- والمذكور في الشرع ثلاثة أصناف : صنف اتفق على جواز تذكيته وصنف اتفق على منع ذكاته وصنف اختلف فيه . فأما الصنف الذي اتفق على ذكاته فمن جمع خمسة شروط : الإسلام والذكورية والبلوغ والعقل وترك تضيع الصلاة . وأما الذي اتفق على منع تذكيته فالمشركون عبدة الأصنام لقوله تعالى { وما ذبح على النصب } ولقوله { وما أهل به لغير الله } وأما الذين اختلف فيهم فأصناف كثيرة لكن المشهور منها عشرة : أهل الكتاب والمجوس والصابئون والمرأة والصبي والمجنون والسكران والذي يضيع الصلاة والسارق والغاصب . فأما أهل الكتاب فالعلماء مجمعون على جواز ذبائحهم لقوله تعالى { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم } ومختلفون في التفصيل فاتفقوا على أنهم إذا لم يكونوا من نصارى بني تغلب ولا مرتدين وذبحوا لأنفسهم وعلم أنهم سموا الله تعالى على ذبيحتهم وكانت الذبيحة مما لم تحرم عليهم في التوراة ولا حرموها هم على أنفسهم أنه يجوز منها ما عدا الشحم . واختلفوا في مقابلات هذه الشروط أعني إذا ذبحوا لمسلم باستنابته أو كانوا من نصارى بني تغلب أو مرتدين وإذا لم يعلم أنهم سموا الله أو جهل مقصود ذبحهم أو علم أنهم سموا غير الله مما يذبحونه لكنائسهم وأعيادهم أو كانت الذبيحة مما حرمت عليهم بالتوراة كقوله تعالى { كل ذي ظفر } أو كانت مما حرموها على أنفسهم مثل الذبائح التي تكون عند اليهود فاسدة من قبل خلقة إلهية وكذلك اختلفوا في الشحوم . فأما إذا ذبحوا باستنابة مسلم فقيل في المذهب عن مالك يجوز وقيل لا يجوز . وسبب الاختلاف هل من شرط ذبح المسلم اعتقاد تحليل الذبيحة على الشروط الإسلامية في ذلك أم لا ؟ فمن رأى أن النية شرط في الذبيحة قال : لا تحل ذبيحة الكتابي لمسلم لأنه لا يصح منه وجود هذه النية . ومن رأى أن ذلك ليس بشرط وغلب عموم الكتاب : أعني قوله تعالى { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } قال يجوز وكذلك من اعتقد أن نية المستنيب تجزئ وهو قول ابن وهب .
( وأما المسألة الثانية ) وهي ذبائح نصارى بني تغلب والمرتدين فإن الجمهور على أن ذبائح النصارى من العرب حكمها حكم ذبائح أهل الكتاب وهو قول ابن عباس ومنهم من لم يجز ذبائحهم وهو أحد قولي الشافعي وهو مروى عن علي Bه . وسبب الخلاف هل يتناول العرب المتنصرين والمتهودين اسم الذين أوتوا الكتاب كما يتناول ذلك الأمم المختصة بالكتاب وهم بنو اسرائيل والروم . وأما المرتد فإن الجمهور على أن ذبيحته لا تؤكل . وقال اسحاق : ذبيحته جائزة وقال الثوري : مكروهة . وسبب الخلاف هل المرتد لا يتناوله اسم أهل الكتاب إذ كان ليس له حرمة أهل الكتاب أو يتناوله ؟ .
( وأما المسألة الثالثة ) وهي إذا لم يعلم أن أهل الكتاب سموا الله على الذبيحة فقال الجمهور : تؤكل وهو مروى عن علي ولست أذكر فيه في هذا الوقت خلافا ويتطرق إليه الإحتمال بأن يقال إن الأصل هو أن لا يؤكل من تذكيتهم إلا ما كان على شروط الإسلام فإذا قيل على هذا أن التسمية من شرط التذكية وجب أن لا تؤكل ذبائحهم بالشك في ذلك . وأما إذا علم أنهم ذبحوا ذلك لأعيادهم وكنائسهم فإن من العلماء من كرهه وهو قول مالك ومنهم من أباحه وهو قول أشهب ومنهم من حرمه وهو الشافعي . وسبب اختلافهم تعارض عمومي الكتاب في هذا الباب وذلك أن قوله تعالى { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } يحتمل أن يكون مخصصا لقوله تعالى { وما أهل به لغير الله } ويحتمل أن يكون قوله تعالى { وما أهل به لغير الله } مخصصا لقوله تعالى { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } إذ كان كل واحد منهما يصح أن يستثنى من الآخر فمن جعل قوله تعالى وما أهل به لغير الله مخصصا لقوله تعالى { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } قال : لا يجوز ما أهل به للكنائس والأعياد ومن عكس الأمر قال : يجوز . وأما إذا كانت الذبيحة مما حرمت عليهم فقيل يجوز وقيل لا يجوز وقيل بالفرق بين أن تكون محرمة عليهم بالتوراة أو من قبل أنفسهم أعني بإباحة ما ذبحوا مما حرموا على أنفسهم ومنع ما حرم الله عليهم وقيل يكره ولا يمنع . والأقاويل الأربعة موجودة في المذهب : المنع عن ابن القاسم والإباحة عن ابن وهب وابن عبد الحكم والتفرقة عن أشهب . وأصل الاختلاف معارضة عموم الآية لاشتراط نية الذكاة : أعني اعتقاد تحليل الذبيحة بالتذكية فمن قال ذلك شرط في التذكية قال لا تجوز هذه الذبائح لأنهم لا يعتقدون تحليلها بالتذكية ومن قال ليس بشرط فيها وتمسك بعموم الآية المحللة قال : تجوز هذه الذبائح . وهذا بعينه هو سبب اختلافهم في أكل الشحوم من ذبائحهم ولم يخالف في ذلك أحد غير مالك وأصحابه فمنهم من قال : إن الشحوم محرمة وهو قول أشهب ومنهم من قال مكروهة والقولان عن مالك ومنهم من قال مباحة .
