باب ما يجب على القاضي في الخصوم والشهود .
إذا حضر الخصوم واحدا بعد واحد قدم الأول فالأول لأن الأول سبق إلى حق له فقدم على من بعده كما لو سبق إلى موضع مباح وإن حضروا في وقت واحد أو سبق بعضهم واشكل السابق أقرع بينهم فمن خرجت له القرعة قدم لأنه لا مزية لبعضهم على بعض فوجب القديم بالقرعة كما قلنا فيمن أراد السفر ببعض نسائه فإن ثبت السبق لأحدهم فقدم السابق غيره على نفسه جاز لأن الحق له فجاز أن يؤثر به غيره كما لو سبق إلى منزل مباح ولا يقدم السابق في أكثر من حكومة لأنا لو قدمناه في أكثر من حكومة استوعب المجلس بدعاويه وأضر بالباقين وإن حضر مسافرون ومقيمون في وقت واحد نظرت فإن كان المسافرون قليلا وهم على الخروج قدموا لأن عليهم ضررا في المقام ولا ضرر على المقيمين وحكى بعض أصحابنا فيه وجها آخر أنهم لا يقدمون إلا بإذن المقيمين لتساويهم في الحضور وظاهر النص هو الأول وإن كان المسافرون مثل المقيمين أو أكثر لم يجز تقديمهم من غير رضى المقيمين لأن في تقديمهم إضرارا بالمقيمين والضرر لا يزال بالضرر وإن تقدم إلى الحاكم اثنان فادعى أحدهما على الآخر حقا فقال المدعي قدم السابق بالدعوى لأن ما يدعيه كل واحد منهما محتمل وللسابق بالدعوى حق السبق فقدم .
فصل : وعلى الحاكم أن يسوي بين الخصمين في الدخول والإقبال عليهما والاستماع منهما لما روت أم سلمة Bها أن النبي A قال : [ من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه ولفظه وإشارته ومقعده ] وكتب عمر Bه إلى أبي موسى الأشعري آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك ولأنه إذا قدم أحدهما على الآخر في شيء من ذلك انكسر الآخر ولا يتمكن من استيفاء حجته والمستحب أن يجلس الخصمان بين يديه لما روى عبد الله بن الزبير قال : قضى رسول الله A أن يجلس الخصمان بين القاضي ولأن ذلك أمكن لخطابهما وإن كان أحدهما مسلما والآخر ذميا ففيه وجهان : أحدهما أنه يسوي بينهما في المجلس كما يسوي بينهما في الدخول والإقبال عليهما والإسماع منهما والثاني أنه يرفع المسلم على الذمي في المجلس وأجلس عليا كرم الله وجهه فيه فقال علي كرم الله وجهه لولا أني سمعت رسول الله A يقول : [ لا تسووا بينهم في المجالس لجلست معه بين يديك ] ولا يضيف أحدهما دون الآخر لما روي أن رجلا نزل بعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقال له : ألك خصم قال : نعم قال تحول عنا فإني سمعت رسول الله A يقول : [ لا يضيفن أحد الخصمين إلا ومعه خصمه ] ولأن في إضافة أحدهم إظهار الميل وترك العدل ولا يسار أحدهما ولا يلقنه حجة لما ذكرناه ولا يأمر أحدهما بإقرار لأن فيه إضرارا به ولا بإنكار لأن فيه إضرارا بخصمه وإن ادعى أحدهما دعوى غير صحيحة فهل له أن يلقنه كيف يدعي فيه وجهان : أحدهما وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه يجوز لأنه لا ضرر على الآخر في تصحيح دعواه والثاني أنه لا يجوز لأنه ينكسر قلب الآخر ولا يتمكن من استيفاء حجته وله أن يزن عن أحدهما ما عليه لأن في ذلك نفعا لهما وله أن يشفع لأحدهما لأن الإجابة إلى المشفوع إليه إن شاء شفعه وإن شاء لم يشفعه وإن مال قلبه إلى أحدهما أو أحب أن يفلح أحدهما على خصمه ولم يظهر ذلك منه بقول ولا فعل جاز لأنه لا يمكن التسوية بينهما في المحبة والميل بالقلب ولهذا قلنا يلزمه التسوية بين النساء في القسم ولا يلزمه التسوية بينهن في المحبة والميل بالقلب .
فصل : ولا ينتهر خصما لأن ذلك يكسره ويمنعه من استيفاء الحجة وإن ظهر من أحدهما لدد أو سوء أدب نهاه فإن عاد زبره وإن عاد عزره ولا يزجر شاهدا ولا يتعنته لأن ذلك يمنعه من الشهادة على وجهها ويدعوه إلى ترك القيام بتحمل الشهادة وأدائها وفي ذلك تضييع للحقوق .
فصل : فإن كان بين نفسين حكومة فدعا أحدهما صاحبه إلى مجلس الحكم وجبت عليه إجابته لقوله تعال : { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } [ النور : 51 ] فإن لم يحضر فاستعدى عليه الحاكم وجب عليه أن يعديه لأنه إذا لم يعده أدى ذلك إلى إبطال الحقوق فإن استدعاه الحاكم فامتنع من الحضور تقدم إلى صاحب الشرطة ليحضره وإن كان بينه وبين غائب حكومة ولم يكن عليه بينة فاستعدى الحاكم عليه فإن كان الغائب في موضع فيه حاكم كتب إليه لينظر بينهما وإن لم يكن حاكم وهناك من يتوس بينهم كتب إليه لينظر بينهما وإن لم يكن من ينظر بينهما لم يحضره حتى يحقق الدعوى لأنه يجوز أن يكون ما يدعيه ليس بحق عنده كالشفعة للجار وثمن الكلب وقيمة خمر النصراني فلا يكلفه تحمل المشقة للحضور لما لا يقضي به ويخالف الحاضر في البلد حيث قلنا إنه يحضر قبل أن يحقق المدعي دعواه لأنه لا مشقة عليه في الحضور فإن حقق الدعوى على الغائب أحضره لما روي أن أبا بكر الصديق Bه كتب إلى المهاجرين أمية أن ابعث إلي بقيس بن مكشوح في وثاق فأحلفه خمسين يوما على منبر رسول الله A : ما قتل دادويه ولأنا لو لم نلزمه الحضور جعل البعد طريقا إلى إبطال الحقوق فإن استعداه على امرأة فإن كانت برزة فهي كالجل لأنها كالرجل في الخروج للحاجات وإن كانت غير برزة لم تكلف الحضور بل توكل من يخاطب عنها وإن توجهت عليها يمين بعض إليها من يحلفها لأن النبي A قال يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فبعث من يسمع إقرارها ولم يكلفها الحضور