- وأما كفارة المتمتع التي نص الله عليها في قوله سبحانه - فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي - الآية فإنه لا خلاف في وجوبها وإنما الخلاف في المتمتع من هو ؟ وقد تقدم ما في ذلك من الخلاف والقول في هذه الكفارة أيضا يرجع إلى تلك الأجناس بعينها على من تجب ؟ وما الواجب فيها ؟ ومتى تجب ولمن تجب وفي أي مكان تجب ؟ فأما على من تجب فعلى المتمتع باتفاق وقد تقدم الخلاف في المتمتع من هو . وأما اختلافهم في الواجب فإن الجمهور من العلماء على أن ما استيسر من الهدي هو شاة واحتج مالك في أن اسم الهدي قد ينطلق على الشاة بقوله تعالى في جزاء الصيد - هدايا بالغ الكعبة - ومعلوم بالإجماع أنه قد يجب في جزاء الصيد .
شاة وذهب ابن عمر إلى أن اسم الهدي لا ينطلق إلا على الإبل والبقر وأن معنى قوله تعالى - فما استيسر من الهدي - أي بقرة أدون من بقرة وبدنة أدون من بدنة . وأجمعوا أن هذه الكفارة على الترتيب وأن من لم يجد الهدي فعليه الصيام . واختلفوا من حد الزمان الذي ينتقل بانقضائه فرضه من الهدي إلى الصيام فقال مالك : إذا شرع في الصوم فقد انتقل واجبه إلى الصوم وإن وجد الهدي في أثناء الصوم . وقال أبو حنيفة : إن وجد الهدي في صوم الثلاثة الأيام لزمه وإن وجده في صوم السبعة لم يلزمه وهذه المسئلة نظير مسئلة من طلع عليه الماء في الصلاة وهو متيمم . وسبب الخلاف هو هل ما هو شرط في ابتداء العبادة هو شرط في استمرارها . وإنما فرق أبو حنيفة بين الثلاثة والسبعة لأن الثلاثة الأيام هي عنده بدل من الهدي والسبعة ليست ببدل وأجمعوا على أنه إذا صام الثلاثة الأيام في العشر الأول من ذي الحجة أنه قد أتى بها في محلها لقوله سبحانه - فصيام ثلاثة أيام في الحج - ولا خلاف أن العشر الأول من أيام الحج . واختلفوا فيمن صامها في أيام عمل العمرة قبل أن يهل بالحج أو صامها في أيام منى فأجاز مالك صيامها في أيام منى ومنعه أبو حنيفة وقال : إذا فاتته الأيام الأولى وجب الهدي في ذمته ومنعه مالك قبل الشروع في عمل الحج وأجازه أبو حنيفة . وسبب الخلاف هل ينطلق اسم الحج على هذه الأيام المختلف فيها أم لا ؟ وإن انطلق فهل من شرط الكفارة أن لا تجزئ إلا بعد وقوع موجبها فمن .
قال : لا تجزئ كفارة إلا بعد وقوع موجبها قال : لا يجزي الصوم إلا بعد الشروع في الحج ومن قاسها على كفارة الأيمان قال : يجزي .