ويدخل في الشحوم سبب آخر من أسباب الخلاف سوى معارضة العموم لاشتراط اعتقاد تحليل الذبيحة بالذكاة وهو هل تتبعض التذكية أو لا تتبعض ؟ فمن قال تتبعض قال : لا تؤكل الشحوم ومن قال لا تتبعض قال : يؤكل الشحم . ويدل على تحليل شحوم ذبائحهم حديث عبد الله بن مغفل إذ أصاب جراب الشحم يوم خيبر وقد تقدم في كتاب الجهاد . ومن فرق بين ما حرم عليهم من ذلك في أصل شرعهم وبين ما حرموا على أنفسهم قال : ما حرم عليهم هو أمر حق فلا تعمل فيه الذكاة وما حرموا على أنفسهم هو أمر باطل فتعمل فيه التذكية . قال القاضي : والحق أن ما حرم عليهم أو حرموا على أنفسهم هو في وقت شريعة الإسلام أمر باطل إذ كانت ناسخة لجميع الشرائع فيجب أن لا يراعي اعتقادهم في ذلك ولا يشترط أيضا أن يكون اعتقادهم في تحليل الذبائح اعتقاد المسلمين ولا اعتقاد شريعتهم لأنه لو اشترط ذلك لما جاز أكل ذبائحهم بوجه من الوجوه لكون اعتقاد شريعتهم في ذلك منسوخا ولاعتقاد شريعتنا لا يصح منهم وإنما هذا حكم خصهم الله تعالى به فذبائحهم والله أعلم جائزة لنا على الإطلاق وإلا ارتفع حكم آية التحليل جملة فتأمل هذا فإنه بين والله أعلم . وأما المجوس فإن الجمهور على أنه لا تجوز ذبائحهم لأنهم مشركون وتمسك قوم في إجازتها بعموم قوله E " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " . وأما الصائبون فالاختلاف فيهم من قبل اختلافهم في هل هم من أهل الكتاب أم ليسوا من أهل الكتاب . وأما المرأة والصبي فإن الجمهور على أن ذبائحهم جائزة غير مكروهة وهو مذهب مالك وكره ذلك أبو المصعب . والسبب في اختلافهم . نقصان المرأة والصبي وإنما لم يختلف الجمهور في المرأة لحديث معاذ بن سعيد " أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى بسلع فأصيبت شاة فأدركتها فذبحتها بحجر فسئل رسول الله A عن ذلك فقال : لا بأس بها فكلوها " وهو حديث صحيح .
وأما المجنون والسكران فإن مالكا لم يجز ذبيحتهما وأجاز ذلك الشافعي . وسبب الخلاف اشتراط النية في الذكاة فمن اشترط النية منع ذلك إذ لا يصح من الجنون ولا من السكران وبخاصة الملتخ ( الملتخ : الملطخ قاموس ) . وأما جواز تذكية السارق والغاصب فإن الجمهور على جواز ذلك ومنهم من منع ذلك ورأى أنها ميتة وبه قال داود وإسحاق بن راهويه . وسبب اختلافهم هل النهي يدل على فساد المنهى عنه أو لا يدل ؟ فمن قال يدل قال : السارق والغاصب منهى عن ذكاتها وتناولها وتملكها فإذا كان ذكاها فسدت التذكية ومن قال لا يدل إلا إذا كان المنهى عنه شرطا من شروط ذلك الفعل قال : تذكيتهم جائزة لأنه ليس صحة الملك شرطا من شروط التذكية .
وفي موطأ ابن وهب " أنه سئل رسول الله A عنها فلم ير بها بأسا " وقد جاء إباحة ذلك مع الكراهية فيما روي عن النبي E في الشاة التي ذبحت بغير إذن ربها فقال رسول الله A " أطعموها الأسارى " وهذا القدر كاف في أصول هذا الكتاب والله أعلم