعل حكمهم حكم أهل العدل .
تنبيه : .
محل عدم التعرض لهم إذا لم نتضرر بهم فإن تضررنا بهم تعرضنا لهم حتى يزول الضرر كما قاله القاضي عن الأصحاب " وإلا " بأن قاتلونا أو لم يكونوا في قبضتنا " فقطاع " أي فحكمهم إن لم نكفرهم وهو الأصح كما سبق كحكم قطاع " طريق " فإن قتلوا أحدا ممن يكافئهم اقتص منهم كغيرهم لا أنهم قطاع طريق كما يفهمه كلام المصنف فلا يتحتم قتلهم وإن كانوا كقطاع الطريق في شهر السلاح لأنهم لم يقصدوا إخافة الطريق .
ثم شرع في حكم البغاة بقوله " وتقبل شهادة البغاة " لأنهم ليسوا بفسقة كما مر لتأويلهم .
قال الشافعي Bه إلا أن يكونوا ممن يشهدون لموافقيهم بتصديقه كالخطابية وهم صنف من الرافضة يشهدون بالزور ويقضون به لموافقيهم بتصديقهم فلا تقبل شهادتهم ولا ينفذ حكم قاضيهم ولا يختص هذا بالبغاة كما سيأتي في الشهادات وسيأتي فيها أنهم إن بينوا السبب أن شهادتهم تقبل لانتفاء التهمة حينئذ " و " يقبل " قضاء قاضيهم " بعد اعتبار صفات القاضي فيه " فيما يقبل " فيه " قضاء قاضينا " لأن لهم تأويلا يسوغ فيه الاجتهاد " إلا أن يستحل " شاهد البغاة أو قاضيهم " دماءنا " وأموالنا فلا تقبل شهادته ولا قضاؤه لأنه ليس بعدل وشرط الشاهد والقاضي العدالة ( 4 / 125 ) .
تنبيه : .
ما جزم به المصنف من عدم صحة شهادته ونفوذ قضائه إذا استحل دماءنا وأموالنا وما نقلاه في الروضة وأصلها هنا عن المعتبرين من أصحابنا محمول على ما إذا كان بلا تأويل وما ذكره في زيادة الروضة في كتاب الشهادات من أنه لا فرق في قبول شهادة أهل الأهواء وقضاء قاضيهم بين من يستحل الدم والمال أم لا محمول على ما إذا استحلوه بتأويل فلا منافاة بين الموضعين كما توهمه بعض الشارحين وينبغي كما قال الزركشي أن يكون سائر الأسباب الموجبة للفسق في معنى استحلال الدم والمال ولو شككنا في الاستحلال حيث قلنا لا تصح الشهادة ولا ينفذ القضاء فقولان حكاهما ابن كج وقال اختيار الشافعي C تعالى عدم قبول الحكم ويأتي مثله في الشهادة وخرج بما ينفذ فيه قضاء قاضينا غيره كأن حكم بما يخالف نصا أو إجماعا أو قياسا جليا فلا يقبل " وينفذ " بضم أوله وتشديد الفاء قاضينا " كتابه " أي قاضي البغاة " بالحكم " فإذا كتب بما حكم به إلى قاضينا جاز له قبوله وتنفيذه ولكن يسن له عدم تنفيذه استخفافا بهم " ويحكم بكتابه بسماع البينة " أي يجوز له ذلك " في الأصح " كتقييد كتابه بالحكم ويستحب أنه لا يحكم به لما مر .
والثاني لا يحكم به لأن فيه معونة أهل البغي وإقامة مناصبهم .
تنبيه : .
تبع المحرر في حكاية الخلاف وجهين لكنه في الروضة كأصلها جعله قولين وطردهما الإمام في الكتاب بالحكم " ولو " استولى البغاة على بلد و " أقاموا " أي ولاة أمورهم " حدا " على من وجب عليه " وأخذوا زكاة " من أهلها " وخراجا " من أرض خراجية " وجزية " من أهل ذمة " وفرقوا سهم المرتزقة " من الفيء " على جندهم صح " ما فعلوه في البلد الذي استولوا عليه تأسياب علي رضي الله تعالى عنه ولأن في إعادة المطالبة إضرارا بأهل البلد أما إذا أقام الحد غير ولاتهم فإنه لا يعتد به ومحل الاعتداد به في الزكاة كما قال البلقيني إذا كانت غير معجلة أو كانت معجلة لكن استمرت شوكتهم حتى وجبت فلو زالت شوكتهم قبل الوجوب لم يقع ما عجلوه موقعه لأن وقت الوجوب لم يكونوا أهلا للأخذ .
قال ولم أر من تعرض لذلك وقد أشار الشافعي رضي الله تعالى عنه إليه بقوله بصدقة عامة .
وفي الأخير .
وهو تفرقة سهم المرتزقة على جندهم " وجه " أنه لا يقع الموقع لئلا يتقووا به على أهل العدل .
وأجاب الأول بأنهم من جند الإسلام ورغب الكفار قائم بهم وفي الجزية أيضا وجه حكاه الرافعي وفي الزكاة أيضا وجه حكاه القاضي .
قال الزركشي وصرح في الإشراف بحكاية الخلاف في الخراج " وما أتلفه باغ " من نفس أو مال " على عادل وعكسه " أي أتلفه عادل على باغ " إن لم يكن في قتال " لضرورته بأن كان في غير القتال أو فيه لا لضرورته " ضمن " قطعا كل منهما متلفه من نفس ومال جريا على الأصل في الإتلاف .
تنبيه : .
يستثنى من ذلك ما إذا قصد أهل العدل بإتلاف المال إضعافهم وهزيمتهم فإنه لا ضمان قال الماوردي قال بخلاف ما لو قصدوا التشفي والانتقام .
وإلا .
