باب ما يقع به الطلاق و ما لا يقع .
لا يقع الطلاق إلا بصريح أو كناية مع النية فإن نوى الطلاق من غير صريح و لا كناية لم يقع الطلاق لأن التحريم في الشرع علق على الطلاق و نية الطلاق ليست بطلاق و لأن إيقاع الطلاق بالنية لا يثبت إلا بأصل أو بالقياس على ما ثبت بأصل و ليس ههنا أصل و لا قياس على ما ثبت بأصل فلم يثبت .
فصل : و الصريح ثلاثة ألفاظ : الطلاق و الفراق و السراح لأن الطلاق ثبت له عرف الشرع و اللغة و السراح و الفراق ثبت لهما عرف الشرع فإنهما ورد بهما القرآن فإذا قال لامرأته أنت طالق أو طلقتك أو أنت مطلقة أو سرحتك أو أنت مسرحة أو فارقتك أو أنت مفارقة وقع الطلاق من غير نية فإن خاطبها بأحد هذه الألفاظ ثم قال أردت غيرها فسبق لساني إليها لم يقبل لأنه يدعي خلاف الظاهر و يدين فيما بينه و بين الله تعالى لأنه يحتمل ما يدعيه و إن قال أنت طالق و قال أردت طلاقا من وثاق أو قال سرحتك و قال أردت تسريحا من اليد أو قال فارقتك و قال أردت فراقا بالجسم لم يقبل في الحكم لأنه يدعي خلاف ما يقتضيه اللفظ في العرف و يدين فيما بينه و بين الله تعالى لأنه يحتمل ما يدعيه فإن علمت المرأة صدقه فيما دين فيه الزوج جاز لها أن تقيم معه و إن رآهما الحاكم على الاجتماع ففيه وجهان : أحدهما يفرق بينهما بحكم الظاهر لقوله صلى الله عليه و سلم : [ أحكم بالظاهر و الله عز و جل يتولى السرائر ] و الثاني لا يفرق بينهما لأنهما على اجتماع يجوز إباحته في الشرع و إن قال أنت طالق من وثاق أو سرحتك من اليد أو فارقتك بجسمي لم تطلق لأنه اتصل بالكلام ما يصرف اللفظ عن حقيقته و لهذا إذ قال لفلان علي عشرة إلا خمسة لم يلزمه عشرة و إذا قال لا إله إلا الله لم يجعل كافرا بابتداء كلامه و إن قال أنت طالق ثم قال قلته هازلا وقع الطلاق و لم يدن لما روى أبو هريرة Bه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ثلاث جدهن جد و هزلهن جد النكاح و الطلاق و الرجعة ] .
فصل : قال في الإملاء : لو قال له رجل طلقت امرأتك فقال نعم طلقت عليه في الحال لأن الجواب يرجع إلى السؤال فيصير كما لو قال طلقت و لهذا لو كان هذا جوابا عن دعوى لكان صريحا في الإقرار و إن قال أردت به في نكاح قبله فإن كان لما قاله أصل قبل منه لأن اللفظ يحتمله و إن لم يكن له أصل لم يقبل لأنه يسقط حكم اللفظ و إن قال له أطلقت امرأتك فقال له قد كان بعض ذلك و قال أردت أني كنت علقت طلاقها بصفة قبل منه لأنه يحتمله اللفظ و إن قال لامرأته أنت طالق لولا أبوك لطلقتك لم تطلق لأن قوله أنت طالق لولا أبوك ليس بإيقاع طلاق و إنما هو يمين بالطلاق و أنه لولا أبوها لطلقها فتصير كما لو قال و الله لولا أبوك لطلقتك .
فصل : و أما الكناية فهي كثيرة و هي الألفاظ التي تشبه الطلاق و تدل على الفراق و ذلك مثل قوله : أنت بائن و خلية و برية و بتة وبتلة و حرة و واحدة و بيني و ابتدعي و اغربي و اذهبي و استفلحي و الحقي بأهلك و حبلك على غاربك و استتري و تقنعي و اعتدي و تزوجي و ذوقي و تجرعي و ما أشبه ذلك فإن خاطبها بشيء من ذلك و نوى به الطلاق وقع و إن لم ينو لم يقع لأنه يحتمل الطلاق و غيره فإذا نوى به الطلاق صار طلاقا و إذا لم ينو به الطلاق لم يصر طلاقا كالإمساك عن الطعام و الشراب لما احتمل الصوم و غيره إذا نوى به الصوم صار صوما و إذا لم ينو به الصوم لم يصر صوما و إن قال أنا منك طالق أو جعل الطلاق إليها فقالت طلقتك أو أنت طالق فهو كناية يقع به الطلاق مع النية و لا يقع من غير نية لأن استعمال هذا اللفظ في الزوج غير متعارف و إنما يقع به الطلاق مع النية من جهة المعنى فلم يقع به من غير نية كسائر الكنايات و إن قال له رجل ألك زوجة فقال لا فإن لم ينو به الطلاق لم تطلق لأنه ليس بصريح و إن نوى به الطلاق وقع لأنه يحتمل الطلاق .
