وهي المرادة عن الإطلاق غالبا " صدقة التطوع سنة " للكتاب والسنة فمن الكتاب قوله تعالى " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " ومن السنة قوله A من أطعم جائعا أطعمه الله من ثمار الجنة ومن سقى مؤمنا على ظمإ سقاه الله D يوم القيامة من الرحيق المختوم ومن كسا مؤمنا عاريا كساه الله من خضر الجنة رواه أبو داود والترمذي بإسناد جيد وخضر الجنة بإسكان الضاد المعجمة ثيابها الخضر .
وقوله A ما تصدق أحد من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون أعظم من الجبل العظيم .
وقد يعرض لها ما يحرمها كأن يعلم من آخذها أنه يصرفها في معصية .
وقد تجب في الجملة كأن وجد مضطرا ومعه ما يطعمه فاضلا عن حاجته وذلك معلوم في محله .
وتحل لغني .
ولو من ذوي القربى على المشهور لقول جعفر بن محمد عن أبيه أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة فقيل له أتشرب من الصدقة فقال إنما حرم الله علينا الصدقة المفروضة .
رواه الشافعي والبيهقي .
ومثلهم مولاهم بل أولى لا للنبي A على الأظهر تشريفا له ففي الصحيحين تصدق الليلة على غني وفيه لعله أن يعتبر فينفق مما آتاه الله .
قال في الروضة ويستحب للغني التنزه عنها ويكره له التعرض لأخذها .
قال الإسنوي ويكره له أخذها وإن لم يتعرض لها .
ويحرم عليه أخذها إن أظهر الفاقة وعليه حملوا خبر الذي مات من أهل الصفة وترك دينارين فقال A كيتان من نار .
والمراد بالغني هو الذي يحرم عليه أخذ الزكاة .
فإن قيل قد تقدم في الحديث أن الميت خلف دينارين وهذا ليس غني الزكاة ( 3 / 121 ) أجيب باحتمال أنه كان وصل العمر الغالب أو كان غناه بنفقة قريب أو كسب أو نحو ذلك فقد تطرق إليه الاحتمال فسقط به الاستدلال كما هو من قواعد إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه .
ويعتبر في حلها له أن لا يظن الدافع فقره فإن أعطاه ظانا حاجته ففي الإحياء إن علم الآخذ ذلك لم يحل له ذلك وكذا إذا دفع إليه لعلمه أو صلاحه أو نسبه لم يحل له إلا أن يكون بالوصف المظنون " و " تحل لشخص " كافر " ففي الصحيحين في كل كبد رطبة أجر وأما حديث ولا يأكل طعامك إلا تقي أريد به بالأولى .
تنبيه : .
قضية إطلاقه الكافر أنه لا فرق بين الحربي وغيره وهو ما في البيان عن الصيمري والأوجه ما قاله الأذرعي من أن هذا فيمن له عهد أو ذمة أو قرابة أو يرجى إسلامه أو كان بأيدينا بأسر ونحوه فإن كان حربيا ليس فيه شيء مما ذكر فلا .
وشمل إطلاقه للصدقة عليه من أضحية تطوع والأوجه المنع كما نص عليه في البويطي .
ودفعها سرا .
أفضل من دفعها جهرا الآية " إن تبدوا الصدقات فنعما هي " ولما في الصحيحين في خبر السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه من قوله A ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تدري شماله ما أنفقت يمينه .
نعم إن كان ممن يقتدى به وأظهرها ليقتدي به من غير رياء ولا سمعة فهو أفضل .
و .
دفعها " في رمضان " أفضل من دفعها في غيره لما رواه الترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه سئل رسول الله A أي الصدقة أفضل قال صدقة في رمضان ولأن الفقراء فيه يضعفون ويعجزون عن الكسب بسبب الصوم .
وتتأكد في الأيام الفاضلة كعشر ذي الحجة وأيام العيد وكذا في الأماكن الشريفة كمكة والمدينة وفي الغزو والحج وعند الأمور المهمة كالكسوف والمرض والسفر .
قال الأذرعي ولا يفهم من هذا أن من أراد التطوع بصدقة أو بر في رجب أو شعبان مثلا أن الأفضل له أن يؤخره إلى رمضان أو غيره من الأوقات الفاضلة بل المسارعة إلى الصدقة أفضل بلا شك وإنما المراد أن التصدق في رمضان وغيره من الأوقات الشريفة أعظم أجرا مما يقع في غيرها .
و .
دفعها " لقريب " أقرب فأقرب رحما ولو كان ممن تجب نفقته أفضل من دفعها لغير القريب وللقريب غير الأقرب لقوله A الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة رواه الترمذي وحسنه وابن حبان وصححه وحكى في المجموع فيه الإجماع .