بأن كان الإتلاف في قتال لضرورته " فلا " ضمان اقتداء بالسلف لأن الوقائع التي جرت في عصر الصحابة كوقعة الجمل بصفين لم يطلب بعضهم بعضا بضمان نفس ولا مال وترغيبا في الطاعة لئلا ينفروا عنها ويتمادوا على ما هم فيه ولهذا سقطت التبعة عن الحربي إذا أسلم ولأنا مأمورون بالقتال فلا يضمن ما يتولد منه وهم إنما أتلفوا بتأويل " وفي قول يضمن الباغي " ما أتلفه على العادل لأنهما فرقتان من المسلمين محقة ومبطلة فلا يستويان في سقوط الغرم كقطاع الطريق لشبهة تأويلها .
تنبيه : .
محل الخلاف كما يؤخذ مما قدرته في كلامه فيما أتلف في القتال بسبب القتال فإن أتلف فيه ما ليس من ضرورته ضمن قطعا قاله الإمام وأقراه ثم ما ذكر بالنسبة للضمان وأما بالنسبة للتحريم فقال الشيخ عز الدين لا يتصف إتلافهم بإباحة ولا بتحريم لأنه خطأ معفو عنه بخلاف ما يتلفه الكفار حال القتال إنه حرام غير مضمون .
فرع .
لو وطىء باغ .
أمة عادل بلا شبهة حد ورق الولد ولا نسب لأن الوطء حينئذ زنا ومتى كانت مكرهة على ( 4 / 126 ) الوطء لزمه المهر كغيره وبعضهم استثنى هذه المسألة من إطلاق المصنف نفي الضمان وهو ممنوع لأن إتلاف البضع بالوطء لا تعلق له بالقتال والكلام إنما هو فيه .
وأما الحربي إذا وطىء أمة غيره بلا شبهة فإن الولد يكون رقيقا ولا نسب ولا حد عليه ولا مهر إن كانت مكرهة على الوطء لأنه لم يلتزم الأحكام .
واعلم أن ما سبق من نفي الضمان محله عند اجتماع الشوكة والتأويل فإن فقد أحدهما فله حالان أشار إلى الأول بقوله " و " الباغي " المتأول بلا شوكة " له " يضمن " النفس والمال ولو حال القتال كقاطع الطريق ولأنا لو أسقطنا الضمان عنه لم تعجز كل شرذمة تريد إتلاف نفس ومال أن تبدي تأويلا وتفعل من الفساد ما تشاء وفي ذلك بطلان السياسات وأشار إلى الثاني بقوله " وعكسه " وهو من له شوكة بلا تأويل حكمه " كباغ " في الضمان وعدمه وتقدم أن الأظهر عدم الضمان في حال القتال لضرورته فكذا هنا لأن سقوط الضمان في الباغين لقطع الفتنة واجتماع الكلمة وهو موجود هنا وخالف في ذلك البلقيني وقال بالضمان .
تنبيه : .
ما ذكره المصنف من تنزيلهم منزلة البغاة هو بالنسبة للضمان كما قيدت به كلامه لأنه السابق أولا أما الحدود إذا أقاموها أو الحقوق إذا قبضوها فلا يعتد بها الانتفاء شرطهم .
قال الشيخان والتحكيم فيهم على الخلاف في غيرهم .
فرع لو ارتدت طائفة .
لهم شوكة فأتلفوا مالا أو نفسا في القتال ثم تابوا وأسلموا هل يضمنون أولا كالبغاة وجهان في أصل الروضة من غير ترجيح والصحيح كما قال الإسنوي الأول لجنايتهم على الإسلام ونقله الماوردي عن النص في أكثر كتبه .
وقال الأذرعي إنه الوجه ولا ينفذ قضاء قاضي المرتدين قطعا قاله في أصل الروضة .
ثم شرع المصنف في كيفية قتال البغاة فقال " ولا يقاتل " الإمام " البغاة حتى يبعث إليهم أمينا فطنا " إن كان البعث للمناظرة كما قاله بعض المتأخرين " ناصحا " لهم فإذا وصل إليهم " يسألهم ما ينقمون " أي يكرهون اقتداء ب علي رضي الله تعالى عنه فإنه بعث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى أهل النهروان فرجع بعضهم وأبى بعضهم .
تنبيه : .
ظاهر عبارته أن البعث واجب وهو ظاهر عبارة الشرحين أيضا وصرح به ابن الصباغ وغيره وقال في المطلب وهو ظاهر كلام الشافعي وصرح به الأصحاب وفي تعليق القاضي أبي الطيب أنه مستحب " فإن ذكروا مظلمة " هي سبب امتناعهم عن الطاعة وهي إن كانت مصدرا ميميا فبفتح اللام وكسرها .
وقال الزركشي الفتح هو القياس أو اسما لما يظلم به فالكسر فقط " أو شبهة أزالها " لأن المقصود بقتالهم ردهم إلى الطاعة ودفع شرهم كدفع الصائل دون قتلهم لقوله تعالى " فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله " أي ترجع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله " فإن أصروا " بعد الإزالة أو لم يذكروا شيئا " نصحهم " ووعظهم وخوفهم سوء عاقبة البغي وأمرهم بالعود للطاعة لأن ذلك أقرب إلى حصول المقصود " ثم " إن أصروا دعاهم إلى المناظرة فإن لم يجيبوا أو أجابوا أو غلبوا في المناظرة وأصروا " آذنهم " بالمد أي أعلمهم " بالقتال " لأن الله تعالى أمر أولا بالإصلاح ثم بالقتال فلا يجوز تقديم ما أخره الله تعالى .
تنبيه : .