فصل : و اختلف أصحابنا في الوقت الذي تعتبر فيه النية في الكنايات فمنهم من قال إذا قارنت النية بعض اللفظ من أوله أو من آخره وقع الطلاق كما أن في الصلاة إذا قارنت النية جزءا منها صحت الصلاة و منهم من قال لا تصح حتى تقارن إليه جميعها و هو أن ينوي و يطلق عقيبها و هو ظاهر النص لأن بعض اللفظ لا يصلح للطلاق فلم تعمل النية معه فأما الصلاة فلا تصح حتى تقارن النية جميعها بأن ينوي الصلاة و يكبر عقيبها و متى خلا جزء من التكبير عن النية لم تصلح صلاته .
فصل : و أما ما لا يشبه الطلاق و لا يدل على الفراق من الألفاظ كقوله اقعدي و اقربي و اطعمي و اسقيني و ما أحسنك و بارك الله فيك و ما أشبه ذلك فإنه لا يقع به الطلاق و إن نوى لأن اللفظ لا يحتمل الطلاق فلو أوقعنا الطلاق لأوقعناه بمجرد النية و قد بينا أن الطلاق لا يقع بمجرد النية .
فصل : و اختلف أصحابنا في قوله أنت الطلاق فمنهم من قال هو كناية فإن نوى به الطلاق فهو طلاق لأنه يحتمل أن يكون معناه أنت طالق و أقام المصدر مقام الفاعل كقوله تعالى : { أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا } ( الملك : 30 ) أراد غائرا و إن لم ينو لم يقع لأن قوله أنت الطلاق لا يقتضي وقوع الطلاق و منهم من قال هو صريح و يقع به الطلاق من غير نية لأن لفظ الطلاق يستعمل في معنى طالق و الدليل عليه قول الشاعر : .
( أنوهت باسمي في العالمين ... و أفنيت عمري عاما فعاما .
فأنت الطلاق و أنت الطلاق و أنت الطلاق ثلاثا تماما ) .
و قال آخر : .
( فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن ... و إن تخرقي يا هند فالخرق آلم .
فأنت الطلاق و الطلاق عزيمة ثلاثا و من يخرق أعق و أظلم .
فبيني بها إن كنت غير رفيقة فما لامرئ بعد الثلاثة مقدم ) .
فصل : و اختلفوا فيمن قال لامرأته كلي و اشربي و نوى الطلاق فمنهم من قال لا يقع و هو قول أبي اسحق لأنه لا يدل على الطلاق فلم يقع به الطلاق كما لو قال أطعميني و اسقيني و منهم من قال يقع و هو الصحيح لأنه يحتمل معنى الطلاق و هو أن يريد كلي ألم الفراق و اشربي كأس الفراق فوقع به الطلاق مع النية كقوله ذوقي و تجرعي .
فصل : إذا قال لامرأته اختاري أو أمرك بيدك فقالت اخترت لم يقع الطلاق حتى ينويا لأنه كناية لأنها تحتمل الطلاق و غيره فلم يقع به الطلاق حتى يتفقا على نية الطلاق و إن قال اختاري و نوى اختيار الطلاق أو قال أمرك بيدي و نوى تمليك أمر الطلاق فقالت اخترت الزوج لم يقع الطلاق لما روت عائشة Bها قالت : خيرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فاخترناه فلم تجعل ذلك طلاقا و لأن اختيار الزوج اختيار النكاح لا يحتمل غيره فلم يقع به الطلاق فإن قالت اخترت نفسي لم يقع الطلاق حتى تنوي الطلاق لأنه يحتمل أن يكون معناه اخترت نفسي للنكاح و يحتمل اخترت نفسي للطلاق و لهذا لو صرحت به جاز فلم يقع به الطلاق من غير نية و إن قالت اخترت الأزواج و نوت الطلاق ففيه وجهان : أحدهما و هو قول أبي إسحاق أنه لا يقع لأن الزوج من الأزواج و الثاني يقع و هو الأظهر عندي لأنها لا تحل للأزواج إلا بمفارقته كما لو قال لها الزوج تزوجي و نوى به الطلاق و إن قالت اخترت أبوي و نوت الطلاق ففيه وجهان : أحدهما لا يقع الطلاق لأن اختيار الأبوين لا يقتضي فراق الزوج و الثاني أنه يقع لأنه يتضمن العود إليهما بالطلاق فصار كقوله الحقي بأهلك و إن قال لها أمرك بيدك و نوى به إيقاع الطلاق ففيه وجهان : أحدهما لا يقع الطلاق لأنه صريح في تمليك الطلاق و تعليقه على قبولها فلم يجز صرفه إلى الإيقاع و الثاني أنه يقع لأن اللفظ يحتمل الإيقاع فهو كقوله حبلك على غاربك .