وفي الأشد من الأقارب عداوة أفضل منها في غيره ليتألف قلبه ولما فيه من مجانبة الرياء وكسر النفس " .
فائدة : .
سئل الحناطي هل الأفضل وضع الرجل صدقته في رحمه من قبل أبيه أو من قبل أمه فأجاب أنهما سواء وألحق بالأقارب الزوج من الذكور والإناث لخبر الصحيحين أن امرأتين أتيتا رسول الله A فقالتا لبلال سل لنا رسول الله A هل يجزىء أن نتصدق على أزواجنا ويتامى في حجورنا فقال نعم لهما أجران أجر القرابة وأجر الصدقة .
ويقال بالزوج الزوجة ثم هي بعد للأقرب فالأقرب من ذي الرحم المحرم من ألحق به في الأقرب فالأقرب من ذي الرحم غير المحرم كأولاد العم والخال ثم في الأقرب فالأقرب من المحرم رضاعا ثم مصاهرة ثم في الأقرب فالأقرب ولاء من الأعلى والأسفل .
و .
دفعها ل " جار " أقرب فأقرب " أفضل " من دفعها لغير الجار غير من تقدم لخبر البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها إن لي جارين فإلى أيهما أهدي فقال إلى أقربهما منك بابا وقدم الجار الأجنبي على قريب بعيد من دار المتصدق بل أو قريب منها بحيث لا تنقل إليه الزكاة فيهما ولو كان القريب ببادية فإن كانت تنقل إليه بأن كان في محلها قدم على الجار الأجنبي وإن بعدت داره وأهل الخير والمحتاجون أولى من غيرهم .
ويسن أن تكون الصدقة مما يحب لقوله تعالى " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " وأن يدفعها ببشاشة وطيب نفس لما فيه من تكثير الأجر وجبر القلب .
وتكره الصدقة بالرديء لقوله تعالى " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " فإن لم يجد غيره فلا كراهة وبما فيه شبهة لخبر مسلم السابق أول الباب .
ولا يأنف من التصدق بالقليل فإن قليل الخير كثير عند الله قال تعالى " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره " وقال A اتقوا النار ولو بشق تمرة ( 3 / 122 ) ولو بعث بشيء مع غيره إلى فقير فلم يجده استحب للباعث أن لا يعود فيه بل يتصدق به على غيره .
وتسن الصدقة بالماء لخبر أي الصدقة أفضل قال الماء أي في الأماكن المحتاج إليه فيها أكثر من غيره .
ويكره للإنسان أن يتملك صدقته أو زكاته أو كفارته أو نحوها من الذي أخذها لخبر العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئة ولأنه قد يستحي منه فيحابيه ولا يكره أن يتملكها من غير من ملكها له ولا بالإرث ممن ملكها له .
ومن عليه دين أو .
لم يكن عليه " و " لكن " له من تلزمه نفقته يستحب " له " أن لا يتصدق حتى يؤدي ما عليه " فالتصدق بدونه خلاف المستحب .
تنبيه : .
عبارة المصنف لا تطابق ما في المحرر وغيره من كتب الشيخين فإنهما قالا لا يستحب له أن يتصدق .
قال الولي العراقي وبين العبارتين تفاوت ظاهر وبيانه أن عبارة المصنف أفادت أن عدم التصدق مستحب فيكون التصدق خلاف الأولى وعبارة المحرر وغيره أن التصدق غير مستحب فتصدق بأن يكون واجبا أو حراما أو مكروها فإن ذلك كله غير مستحب .
قلت الأصح تحريم صدقته بما يحتاج إليه لنفقة من تلزمه نفقته .
أو يحتاج إليه لنفقة نفسه ولم يصبر على الإضاقة " أو لدين لا يرجو له وفاء " لو تصدق به " والله أعلم " أما تقديم ما يحتاجه للنفقة فلخبر كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت وابدأ بمن تعول رواه أبو داود بإسناد صحيح ورواه مسلم بمعناه .
ولأن كفايتهم فرض وهو مقدم على النفل والضيافة كالصدقة .
كما قاله المصنف في شرح مسلم قال وأما خبر الأنصاري الذي نزل به الضيف فأطعمه قوته وقوت صبيانه فمحمول على أن الصبيان لم يكونوا محتاجين حينئذ إلى الأكل وأما الرجل والمرأة فتبرعا بحقهما وكانا صابرين وإنما قال فيه لأمهم نوميهم خوفا من أن يطلبوا الأكل على عادة الصبيان في الطلب من غير حاجة .
وما ذكر من أنه يحرم عليه التصدق بما يحتاج إليه لنفسه صححه في المجموع ونقله في الروضة عن كثيرين لكنه صحح فيها عدم التحريم .