إنما يعلمهم بالقتال إذا علم أن في عسكره قوة وقدرة عليهم وإلا أخره إلى أن تمكنه القوة عليهم لأنه الاحتياط في ذلك كما نقله في البحر عن النص وقتالهم حينئذ واجب لإجماع الصحابة عليه بأحد خمسة أمور كما قاله الماوردي أن يتعرضوا لحريم أهل العدل أو يتعطل جهاد الكفار بهم أو يأخذوا من حقوق بيت المال ما ليس لهم أو يمتنعوا من دفع ما وجب عليهم أو يتظاهروا على خلع الإمام الذي قد انعقدت بيعته فلو انفردوا عن الجماعة ولم يمنعوا حقا ولا تعدوا إلى ما ليس لهم جاز قتالهم لأجل تفريق الجماعة ولا يجب لنظاهرهم بالطاعة " فإن استمهلوا " أي طلبوا الإمهال من الإمام " اجتهد " فيه وفي عدمه " وفعل ما رآه صوابا " منهما وإن ظهر له أن استمالهم للتأمل في إزالة ( 4 / 127 ) الشبهة أمهلهم ليتضح لهم الحق وإن ظهر لهم أنهم يحتالون لاجتماع عساكرهم وانتظار مددهم لم يمهلهم وإن سألوا ترك القتال أبدا لم يجبهم .
تنبيه : .
قضية كلامه أن مدة الإمهال لا تتقيد وهو كذلك بل ترجع إلى ما يراه الإمام وفي التهذيب كيوم أو يومين وفي المهذب ثلاثة أيام وقضيته أيضا مراعاة هذا التدريج في القتال وهو كذلك وبه صرح الإمام فقال سبيله سبيل دفع الصائل من الاقتصار على الأدنى فالأدنى " ولا يقاتل مدبرهم " إذا وقع قتال ولا من ألقى سلاحه وأعرض عن القتال " ولا مثخنهم " بفتح المعجمة اسم مفعول من أثخنه الجرح إذا أضعفه " و " لا " أسيرهم " إذا كان الإمام يرى رأينا فيهم لقوله تعالى " حتى تفيء " والفيئة الرجوع عن القتال بالهزيمة .
روى ابن أبي شيبة بإسناد حسن أن عليا Bه أمر مناديه يوم الجمل فنادى لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح ولا يقتل أسير ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى سلاحه فهو آمن ولأن قتالهم شرع للدفع عن منع الطاعة وقد زال أما إذا كان لا يرى ذلك فلا اعتراض عليه ويستثنى من إطلاق المصنف المدبر المتحرف للقتال أو المتحيز إلى فئة قريبة فيقاتلان بخلاف المتحيز إلى فئة بعيدة وما إذا انهزموا مجتمعين تحت راية زعيمهم فإنهم يقاتلون حتى يرجعوا إلى الطاعة .
قال الإمام أو يتبددوا .
تنبيه : .
عبر في المحرر في المدبر بالقتال وفي الآخرين بالقتل وهو أولى من تعبير المصنف لأن المثخن والأسير لا يقاتلان وقد يفهم من منع قتل هؤلاء وجوب القصاص بقتلهم والأصح أنه لا قصاص لشبهة أبي حنيفة " ولا يطلق " أسيرهم بل يحبس كما صرح به الماوردي وغيره إذ بحبسه تضعف البغاة " وإن كان صبيا وامرأة " وعبدا " حتى تنقضي الحرب و " تؤمن غائلتهم بأن " يتفرق جمعهم " لينكشف شرهم ولا يتوقع عودهم .
تنبيه : .
ظاهر عبارته استمرار حبسهم إلى أن " يتفرق جمعهم " ومحله في الرجل الحر المتأهل للقتال وكذا الصبي والمرأة والعبد والشيخ الفاني إن كانوا مقاتلين كما قاله الإمام وغيره في الأولين ويلحق بهما الآخران وإلا أطلقوا بمجرد انقضاء الحرب وإن خفنا عودهم " إلا أن يطيع " الأسير " باختياره " بمبايعة الإمام والرجوع عن البغي إلى الطاعة فيطلق قبل ذلك .
تنبيه : .
هذا الاستثناء خاص بالرجل الحر أما الصبيان والنساء والعبيد فلا بيعة لهم " ويرد " وجوبا " سلاحهم وخيلهم " وغيرهما " إليهم إذا انقضت الحرب وأمنت غائلتهم " أي شرهم بتفرقهم أو ردهم للطاعة لزوال المحذور حينئذ .
تنبيه : .
فهم من رد السلاح والخيل إليهم غيرهما من الأموال التي ليست عونا لهم في القتال من باب أولى " ولا يستعمل " أي يحرم استعمال شيء من سلاحهم وخيلهم أو غيرهما من أموالهم " في قتال " وغيره لعموم قوله A لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيب نفس منه .
إلا لضرورة .
كما إذا خيف انهزام أهل العدل ولم يجدوا غير خيولهم فيجوز لهم ركوبها وكذا إن لم يجدوا ما يدفعون به عنهم غير سلاحهم .
تنبيه : .
قضية ذلك وجوب أجرة استعمالها في القتال للضرورة كالمضطر إذا أكل طعام غيره إنه يلزمه بدله والأوجه كما اقتضاه كلام الأنوار خلافا لما مر من أنه لا ضمان لما يتلف في القتال وتفارق مسألة المضطر بأن الضرورة فيها نشأت من المضطر بخلافه في مسألتنا فإنها إنما نشأت من جهة المالك " ولا يقاتلون بعظيم كنار ومنجنيق " وإرسال سيل وأسود وحيات ونحوها من المهلكات لأن المقصود من حالهم ردهم إلى الطاعة كما مر وقد يرجعون فلا يجدون للنجاة سبيلا وفي الحديث الصحيح لا يعذب بالنار إلا ربها .
تنبيه : .
يستثنى من ذلك ما إذا قصد أهل العدل بإتلاف المال إضعافهم وهزيمتهم فإنه لا ضمان قال الماوردي قال بخلاف ما لو قصدوا التشفي والانتقام .
