باب الهدي .
يستحب لمن قصد مكة حاجا أو معتمرا أن يهدي إليها من بهيمة الأنعام وينحره ويفرقه لما روي أن رسول الله A أهدى مائة بدنة والمستحب أن يكون ما يهديه سمينا حسنا لقوله D : { ومن يعظم شعائر الله } [ الحج : 32 ] قال ابن عباس في تفسيرها : الاستسمان والاستحسان والاستعظام فإن نذر وجب عليه لأنه قربة فلزمه بالنذر فإن كان من الإبل والبقر فالمستحب أن يشعرها في صفحة سنامها الأيمن ويقلدها نعلين لما روى ابن عباس Bهما أن النبي A صلى الظهر في ذي الحليفة ثم أتي ببدنة فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن ثم سلت الدم عنها ثم قلدها نعلين ولأنه ربما اختلط بغيره فإذا أشعر وقلد تميز وربما ند فيعرف بالأشعار والتقليد فيرد وإن كان غنما قلدها لما روت عائشة Bها أن النبي A أهدى مرة غنما مقلدة وتقلد الغنم خرب القرب لأن الغنم يثقل عليها حمل النعال ولا يشعرها لأن الإشعار لا يظهر في الغنم لكثرة شعرها وصوفها .
فصل : فإن كان تطوعا فهو باق على ملكه وتصرفه إلى أن ينحر وإن كان نذرا زال ملكه عنه وصار للمساكين فلا يجوز له بيعه ولا إبداله بغيره لما روى ابن عمر Bهما أن عمر Bه أتى النبي A فقال : يا رسول الله أهديت نجيبة وأعطيت بها ثلثمائة دينار أفأبيعها وأبتاع بثمنها بدنا وأنحرها ؟ قال : [ لا ولكن انحرها إياها ] فإن كل مما يركب جاز له أن يركبه بالمعروف إذا احتاج لقوله تعالى : { لكم فيها منافع إلى أجل مسمى } [ الحج : 33 ] وسئل جابر Bه عن ركوب الهدي فقال : سمعت رسول الله A يقول [ اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها ] فإن نقصت بالركوب ضمن النقصان وإن نتجت تبعها الولد وينحره معها سواء حدث بعد النذر أو قبله لما روي أن عليا Bه رأى رجلا يسوق بدنة ومعها ولدها فقال : لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها فإذا كان يوم النحر فاذبحها وولدها ولأنه معنى يزيل الملك فاستتبع الولد كالبيع والعتق فإن لم يمكنه أن يمشي حمله على ظهر الأم لما روي أن عمر كان يحمل ولد البدنة إلى أن يضحي عليها ولا يشرب من لبنها إلا ما لا يحتاج إليه الولد لقول علي كرم الله وجهه ولأن اللبن غذاء الولد والولد كالأم فإذا لم يجز أن يمنع الأم علفها لم يجز أن يمنع الولد غذاءه وإن فضل عن الولد شيء فله أن يشربه لقوله D : { لكم فيها منافع إلى أجل مسمى } [ الحج : 33 ] ولقول علي Bه والأولى أن يتصدق به وإن كان لها صوف نظرت فإن كان في تركه صلاح بأن يكون في الشتاء وتحتاج إليه للدفء لم يجزه لأنه ينتفع به الحيوان في دفع البرد عنه وينتفع به المساكين عند الذبح وإن كان الصلاح في جزه بأن يكون في وقت الصيف وقد بقي إلى وقت النحر مدة طويلة جزه لأنه يترفه به الهدي ويستمر فتنتفع به المساكين فإن أحصر نحره حيث أحصر كما قلنا في هدي المحصر وإن تلف من غير تفريط لم يضمنه لأنه أمانة عنده فإذا هلكت من غير تفريط لم تضمن كالوديعة وإن أصابه عيب ذبحه وأجزأه لأن ابن الزبير أتى في هداياه بناقة عوراء فقال : إن كان أصابها بعد ما اشتريتموها فامضوها وإن كان أصابها قبل أن تشتروها فابدلوها ولأنه لو هلك جميعه لم يضمنه فإذا نقص بعضه لم يضمنه كالوديعة .