قال شيخنا وهو محمول على من صبر كما أفاده كلامه في المجموع .
وعلى الأول يحمل ما قالوه في التيمم من حرمة إيثار عطشان عطشان آخر بالماء وعلى الثاني يحمل ما في الأطعمة من أن للمضطر أن يؤثر على نفسه مضطرا آخر مسلما .
وأما تقديم الدين فلأن أداءه واجب فيتقدم على المسنون فإن رجاله وفاء من جهة أخرى ظاهرة فلا بأس بالتصدق به إلا إن حصل بذلك تأخير وقد وجب وفاء الدين على الفور بمطالبة أو غيرها فالوجه وجوب المبادرة إلى إيفائه وتحريم الصدقة بما يتوجه إليه دفعه في دينه كما قاله الأذرعي .
وفي استحباب الصدقة بما .
أي بكل ما " فضل عن حاجته " أي كفايته وكفاية من تلزمه كفايته يومه وليلته كسوة فصله لا ما يكفيه في الحال فقط لا ما يكفيه في سنته كما هو قضية كلام الإحياء ولوفاء دينه .
أوجه أصحها إن لم يشق عليه الصبر .
على الإضافة " استحب " له " وإلا فلا " يستحب بل يكره كما في التنبيه .
وعلى هذا التفصيل تحمل الأحاديث المختلفة الظاهر كخبر إن أبا بكر تصدق بجميع ماله رواه الترمذي وصححه وخبر خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى أي غنى النفس وصبرها على الفقر .
رواه أبو داود وصححه الحاكم .
والوجه الثاني يستحب مطلقا والثالث لا يستحب مطلقا .
أما الصدقة ببعض ما فضل عما ذكر فمستحب مطلقا إلا أن يكون قدرا يقارب الجميع فينبغي جريان التفصيل السابق فيه .
والمن بالصدقة حرام مبطل محبط للأجر لقوله تعالى " يا أيها الذين امنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى " ولخبر مسلم ثلاثة لا يكلمهم الله تعالى يوم القيامة لا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم قال أبو ذر خابوا وخسروا من هم يا رسول الله قال المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب .
خاتمة يكره للإنسان أن يسأل بوجه الله غير الجنة وأن يمنع من يسأل بالله وتشفع به لخبر لا يسأل بوجه الله إلا الجنة وخبر من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سأل بالله فأعطوه ومن دعاكم فأجيبوه ومن صنع لكم معروفا فكافئوه ( 3 / 123 ) فإن لم تجدوا ما تكافئونه به فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه رواه أبو داود .
وتسن التسمية عند الدفع إلى المتصدق عليه لأنها عبادة .
قال العلماء ولا يطمع المتصدق في الدعاء من المتصدق عليه لئلا ينقص أجر الصدقة فإن دعا له استحب أن يرد عليه مثلها لتسلم له صدقته .
ويسن التصدق عقب كل معصية قاله الجرجاني ومنه التصدق بدينار أو نصفه في وطء الحائض .
ويسن لمن لبس ثوبا جديدا أن يتصدق بالقديم ففي الحديث من لبس ثوبا جديدا ثم عمد إلى ثوبه الذي كان عليه فتصدق به لم يزل في حفظ الله حيا وميتا وليس هذا من التصدق بالرديء بل مما يحب وهذا كما جرت به العادة من التصدق بالفلوس دون الذهب والفضة وهل قبول الزكاة للمحتاج أفضل من قبول صدقة التطوع أو لا وجهان رجح الأول جماعة منهم ابن المقري لأنه أعانه على واجب ولأن الزكاة لا منة فيها ورجح الثاني آخرون منهم الجنيد والخواص لئلا يضيق على الأصناف ولئلا يخل بشرط من شروط الأخذ ولم يرجح في الروضة واحدا منهما .
ثم قال عقب ذلك قال الغزالي والصواب أنه يختلف بالأشخاص فإن عرض له شبهة في استحقاقه لم يأخذ الزكاة وإن قطع به فإن كان المتصدق إن لم يأخذ هذا منه لا يتصدق فليأخذها فإن أخراج الزكاة لا بد منه وإن كان لا بد من إخراجها ولم يضيق بالزكاة تخير وأخذها أشد في كسر النفس اه " .
أي فهو حينئذ أفضل وهذا هو الظاهر .
وأخذ الصدقة في الملأ وتركه في الخلوة أفضل لما في ذلك من كسر النفس .
ويسن للراغب في الخير أن لا يخلو يوما من الأيام من الصدقة بشيء وإن قل لخبر البخاري ما من يوم يصبح العباد إلا وملكان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا ولخبر الحاكم في صحيحه كل امرىء في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس أو قال حتى يحكم بين الناس