لو عبر بما يعم لكان أولى لأن آلة الحرب قد تعظم ولكن لا تعم وليس المنع إلا مما يعم لأنه قد ( 4 / 128 ) يصيب من لا يجوز قتله كالنساء والصبيان " وإلا لضرورة " فيجوز قتالهم بالعظيم " كأن قاتلوا به أو أحاطوا بنا " واضطررنا إلى الرمي بذلك تدفعهم عنا بأن خيف استئصالنا فإن أمكن دفعهم بغيره كانتقالنا الموضع آخر لم نقاتلهم به .
تنبيه : .
لو تحصنوا ببلد أو قلعة ولم يتأت الاستيلاء عليهم إلا بذلك لم يجز قتالهم لما مر ولأن ترك بلدة أو قلعة بأيدي طائفة من المسلمين يتوقع الاحتيال في فتحها أقرب إلى الصلاح من استئصالهم ولا يجوز حصارهم بمنع طعام أو شراب إلا على رأي الإمام في أهل قلعة ولا يجوز عقر خيولهم إلا إذا قاتلوا عليها ولا قطع أشجارهم وزروعهم ويلزم الواحد كما قال المتولي من أهل العدل مصابرة اثنين من البغاة كما يجب على المسلم أن يصبر لكافرين فلا يول إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة .
قال الشافعي رضي الله تعالى عنه يكره للعادل أن يتعمد قتل ذي رحمه من أهل البغي وحكم دار البغي دار الإسلام فإذا جرى فيها ما يوجب إقامة حد أقامه الإمام إذا استولى عليها ولو سبى المشركون طائفة من البغاة وقدر أهل العدل على استنقاذهم لزمهم ذلك " ولا يستعان عليهم " في قتال " بكافر " ذمي أو غيره لأنه يحرم تسليطه على المسلم ولهذا لا يجوز لمستحق القصاص من مسلم أن يوكل كافرا في استيفائه ولا للإمام أن يتخذ جلادا كافرا لإقامة الحدود على المسلمين .
تنبيه : .
ظاهر كلامهم أن ذلك لا يجوز ولو دعت الضرورة إليه لكنه في التتمة صرح بجواز الاستعانة به عند الضرورة وقال الأذرعي وغيره أنه المتجه " ولا " يستعان عليهم أيضا " بمن يرى قتلهم " حال كونهم " مدبرين " لعداوة أو اعتقاد ك الحنفي إبقاء عليهم وفرق بينه وبين جواز استخلاف الشافعي الحنفي ونحوه بأن الخليفة ينفرد برأيه واجتهاده والمذكورون هنا تحت رأي الإمام ففعلهم منسوب إليه فلا يجوز لهم أن يعملوا بخلاف اجتهاده ويستثنى ما إذا دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم .
قال الشيخان فيجوز بشرطين أحدهما أن يكون حسن إقدام وجراءة الثاني أن يمكن دفعهم عنهم لو اتبعوهم بعد انهزامهم .
زاد الماوردي شرطا ثالثا وهو أن يشرط عليهم أن لا يتبعوا مدبرا ولا يقتلوا جريحا وأن يثق بوفائهم بذلك " ولو استعانوا علينا بأهل حرب وآمنوهم " بهمزة ممدودة وقصرها مع تشديد الميم لحن كما قاله ابن مكي أي عقدوا لهم أمانا ليعينوهم علينا " لم ينفذ " بالمعجمة " أمانهم علينا " لأن الأمان لترك قتال المسلمين فلا ينعقد على شرط قتالهم وحينئذ قلنا غنم أموالهم واسترقاقهم وقتل أسيرهم وقتلهم مدبرين وتذفيق جريحهم نعم لو قالوا ظننا أنه يجوز لنا إعانة بعضكم على بعض أو أنهم المحقون ولنا إعانة المحق أو أنهم استعانوا بنا على كفار وأمكن صدقهم كما يؤخذ من كلام الإمام الغزالي الآتي في أهل الذمة بلغناهم المأمن وأجرينا عليهم حكم البغاة فلا نستبيحهم للأمان مع عذرهم " ونفذ عليهم " أمانهم " في الأصح " لأنهم آمنوهم وآمنوا منهم والثاني المنع لأنه أمان على قتال المسلمين .
أما لو آمنوهم بدون شرط قتالنا فإنه ينفذ علينا وعليهم فإن استعانوا بهم علينا بعد ذلك وقاتلونا انتقض أمانهم حينئذ في حقنا كما نص عليه والقياس انتقاضه في حقهم أيضا .
تنبيه : .
أشعر عطفه آمنوهم على الاستعانة بأنها غيرها وهو ظاهر كلام الماوردي وصرح به المتولي .
واحترز بأهل حرب عما تضمنه قوله " ولو أعانهم أهل الذمة " مختارين " عالمين بتحريم قتالنا انتقض عهدهم " بذلك كما لو انفردوا بالقتال فصار حكمهم حكم أهل الحرب فيقتلون مقبلين ومدبرين .
تنبيه : .
قضية كلامهم انتقاض عهدهم مطلقا حتى في حق أهل البغي وهو كذلك كما ذكره البغوي وغيره وإن قال في البيان ينبغي أن يكون في انتقاضه الخلاف في أمان أهل الحرب ولو أتلفوا شيئا بعد الشروع في القتال لم يضمنوه " أو مكرهين فلا " ينتقض عهدهم لشبهة الإكراه ( 4 / 129 ) .
تنبيه : .
