- ( القسم الأول ) وهذا القسم النظر فيه إلى جنس الثمن وجنس المنفعة التي يكون الثمن مقابلا له وصفتها . فأما الثمن فينبغي أن يكون مما يجوز بيعه وقد تقدم ذلك في باب البيوع . وأما المنفعة فينبغي أن تكون من جنس ما لم ينه الشرع عنه وفي كل هذه مسائل اتفقوا عليها واختلفوا فيها فمما اجتمعوا على إبطال إجارته كل منفعة كانت لشيء محرم العين كذلك كل منفعة كانت محرمة بالشرع مثل أجر النوائح وأجر المغنيات وكذلك كل منفعة كانت فرض عين على الإنسان بالشرع مثل الصلاة وغيرها واتفقوا على إجارة الدور والدواب والناس على الأفعال المباحة وكذلك الثياب والبسط . واختلفوا في إجارة الأرضين وفي إجارة المياه وفي إجارة المؤذن وفي الإجارة على تعليم القرآن وفي إجارة نزو الفحول . فأما كراء الأرضين فاختلفوا فيها اختلافا كثيرا فقوم لم يجيزوا ذلك بتة وهم الأقل وبه قال طاوس وأبو بكر ابن عبد الرحمن وقال الجمهور بجواز ذلك . واختلف هؤلاء فيما يجوز به كراؤها فقال قوم : لا يجوز كراؤها إلا بالدراهم والدنانير فقط وهو مذهب ربيعة وسعيد بن المسيب وقال قوم : يجوز كراء الأرض بكل شيء ما عدا الطعام وسواء كان ذلك بالطعام الخارج منها أو لم يكن وما عدا ما ينبت فيها كان طعاما أو غيره وإلى هذا ذهب مالك وأكثر أصحابه . وقال آخرون : يجوز كراء الأرض بما عدا الطعام فقط وقال آخرون : يجوز كراء الأرض بكل العروض والطعام وغير ذلك ما لم يكن بجزء مما يخرج منها من الطعام وممن قال بهذا القول سالم بن عبد الله وغيره من المتقدمين وهو قول الشافعي وظاهر قول مالك في الموطأ وقال قوم : يجوز كراؤها بكل شيء وبجزء مما يخرج منها وبه قال أحمد والثوري والليث وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وابن أبي ليلى والأوزاعي وجماعة . وعمدة من لم يجز كراءها بحال ما رواه مالك بسنده عن رافع بن خديج " أن رسول الله A نهى عن كراء المزارع " قالوا : وهذا عام وهؤلاء لم يلتفتوا إلى ما روى مالك من تخصيص الراوي له حين روى عنه قال حنظلة : فسألت رافع بن خديج عن كرائها بالذهب والورق فقال : لا بأس به . وروي هذا عن رافع ابن عمر وأخذ بعمومه وكان ابن عمر قبل يكري أرضه فترك ذلك وهذا بناء على رأي من يرى أنه لا يخصص العموم بقول الراوي . وروي عن رافع ابن خديج عن أبيه قال " نهى رسول الله A عن إجارة الأرضين " قال أبو عمر بن عبد البر .
واحتجوا أيضا بحديث ضمرة عن ابن شوذب عن مطرف عن عطاء عن جابر قال : خطبنا رسول الله A فقال " من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها ولا يؤاجرها " فهذه هي جملة الأحاديث التي تمسك بها من لم يجز كراء الأرض . وقالوا أيضا من جهة المعنى : إنه لم يجز كراؤها لما في ذلك من الغرر لأنه ممكن أن يصيب الزرع جائحة من نار أو قحط أو غرق فيكون قد لزمه كراؤها من غير أن ينتفع من ذلك بشيء . قال القاضي : ويشبه أن يقال في هذا إن المعنى في ذلك قصد الرفق بالناس لكثرة وجود الأرض كما نهى عن بيع الماء ووجه الشبه بينهما أنهما أصلا الخلقة . وأما عمدة من لم يجز كراءها إلا بالدراهم والدنانير فحديث طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج عن النبي A أنه قال " إنما يزرع ثلاثة رجل له أرض فيزرعها ورجل منح أرضا فهو يزرع ما منح ورجل اكترى بذهب أو فضة " قالوا : فلا يجوز أن يتعدى ما في هذا الحديث والأحاديث الأخر مطلقة وهذا مقيد ومن الواجب حمل المطلق على المقيد . وعمدة من أجاز كراءها بكل شيء ما عدا الطعام وسواء كان الطعام مدخرا أو لم يكن حديث يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار عن رافع بن خديج قال : قال رسول الله A " من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه بثلث ولا ربع ولا بطعام معين " قالوا : وهذا هو معنى المحاقلة التي نهى رسول الله A عنها وذكروا حديث سعيد بن المسيب مرفوعا وفيه : والمحاقلة استكراء الأرض بالحنطة . قالوا : وأيضا فإنه من باب بيع الطعام بالطعام نسيئة .