فصل : إذا قال لامرأته أنت علي حرام و نوى به الطلاق فهو طلاق لأنه يحتمل التحريم بالطلاق و إن نوى به الظهار فهو ظهار لأنه يحتمل التحريم بالظهار و لا يكون ظهارا و لا طلاقا من غير نية لأنه ليس بصريح في واحد منهما و إن نوى تحريم عينها لم تحرم لما روى سعيد بن جبير قال : جاء رجل إلى ابن عباس Bه فقال : إني جعلت امرأتي علي حراما قال : كذبت ليست عليك بحرام ثم تلا { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك و الله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } إلى آخر الآية و يجب عليه بذلك كفارة يمين لأن النبي صلى الله عليه و سلم حرم مارية القبطية أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزل الله عز و جل : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك و الله غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم و الله مولاكم } ( التحريم : 1 - 2 ) فوجبت الكفارة في الأمة بالآية و قسنا الحرة عليها لأنها في معناها في تحليل البضع و تحريمه و إن قال أنت علي حرام و لم ينو شيئا ففيه قولان : أحدهما تجب عليه الكفارة فعلى هذا يكون هذا اللفظ صريحا في إيجاب الكفارة لأن كل كفارة وجبت بالكناية مع النية كان لوجوبها صريح ككفارة الظهار و الثاني لا يجب فعلى هذا لا يكون هذا اللفظ صريحا في شيء لأن ما كان كناية في جنس لا يكون صريحا في ذلك الجنس ككنايات الطلاق و إن قال لأمته أنت علي حرام فإن نوى به العتق كان عتقا لأنه يحتمل أنه أراد تحريمها بالعتق و إن نوى الظهار لم يكن ظهارا لأن الظهار لا يصح من الأمة و إن نوى تحريم عينها لم تحرم و وجب عليه كفارة يمين لما ذكرناه و إن لم يكن له نية ففيه طريقان : من أصحابنا من قال يجب عليه الكفارة قولا واحدا لعموم الآية و منهم من قال فيه قولان كالقولين في الزوجة لما ذكرناه و إن كان له نسوة أو إماء فقال أنتن علي حرام ففي الكفارة قولان : أحدهما يجب لكل واحدة كفارة و الثاني يجب كفارة واحدة كالقولين فيمن ظاهر من نسوة و إن قال لامرأته أنت علي كالميتة و الدم فإن نوى به الطلاق فهو طلاق و إن نوى به الظهار فهو ظهار و إن نوى به تحريمها لم تحرم و عليه كفارة يمين لما ذكرناه في لفظ التحريم و إن لم ينو شيئا فإن قلنا إن لفظ التحريم صريح في إيجاب الكفارة لزمته الكفارة لأن ذلك كناية عنه و إن قلنا إنه كناية لم يلزم شيء لأن الكناية لا يكون لها كناية .
فصل : إذا كتب طلاق امرأته بلفظ صريح و لم ينو لم يقع الطلاق لأن الكتابة تحتمل إيقاع الطلاق و تحتمل امتحان الخط فلم يقع الطلاق بمجردها و إن نوى به الطلاق ففيه قولان : قال في الإملاء لا يقع به الطلاق لأنه فعل ممن يقدر على القول فلم يقع به الطلاق كالاشارة و قال في الأم هو طلاق و هو صحيح لأنها حروف يفهم منها الطلاق فجاز أن يقع بها الطلاق كالنطق فإذا قلنا بهذا فهل يقع بها الطلاق من الحاضر و الغائب فيه وجهان : أحدهما أنه يقع بها إلا في حق الغائب لأنه جعل في العرف لإفهام الغائب كما جعلت الإشارة لإفهام الأخرس ثم لا يقع الطلاق بالإشارة إلا في حق الأخرس و كذلك لا يقع الطلاق بالكتابة إلا في حق الغائب و الثاني أنه يقع بها من الجميع لأنها كناية فاستوى فيها الحاضر و الغائب كسائر الكنايات .
فصل : فإن أشار إلى الطلاق فإن كان لا يقدر على الكلام كالأخرس صح طلاقه بالإشارة و تكون إشارته صريحا لأنه لا طريق له إلى الطلاق إلا بالإشارة و حاجته إلى الطلاق كحاجته غيره فقامت الإشارة مقام العبارة و إن كان قادرا على الكلام لم يصح طلاقه بالإشارة لأن الإشارة إلى الطلاق ليست بطلاق إنما قامت مقام العبارة في حق الأخرس لموضع الضرورة و لا ضرورة ههنا فلم تقم مقام العبارة