ظاهر كلام الشيخين أنه يكتفى بقولهم إنهم مكرهون وهو ظاهر إطلاق الجمهور وإن قال المتولي و البندنيجي أنه لا بد من ثبوت كونهم مكرهين عند الإمام هذا في أهل الذمة وأما أهل العهد فلا تقبل دعواهم الإكراه إلا ببينة عند الشيخين لأن إمام أهل الذمة أقوى بدليل أنه لو خاف الإمام من أهل العهد الخيانة نبذ إليهم عهدهم بخلاف أهل الذمة واحترز بعالمين عما تضمنه قوله " وكذا إن قالوا ظننا جوازه " أي أنه يجوز لنا إعانة بعض المسلمين على بعض أو ظننا أنهم يستعينون بنا على قتال كفار وأمكن صدقهم كما أشار إليه في البسيط فلا ينتقض عهدهم بالظن المذكور " أو " ظننا " أنهم محقون " فيما فعلوه وأن لنا إعانة المحق فلا ينتقض عهدهم أيضا " على المذهب " لموافقتهم طائفة من المسلمين مع عذرهم ولا بد في دعواهم الجهل من إمكان صدقهم كما ذكره الإمام و الغزالي وإلا فلا تقبل وزاد الرافعي في شرحيه بعد قوله وأنهم محقون وأن لهم إعانة المحق وإلا فليس لهم قتال المحقين ولا المبطلين وناقش الوجيز بترك ذلك وأسقطه من الروضة كما هنا وقد قدرته في كلامه وفي قوله أنه ينتقض ولو ادعوا ذلك كما لو استقلوا بالقتال وتعبير المصنف بكذا يقتضي أنه لا خلاف في أن المكره لا ينتقض عهده وليس مرادا بل فيه الطريقان فلو جمع بين المسألتين بعبارة واحدة لكان أولى .
تنبيه : .
محل الخلاف إذا لم يشترط عليهم الإمام ترك القتال في عقد الذمة وإلا فينتقض قطعا ولو قاتل أهل الذمة أهل البغي لم ينتقض عهدهم على الصحيح لأنهم حاربوا من يلزم الإمام محاربته .
ويقاتلون .
حيث قلنا بعدم انتقاض عهدهم في المسائل الثلاث " كبغاة " أي كقتالهم لأن الأمان حقن دماءهم كما أن الإسلام حقن دماء البغاة أما إذا انتقض عهدهم فحكمه مذكور في الجزية .
تنبيه : .
تشبيه المصنف لهم بالبغاة في المقاتلة يقتضي أنهم لا يلحقون بهم في نفي ضمان ما يتلفونه في حال القتال وهو كذلك لأنا أسقطنا الضمان عن البغاة لاستمالة قلوبهم وردهم إلى الطاعة لئلا ينفرهم الضمان وأهل الذمة في قبضة الإمام وهل يجب عليهم القصاص وجهان في الروضة كأصلها بلا ترجيح أرجحهما كما قال البلقيني الوجوب .
وقال إنه ظاهر نص الشافعي وخرج بأهل الذمة غيرهم من المعاهدين والمؤمنين فينتقض عهدهم ولا يقبل عذرهم إلا في الإكراه ولا بد من بينة في دعواهم الإكراه كما مر عن الشيخين .
فرع لو اقتتل طائفتان .
باغيتان منعهما الإمام فلا يعين إحداهما على الأخرى وإن عجز عن منعهما قاتل أشرهما بالأخرى التي هي أقرب إلى الحق وإن رجعت لم يفاجىء الأخرى بالقتال حتى يدعوها إلى الطاعة لأنها صارت باستعانته بها في أمانه فإن استوتا قال الماوردي ضم إليه أقلهما جمعا ثم أقربهما دارا ثم يجتهد فيهما وقاتل بالمضمومة إليه منهما الأخرى غير قاصد إعانتها بل قاصدا دفع الأخرى ولو غزا البغاة مع الإمام مشركين فكأهل العهد في حكم الغنائم فيعطى القاتل منهم السلب كغيره من أهل العدل ولو عاهد البغاة مشركا اجتنباه بأن لا نقصده بما نقصد به الحربي غير المعاهد ولو قتل عادل عادلا في القتال وقال ظننته باغيا حلف ووجبت الدية دون القصاص للعذر ولو تعمد عادل قتل باغ أمنه عادل ولو كان المؤمن له عبدا أو امرأة اقتص منه وإن كان جاهلا بأمانه لزمه الدية .
ولما قدم المصنف أن البغي هو الخروج على الإمام الأعظم وهو القائم بخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا فيا لها رتبة ما أسناها ومرتبة ما أعلاها احتاج إلى تعريفه فعقد له فصلا فقال فصل في شروط الإمام الأعظم وبيان انعقاد طرق الإمامة وهي فرض كفاية كالقضاء إذ لا بد للأمة من إمام يقيم الدين وينصر السنة وينصف المظلوم من الظالم ويستوفي الحقوق ويضعها مواضعها وقدما في الشرح والروضة الكلام على الإمامة على أحكام البغاة وما في الكتاب أولى لأن الأول هو المقصود بالذات .
وقد بدأ بالقسم الأول وهو الشروط بقوله " شرط الإمام " الأعظم هو مفرد مضاف فيعم كل شرط أي شروطه حال عقد الإمامة أو العهد بها أمور ( 4 / 130 ) أحدها " كونه مسلما " ليراعي مصلحة الإسلام والمسلمين فلا تصح تولية كافر ولو على كافر .
ثانيها كونه " مكلفا " ليلي أمر الناس فلا تصح إمامة صبي ومجنون بإجماع لأن المولى عليه في حضانة غيره فكيف يلي أمر الأمة وفي الحديث نعوذ بالله من إمارة الصبيان رواه الإمام أحمد .
ثالثها كونه " حرا " ليكمل ويهاب بخلاف من فيه رق ولأنه مشغول بخدمة غيره وما رواه مسلم من قوله A اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي فمحمول على غير الإمامة العظمى .