وعمدة من لم يجز كراءها بالطعام ولا بشيء مما يخرج منها أما بالطعام فحجته حجة من لم يجز كراءها بالطعام . وأما حجته على منع كرائها مما تنبت فهو ما ورد من نهيه A عن المخابرة قالوا : وهي كراء الأرض بما يخرج منها وهذا هو قول مالك وكل أصحابه . وعمدة من أجاز كراءها بجميع العروض والطعام وغير ذلك مما يخرج منها أنه كراء منفعة معلومة بشيء معلوم فجاز قياسا على إجارة سائر المنافع وكأن هؤلاء ضعفوا أحاديث رافع . روي عن سالم ابن عبد الله وغيره في حديث رافع أنهم قالوا : اكترى رافع . قالوا : وقد جاء في بعض الروايات عنه ما يجب أن يحمل عليها سائرها قال " كنا أكثر أهل المدينة حقلا قال : وكان أحدنا يكري أرضه ويقول : هذه القطعة لي وهذه لك وربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهاهم النبي A " خرجه البخاري . وأما من لم يجز كراءها بما يخرج منها فعمدته النظر والأثر . وأما الأثر فما ورد من النهي عن المخابرة وما ورد من حديث ابن خديج عن ظهير بن رافع قال " نهانا رسول الله A عن أمر كان رفقا بنا فقلت ما قال رسول الله A فهو حق قال : " دعاني رسول الله A فقال : ما تصنعون بمحاقلكم ؟ قلنا : نؤاجرها على الربع وعلى الأوسق من التمر والشعير فقال رسول الله A : لا تفعلوا ازرعوها أو زارعوها أو أمسكوها " وهذا الحديث اتفق على تصحيحه الإمامان البخاري ومسلم . وأما من أجاز كراءها بما يخرج منها فعمدته حديث ابن عمر الثابت " أن رسول الله A دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعملوها من أموالهم على نصف ما تخرجه الأرض والثمرة " قالوا : وهذا الحديث أولى من أحاديث رافع لأنها مضطربة المتون وإن صحت أحاديث رافع حملناها على الكراهية لا على الحظر بدليل ما خرجه البخاري ومسلم عن ابن عباس أنه قال " إن النبي A لم ينه عنها ولكن قال : إن يمنح أحدكم أخاه يكن خيرا له من أن يأخذ منه شيئا " قالوا : وقد قدم معاذ بن جبل اليمن حين بعثه رسول الله A وهم يخابرون فأقرهم . ( وأما إجارة المؤذن ) فإن قوما لم يروا في ذلم بأسا وقوما كرهوا ذلك . والذين كرهوا ذلك وحرموه احتجوا بما روي عن عثمان بن أبي العاص قال : قال رسول الله A " اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا " والذين أباحوه قاسوه على الأفعال غير الواجبة وهذا هو سبب الاختلاف أعني هل هو واجب أم ليس بواجب ؟ .
وأما الاستئجار على تعليم القرآن فقد اختلفوا فيه أيضا وكرهه قوم وأجازه آخرون . والذين أباحوه قاسوه على سائر الأفعال واحتجوا بما روي عن خارجة بن الصامت عن عمه قال : " أقبلنا من عند رسول الله A فأتينا على حي من أحياء العرب فقالوا : إنكم جئتم من عند هذا الرجل فهل عندكم دواء أو رقية فإن عندنا معتوها في القيود فقلنا لهم نعم فجاءوا به فجعلت أقرأ عليه بفاتحة الكتاب ثلاثة أيام غدوة وعشية أجمع بريقي ثم أتفل عليه فكأنما أنشط من عقال فأعطوني جعلا فقلت لا حتى أسأل رسول الله A فسألته فقال : " كل فلعمري لمن أكل برقية باطلا فلقد أكلت برقية حقا " وبما روي عن أبي سعيد الخدري " أن أصحاب رسول الله A كانوا في غزاة فمروا بحي من أحياء العرب فقالوا : هل عندكم من راق فإن سيد الحي قد لدغ أو قد عرض له قال : فرقي رجل بفاتحة الكتاب فبرئ فأعطى قطيعا من الغنم فأبى أن يقبلها فسأل عن ذلك رسول الله A فقال : بم رقيته ؟ قال : بفاتحة الكتاب قال : وما يدريك أنها رقية ؟ قال : ثم قال رسول الله A : خذوها واضربوا لي معكم فيها بسهم " . وأما الذين كرهوا الجعل على تعليم القرآن فقالوا : هو من باب الجعل على تعليم الصلاة . قالوا : ولم يكن الجعل المذكور في الإجارة على تعليم القرآن وإنما كان على الرقي وسواء كان الرقي بالقرآن أو غيره الاستئجار عليه عندنا جائز كالعلاجات . قالوا : وليس واجبا على الناس وأما تعليم القرآن فهو واجب على الناس . وأما إجارة الفحول من الإبل والبقر والدواب فأجاز مالك أن يكري الرجل فحله على أن ينزو أكواما معلومة ولم يجز ذلك أبو حنيفة ولا الشافعي .