فصل : وإن عطب وخاف أن يهلك نحره وغمس نعله في دمه وضرب به صفحته لما روى أبو قبيصة أن رسول الله A كان يبعث بالهدي ثم يقول : [ إن عطب منها شيء فخشيت عليه موتا فانحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب صفحتها ولا تطعمها أنت ولا أحد من رفقتك ] ولأنه هدي معكوف عن الحرم فوجب نحره مكانه كهدي المحصر وهل يجوز أن يفرقه على فقراء الرفقة ؟ فيه وجهان : أحدهما لا يجوز لحديث أبي قميصة ولأن فقراء الرفقة يتهمون في سبب عطبها فلم يطعموا منها والثاني يجوز لأنهم من أهل الصدقة فجاز أن يطعموا كسائر الفقراء فإن أخر ذبحه حتى مات ضمنه لأنه مفرط في تركه فضمنه كالمودع إذا رأى من يسرق الوديعة فسكت عنه حتى سرقها وإن أتلفها لزمه الضمان لأنه أتلف مال المساكين فلزمه ضمانه ويضمنه بأكثر المرين من قيمته أو هدي مثله لأنه لزمه الإراقة والتفرقة وقد فوت الجميع فلزمه ضمانهما كما لو أتلف شيئين فإن كانت القيمة مثل ثمن مثله اشترى مثله وأهداه وإن كانت أقل لزمه أن يشتري مثله ويهديه وإن كانت أكثر من ذلك نظرت فإن كان يمكنه أن يشتري به هديين اشتراهما وإن لم يمكنه اشترى هدايا وفيما يفضل ثلاثة أوجه : أحدها يشتري به جزءا من حيوان ويذبح لأن إراقة الدم مستحقة فإذا أمكن لم يترك والثاني أنه يشتري به اللحم لأن اللحم والإراقة مقصودان والإراقة تشق فسقطت والتفرقة لا تشق فلم تسقط والثالث أن يتصدق بالفاضل لأنه إذا سقطت الإراقة كان اللحم والقيمة واحدا وإن أتلفها أجنبي وجبت عليه القيمة فإن كانت القيمة مثل ثمن مثلها اشترى بها مثلها وإن كانت أكثر ولم تبلغ ثمن مثلين اشترى المثل وفي الفاضل الأوجه الثلاثة وإن كانت أقل من ثمن المثل ففيه الأوجه الثلاثة وإن كان الهدي الذي نذره اشتراه ووجد به عيبا بعد النذر لم يجز له الرد بالعيب لأنه قد أيس من الرد لحق الله D ويرجع بالأرض ويكون الأرش للمساكين لأنه بدل عن الجزء الفائت الذي التزمه بالنذر فإن لم يمكنه أن يشتري به هدايا ففيه الأوجه الثلاثة .
فصل : وإن ذبحه أجنبي بغير إذنه أجزأه عن النذر لأن ذبحه لا يحتاج إلى قصده فإذا فعله بغير إذنه وقع الموقع كرد الوديعة وإزالة النجاسة ويجب على الذابح ضمان ما بين قيمته حيا ومذبوحا ولأنه لو أتلفه ضمنه فإذا ذبحه ضمن نقصانه كشاة اللحم وفيما يؤخذ منه الأوجه الثلاثة .
فصل : وإن كان في ذمته هدي فعينه بالنذر في هدي تعين لأن ما وجب معينا جاز أن يتعين به ما في الذمة كالبيع ويزول ملكه عنه فلا يملك بيعه ولا إبداله كما قلنا فيما أوجبه بالنذر فإن هلك بتفريط أو بغير تفريط رجع الواجب إلى ما في الذمة كما لو كان عليه دين فباع به عينا ثم هلكت العين قبل التسليم فإن الدين يرجع إلى الذمة وإن حدث به عيب يمنع الإجزاء لم يجزه عما في الذمة لأن الذي في الذمة سليم فلم يجزه عنه معيب وإن عطب فنحره عاد الواجب إلى ما في الذمة وهل يعود ما نحره إلى ملكه فيه وجهان : أحدهما يعود إلى ملكه لأنه إنما نحره ليكون عما في ذمته فإذا لم يقع عما في ذمته عاد إلى ملكه والثاني أنه لا يعود لأنه صار للمساكين فلا يعود إليه فإن قلنا إنه يعود إلى ملكه جاز له أن يأكله ويطعم من شاء ثم ينظر فيه فإن كان الذي في ذمته مثل الذي عاد إلى ملكه نحر مثله في الحرم وإن كان أعلى مما ذمته ففيه وجهان : أحدهما يهدي مثل ما نحر لأنه قد تعين عليه فصار ما في ذمته زائدا فلزمه نحر مثله والثاني أنه يهدي مثل الذي كان في ذمته لأن الزيادة فيما عينه وقد هلك من غير تفريط فسقط وإن نتجت فهل يتبعها ولدها أم لا ؟ فيه وجهان : أحدهما أنه يتبعها وهو الصحيح لأنه تعين بالنذر فصار كما لو وجب في النذر والثاني لا يتبعها لأنه غير مستقر لأنه يجوز أن يرجع إلى ملكه بعيب يحدث به بخلاف ما وجب بنذره لأن ذلك لا يجوز أن يعود إلى ملكه بنذره والله أعلم