رابعها كونه " ذكرا " ليتفرغ ويتمكن من مخالطة الرجال فلا تصح ولاية امرأة لما في الصحيح لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ولا ولاية خنثى وإن بانت ذكورته كما ذكروه في تولية القاضي فالإمام أولى .
خامسها كونه " قرشيا " لخبر النسائي الأئمة من قريش وبه أخذ الصحابة ومن بعدهم .
هذا عند تيسر قرشي جامع للشروط فإن عدم فمنتسب إلى كنانة فإن عدم فرجل من ولد إسماعيل A فإن عدم فرجل جرهمى كما في التتمة .
وجرهم أصل العرب ومنهم تزوج سيدنا إسماعيل حين أنزله أبوه A أرض مكة فإن عدم فرجل من ولد إسحق A ثم إلى غيرهم ولا يشترط كونه هاشميا باتفاق فإن الصديق وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم لم يكونوا من بني هاشم .
سادسها كونه عدلا ولو ذكره بدل مسلما لعلم منه كونه مسلما .
قال الشيخ عز الدين وإذا تعذرت العدالة في الأئمة والحكام قدمنا أقلهم فسقا .
سابعها كونه عالما " مجتهدا " ليعرف الأحكام ويعلم الناس ولا يحتاج إلى استفتاء غيره في الحوادث لأنه بالمراجعة والسؤال يخرج عن رتبة الاستقلال .
ثامنها كونه " شجاعا " بتثليث المعجمة والشجاعة قوة القلب عند البأس لينفرد بنفسه ويدبر الجيوش ويقهر الأعداء ويفتح الحصون .
تاسعها كونه " ذا رأي " يفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح الدنيوية فهو ملاك الأمور .
قال المتنبي الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني فإذا هما اجتمعا لنفس حرة بلغت من العلياء كل مكان ولربما قهر الفتى أقرانه بالرأي لا بتطاول الأقران وقد كان العباس بن عبد المطلب يضرب به المثل في سداد الرأي " و " عاشرها كونه ذا " سمع وبصر ونطق " ليتأتى منه فصل الأمور ولا يضر ثقل السمع والتتمة ولا كونه أعشى العين لأن عجزه حال الاستراحة ويرجى زواله .
وأما ضعف البصر فإن منع تمييز الأشخاص منع وإلا فلا .
تنبيه : .
فهو من اشتراطه البصر جواز كونه أعور وهو كذلك وإن خالف في ذلك الروياني ومن اقتصاره على ما ذكر أنه لا يؤثر فقد شم وذوق وهو كذلك كما جزم به في زوائد الروضة ويشترط فيه أيضا أن لا يكون به نقص يمنع استيفاء حركة النهوض كالنقص في اليد والرجل كما صححه في الروضة .
ولا يشترط كونه معصوما لأن العصمة للأنبياء ولا يضر قطع ذكر وأنثيين واعلم أن هذه الشروط كما تعتبر في الابتداء تعتبر في الدوام إلا العدالة فإنه لا ينعزل بالفسق في الأصح ولا الجنون المتقطع إذا كان زمن الإفاقة أكثر قاله الماوردي .
وإلا في قطع إحدى اليدين والرجلين فلا يؤثر في الدوام إذ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء فعلم من ذلك أنه ينعزل بالعمى والصمم والخرس والمرض الذي ينسيه العلوم .
ثم شرع في القسم الثاني وهو بيان انعقاد طرق الإمامة بقوله " وتنعقد الإمامة " بثلاثة طرق .
أحدها " بالبيعة " بفتح الموحدة كما بايع الصحابة أبا بكر رضي الله تعالى عنهم أجمعين واختلف في عدد المبايع " والأصح " لا يتعين عدد بل المعتبر " بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم " لأن الأمر ينتظم بهم ويتبعهم سائر الناس ولا يشترط اتفاق أهل الحل والعقد من سائر الأقطار البعيدة ولا يشترط عدد كما يوهمه كلامه بل لو تعلق الحل والعقد بواحد مطاع كفت بيعته ولزمه الموافقة والمتابعة ( 4 / 131 ) وقيل لا بد من اثنين لأنهما أقل الجماعة وقيل من ثلاثة لأنهم أقل الجمع وقيل من أربعة لأنهم أكثر نصاب الشهادة وقيل من خمسة غير البائع كأهل الشورى وقيل من أربعين لأنه أشد خطرا من الجمعة وهل يشترط لانعقادهم إشهاد شاهدين أو لا حكى في الروضة عن الإمام عن الأصحاب الأول لئلا يدعي عقد سابق ولأن الإمامة ليست دون النكاح وقيل إن عقدها واحد اشترط الإجهاد أو جمع فلا وجرى على هذا ابن المقري " وشرطهم " أي المباعين " صفة الشهود " من العدالة وغيرها مما يأتي .
تنبيه : .
قضية كلامه عدم اشتراط الاجتهاد وهو كذلك وما في الروضة كأصلها من أنه يشترط أن يكون المبايع مجتهدا إن اتحد وأن يكون فيه مجتهدا إن تعدد مفرع على اشتراط العدد والمراد بالمجتهد هنا المجتهد بشروط الإمامة لا أن يكون مجتهدا مطلقا كما صرح به الزنجاني في شرح الوجيز .
و .
ثانيهما ينعقد " باستخلاف الإمام " شخصا عينه في حياته ليكون خليفته بعده ويعبر عنه بعهدت إليه كما عهد أبو بكر إلى عمر رضي الله تعالى عنهما بقوله بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله A عند آخر عهده من الدنيا وأول عهده بالآخرة في الحالة التي يؤمن فيها الكافر ويتقي فيها الفاجر إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب فإن بر وعدل فذاك علمي به وعلمي فيه وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب والخير أردت ولكل امرىء ما اكتسب " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " وانعقد الإجماع على جوازه .
تنبيه : .