وحجة من لم يجز ذلك ما جاء من النهي عن عسيب الفحل ومن أجازه شبهه بسائر المنافع وهذا ضعيف لأنه تغليب القياس على السماع . واستئجار الكلب أيضا هو من هذا الباب وهو لا يجوز عند الشافعي ولا عند مالك . والشافعي يشترط في جواز استئجار المنفعة أن تكون متقومة على انفرادها فلا يجوز استئجار تفاحة للشم ولا طعام لتزين الحانوت إذ هذه المنافع ليس لها قيم على انفرادها فهو لا يجوز عند مالك ولا عند الشافعي . ومن هذا الباب اختلاف المذهب في إجارة الدراهم والدنانير بالجملة كل ما لا يعرف بعينه فقال ابن القاسم : لا يصح إجارة هذا الجنس وهو قرض وكان أبو بكر الأبهري وغيره أن ذلك يصح وتلزم الأجرة فيه وإنما منع من منع إجارتها لأنه لم يتصور فيها منفعة إلا بإتلاف عينها ومن أجاز إجارتها تصور فيها منفعة مثل أن يتحمل بها أو يتكثر أو غير ذلك مما يمكن أن يتصور في هذا الباب فهذه هي مشهورات مسائل الخلاف المتعلقة بجنس المنفعة . وأما مسائل الخلاف المتعلقة بجنس الثمن فهي مسائل الخلاف المتعلقة بما يجوز أن يكون ثمنا في المبيعات وما لا يجوز .
ومما ورد النهي فيه من هذا الباب ما روي " أنه A نهى عن عسيب الفحل وعن كسب الحجام وعن قفيز الطحان " قال الطحاوي : ومعنى نهي النبي A عن قفيز الطحان هو ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من دفع القمح إلى الطحان بجزء من الدقيق الذي يطحنه قالوا : وهذا لا يجوز عندنا وهو استئجار من المستأجر بعين ليس عنده ولا هي من الأشياء التي تكون ديونا على الذمم ووافقه الشافعي على هذا . وقال أصحابه : لو استأجر السلاخ بالجلد والطحان بالنخالة أو بصاع من الدقيق فسد لنهيه A عن قفيز الطحان وهذا على مذهب مالك جائز لأنه استأجره على جزء من الطعام معلوم وأجرة الطحان ذلك الجزء وهو معلوم أيضا . وأما كسب الحجام فذهب قوم إلى تحريمه وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا : كسبه رديء يكره للرجل وقال آخرون : بل هو مباح . والسبب في اختلافهم تعارض الآثار في هذا الباب فمن رأى أنه حرام احتج بما روي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله A " من السحت كسب الحجام " وبما روي عن أنس بن مالك قال " حرم رسول الله A كسب الحجام " وروي عن عون بن أبي جحيفة قال : اشترى أبي حجاما فكسر محاجمه فقلت له يا أبت لم كسرتها ؟ فقال : " إن رسول الله A نهى عن ثمن الدم " . وأما من رأى إباحة ذلك فاحتج بما روي عن ابن عباس قال " احتجم رسول الله A وأعطى الحجام أجره " قالوا : ولو كان حراما لم يعطه وحديث جابر " أن رسول الله A دعا أبا طيبة فحجمه فسأله كم ضريبتك ؟ فقال : ثلاثة آصع فوضع عنه صاعا " وعنه أيضا " أنه أمر للحجام بصاع من طعام " وأمر موالية أن يخففوا عنه " .
( يتبع . . . )