لا بد أن يكون الإمام كما قال الأذرعي وغيره جامعا لشروط الإمامة فلا عبرة باستخلاف الجاهل والفاسق وأن يقبل الخليفة في حياة الإمام وإن تراخى عن الاستخلاف كما اقتضاه كلام الروضة وإن بحث البلقيني اشتراط الفور فإن أخره عن الحياة رجع ذلك إلى الإيصاء وسيأتي حكمه وعليه أن يتحرى الأصلح للإمامة بأن يجتهد فيه فإذا ظهر له واحد ولاه وله جعل الخلافة لزيد ثم بعده لعمرو ثم بعده لبكر وتنتقل على ما رتب كما رتب رسول الله A أمراء جيش مؤتة فإن مات الأول في حياة الخليفة فالخلافة للثاني وإن مات الثاني أيضا فهي للثالث وإن مات الخليفة وبقي الثلاثة أحياء وانتصب الأول كان له أن يعهد بها إلى غير الأخيرين لأنها لما انتهت إليه صار أملك بها بخلاف ما إذا مات ولم يعهد إلى أحد فليس لأهل البيعة أن يبايعوا غير الثاني ويقدم عهد الأول على اختيارهم .
ولا يشترط في الاستخلاف رضا أهل الحل والعقد في حياته أو بعد موته بل إذا ظهر له واحد جاز بيعته من غير حضور غيره ولا مشاورة أحد كما نقله في الروضة عن الماوردي وقطع به الإمام .
فلو جعل .
الإمام " الأمر " في الخلافة " شورى " هو مصدر بمعنى التشاور " بين جمع فكاستخلاف " حكمه إلا أن المستخلف غير معين " فيرتضون أحدهم " بعد موت الإمام فيعنونه للخلافة كما جعل عمر رضي الله تعالى عنه الأمر شورى بين ستة علي والزبير وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة فاتفقوا على عثمان Bه .
أما قبل موته فليس لهم أن يعينوه إلا بإذنه فإن خافوا تفرق الأمر وانتشاره بعده استأذنوه ولو امتنع أهل الشورى من الاختيار لم يجبروا عليه وكىنه لم يعهد وكذلك لو امتنع المعهود إليه من القبول .
تنبيه : .
لو أوصى بها جاز كما لو استخلف لكن قبول الموصى له إنما يكون بعد موت الموصي وقيل لا يجوز لأنه بالموت يخرج عن الولاية ويتعين من اختياره للخلافة بالاستخلاف أو الوصية مع القبول فليس لغيره أن يعين غيره .
وإن استعفى الخليفة أو الموصى له بعد القبول لم ينعزل حتى يعفي ويوجد غيره فإن وجد غيره جاز استعفاؤه وإعفاؤه وخرج من العهد باستجماعهما وإلا امتنع وبقي العهد لازما ويجوز العهد إلى الوالد والولد كما يجوز إلى غيرهما كما جزم به صاحب الأنوار و ابن المقري وقيل يمتنع ذلك كالتزكية والحكم وقيل تجوز للوالد دون الولد لشدة الميل إليه .
فرع لو صلح للإمامة واحد .
فقد تعين أو اثنان استحب لأهل العقد والحل تقديم أسنهما في الإسلام ثم ( 4 / 132 ) إن كثرت الحروب كأن ظهر أهل الفساد أو البغاة فالأشجع أحق لأن الحاجة دعت إلى زيادة الشجاعة أو كثرت البدع فالأعلم أحق لأن الحاجة دعت إلى زيادة العلم فإن استويا أفرع وإن لم يتنازعا كما هو قضية كلام ابن المقري لأن فيأهما للمسلمين لا لهما لعدم الترجيح وقيل يقدم أهل العقد والحل من شاءوا بلا فرعة ولو تنازعاها لم يقدح فيهما تنازعها لأن طلبها ليس مكروها " و " ثالثها " باستيلاء " شخص متغلب على الإمامة " جامع للشروط " المعتبرة في الإمامة على الملك بقهر وغلبة بعد موت الإمام لينتظم شمل المسلمين .
أما الاستيلاء على الحي فإن كان الحي متغلبا انعقدت إمامة المتغلب عليه وإن كان إماما ببيعة أو لم تنعقد إمامة المتغلب عليه " وكذا فاسق وجاهل " تنعقد إمامة كل منهما مع وجود بقية الشروط بالاستيلاء " في الأصح " وإن كان عاصيا بذلك لما مر والثاني المنع لفقد الشروط .
تنبيه : .
كلامه يفهم أن الخلاف إنما يجري في حال اجتماع الفسق والجهل لكن عبارة الروضة وأصلها مشعرة بجريان الخلاف عند انفراد كل منهما وهو الظاهر كما قاله الدميري فإن جعلت الواو في كلام المصنف بمعنى أو كما قررت به كلامه فلا مخالفة ولا يختص هذا كما قال الزركشي بالفسق والجهل بل سائر الشروط إذا فقد واحد منها كذلك كالعبد والمرأة والصبي المميز .
قال الدميري ولى الأكنان وهو في بطن أمه حين مات أبوه ولم يكن له ولد وضعوا التاج على بطن أمه وعقدوا لحملها اللواء فولدت ذكرا فملكهم إلى أن مات .
نعم الكافر إذا تغلب لا تنعقد إمامته لقوله تعالى " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " وقول الشيخ عز الدين ولو استولى الكفار على إقليم فولوا القضاء رجلا مسلما فالذي يظهر انعقاده ليس بظاهر فإنه قال لو ابتلى الناس بولاية صبي مميز يرجع للعقلاء أو امرأة هل ينفذ تصرفها العام فيما يوافق الحق كتولية القضاء والولاة فيه وقفة اه " .
فإذا كان عنده وقفة في ذلك فالكافر أولى .
فروع تجب طاعة الإمامة وإن كان جائرا فيما يجوز من أمره ونهيه لخبر اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي مجدع الأطراف ولأن المقصود من نصبه اتحاد الكلمة ولا يحصل ذلك إلا بوجوب الطاعة وتجب نصيحته للرعية بحسب قدرته ولا يجوز عقدها لإمامين فأكثر ولو بأقاليم ولو تباعدت لما في ذلك من اختلاف الرأي وتفرق الشمل فإن عقدت لاثنين معا بطلتا أو مرتبا انعقدت للسابق كما في النكاح على امرأة ويعزز الثاني ومبايعوه إن علموا ببيعة السابق لارتكابهم محرما .
فإن قيل ورد في مسلم إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما فكيف يقال بالتعزيز فقط أجيب بأن معنى الحديث لا تطيعوه فيكون كمن قتل وقيل معناه أنه إن أصر فهو باغ يقاتل فإن علم سبق وجهل بطل العقدان كما مر نظيره من الجمعة والنكاح وإن علم السابق ثم نسي وقف الأمر رجاء الانكشاف فإن أضر الوقف بالمسلمين عقد لأحدهما لا لغيرهما لأن عقدها لهما أوجب صرفها عن غيرهما وإن بطل عقداهما بالإضرار وخالف البلقيني الشيخين في ذلك وقال بجواز عقدها لغيرهما والحق في الإمامة للمسلمين لا لهما فلا تسمع دعوى أحدهما السبق وإن أقر به أحدهما للآخر بطل حقه ولا يثبت الحق للآخر إلا ببينة ويجوز تسمية الإمام خليفة وخليفة رسول الله A وأمير المؤمنين .
قال البغوي وإن كان فاسقا وأول من سمي به عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ولا يجوز تسميته بخليفة الله تعالى لأنه إنما يستخلف من يغيب ويموت والله تعالى منزه عن ذلك .
قال المصنف في شرح مسلم ولا يسمى أحد خليفة الله بعد آدم وداود عليهما السلام .
وعن ابن مليكة أن رجلا قال لأبي بكر رضي الله تعالى عنه يا خليفة الله فقال أنا خليفة محمد A وأنا راض بذلك .
ولا يجوز خلع الإمام ما لم تختل الصفات فيه ولا يصير الشخص إماما بتفرده بشروط الإمامة في وقته بل لا بد من أحد الطرق كما حكاه الماوردي عن الجمهور وقيل يصير من غير عقد حكاه القمولي .
قال ومن الفقهاء من ألحق القاضي بالإمام في ذلك .
وقال الإمام لو شغر الزمان عن الإمام انتقلت أحكامه إلى أعلم أهل ذلك الزمان " قلت " كما قال الرافعي ( 4 / 133 ) في الشرح فيما لو عاد البلد من البغاة إلينا " لو ادعى " بعض أهله " دفع زكاة إلى البغاة صدق " بلا يمين إن لم يتهم و " بيمينه " إن اتهم لبنائها على المواساة والمسلم مؤتمن في أمر دينه .
تنبيه : .
اليمين هنا مستحبة على الأصح كما في زيادة الروضة في الزكاة وإن صحح في تصحيح التنبيه هنا أنها واجبة وجرى عليه الدميري " أو " ذمي ادعى دفع " جزية فلا " يصدق بيمينه " على الصحيح " لأنها عوض عن السكن فأشبه ما لو ادعى المستأجر دفع الأجرة .
والثاني بصدق كالمزكى وفرق الأول بأن الذمي غير مؤتمن فيما يدعيه على المسلمين للعداوة الظاهرة " وكذا خراج " لأرض دفعه المسلم كما قاله الماوردي لقاضي البغاة لا يصدق في دفعه " في الأصح " لأنه أجرة والثاني يصدق كالزكاة أما الكافر إذا ادعى دفع الخراج فلا يصدق جزءا " ويصدق " الشخص " في " إقامة " حد " أنه أقيم عليه .
قال الماوردي بلا يمين لأن الحدود تدرأ بالشبهات " إلا أن يثبت " الحد " ببينة و " الحال أنه " لا أثر له " أي الحد " في البدن " فلا يصدق في ذلك " والله أعلم " لأن الأصل عدم إقامته ولا قرينة تدفعه والفرق بين ثبوته بالبينة دون الإقرار أن المقر بالحد لو رجع قبل رجوعه وإنكاره بقاء الحد عليه في معنى الرجوع .
تنبيه : .
كان ينبغي للمصنف أن يذكر هذه الزيادة قبل الكلام على أحكام الإمامة .
خاتمة لا ينعزل إمام أسره كفار أو بغاة لهم إمام إلا إن وقع اليأس ولم يعد إلى إمامته وإن لم يكن للبغاة إمام لم ينعزل الإمام المأسور وإن وقع اليأس من خلاصه ويستنيب عن نفسه إن قدر على الاستنابة وإلا استنيب عنه فلو خلع الإمام نفسه أو مات لم يصر المستناب إماما .
قال الدميري كان المعتصم بالله يدعى المثمن لأنه كان ثامن خلفاء بني العباس ولد سنة ثمان ومائة لثمان عشرة خلت من شعبان وهو الشهر الثامن من السنة وفتح ثمان فتوحات ووقف ثمانية ملوك وثمانية أعداء ببابه وعاش ثمانية وأربعين سنة وكانت خلافته ثمان سنين وثمانية أيام وخلف ثمان بنين وثمان بنات وثمانية آلاف دينار وثمانية آلاف درهم وثمانية آلاف فرس وثمانية آلاف بعير وبغل ودابة .
وثمانية آلاف خيمة وثمانية آلاف عبد وثمانية آلاف أمة وثمانية قصور وكان نقش خاتمه الحمد لله وهي ثمانية أحرف وكانت عدد غلمانه الأتراك ثمانية عشر ألفا