واتفقوا أنه إذا صام السبعة الأيام في أهله أجزأه واختلفوا إذا صامها في الطريق فقال مالك : يجزي الصوم وقال الشافعي : لا يجزي . وسبب الخلاف الاحتمال الذي في قوله سبحانه - إذا رجعتم - فإن اسم الراجع ينطلق على من فرغ من الرجوع وعلى من هو في الرجوع نفسه فهذه هي الكفارة التي ثبتت بالسمع وهي من المتفق عليها ولا خلاف أن من فاته الحج بعد أن شرع فيه إما بفوت ركن من أركانه وإما من قبل غلطه في الزمان أو من قبل جهله أو نسيانه أو إتيانه في الحج فعلا مفسدا له فإن عليه القضاء إذا كان حجا واجبا وهل عليه هدي مع القضاء ؟ واختلفوا فيه وإن كان تطوعا فهل عليه قضاء أم لا ؟ الخلاف في ذلك كله لكن الجمهور على أن عليه الهدي لكون النقصان الداخل عليه مشعرا بوجوب الهدي . وشذ قوم فقالوا : لا هدي أصلا ولا قضاء إلا أن يكون في حج واجب ومما يخص الحج الفاسد عند الجمهور دون سائر العبادات أنه يمضي فيه المفسد له ولا يقطعه وعليه دم . وشذ قوم فقالوا : هو كسائر العبادات وعمدة الجمهور ظاهر قوله تعالى - وأتموا الحج والعمرة لله - فالجمهور عمموا والمخالفون خصصوا قياسا على غيرها من العبادات إذا وردت عليها المفسدات واتفقوا على أن المفسد للحج إما من الأفعال المأمور بها فترك الأركان التي هي شرط في صحته على اختلافهم فيما هو ركن مما ليس بركن . وأما من التروك المنهي عنها فالجماع وإن كانوا اختلفوا في الوقت الذي إذا وقع فيه الجماع كان مفسدا للحج . فأما إجماعهم على إفساد الجماع للحج فلقوله تعالى - فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج - واتفقوا على أن من وطئ قبل الوقوف بعرفة فقد أفسد حجه وكذلك من وطئ من المعتمرين قبل أن يطوف ويسعى . واختلفوا في فساد الحج بالوطء بعد الوقوف بعرفة وقبل رمي جمرة العقبة وبعد رمي الجمرة وقبل طواف الإفاضة الذي هو الواجب فقال مالك : من وطئ قبل رمي جمرة العقبة فقد فسد حجه وعليه الهدي والقضاء وبه قال الشافعي . وقال أبو حنيفة والثوري : عليه الهدي بدنة وحجه تام . وقد روي مثل هذا عن مالك . وقال مالك : من وطئ بعد رمي جمرة العقبة وقبل طواف الإفاضة فحجه تام وبقول مالك في أن الوطء قبل طواف الإفاضة لا يفسد الحج قال الجمهور : ويلزمه عندهم الهدي .
وقالت طائفة : من وطئ قبل طواف الإفاضة فسد حجه وهو قول ابن عمر . وسبب الخلاف أن للحج تحللا يشبه السلام في الصلاة وهو التحلل الأكبر وهو الإفاضة وتحللا أصغر وهل يشترط في إباحة الجماع تحللان أو أحدهما ؟ .
ولا خلاف بينهم أن التحلل الأصغر الذي هو رمي الجمرة يوم النحر أنه يحل به الحاج من كل شيء حرم عليه بالحج إلا النساء والطيب والصيد فإنهم اختلفوا فيه والمشهور عن مالك أنه يحل له كل شيء إلا النساء والطيب وقيل عنه إلا النساء والطيب والصيد لأن الظاهر من قوله - وإذا حللتم فاصطادوا - أنه التحلل الأكبر . واتفقوا على أن المعتمر يحل من عمرته إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وإن لم يكن حلق ولا قصر لثبوت الآثار في ذلك إلا خلافا شاذا . وروي عن ابن عباس أنه يحل بالطواف . وقال أبو حنيفة : لا يحل إلا بعد الحلاق وإن جامع قبله فسدت عمرته . واختلفوا في صفة الجماع الذي يفسد الحج وفي مقدماته فالجمهور على أن التقاء الختانين يفسد الحج ويحتمل من يشترط في وجوب الطهر الإنزال مع التقاء الختانين أن يشترطه في الحج . واختلفوا في إنزال الماء فيما دون الفرج فقال أبو حنيفة : لا يفسد الحج إلا الإنزال في الفرج . وقال الشافعي : ما يوجب الحد يفسد الحج . وقال مالك : الإنزال نفسه يفسد الحج وكذلك مقدماته من المباشرة والقبلة . واستحب الشافعي فيمن جامع دون الفرج أن يهدي . واختلفوا فيمن وطئ مرارا فقال مالك : ليس عليه إلا هدي واحد . وقال أبو حنيفة : إن كرر الوطء في مجلس واحد كان عليه هدي واحد وإن كرره في مجالس كان عليه لكل وطء هدي . وقال محمد بن الحسن : يجزيه هدي واحد وإن كرر الوطء ما لم يهد لوطئه الأول . وعن الشافعي الثلاثة الأقوال إلا أن الأشهر عنه مثل قول مالك . واختلفوا فيمن وطئ ناسيا فسوى مالك في ذلك بين العمد والنسيان . وقال الشافعي في الجديد لا كفارة عليه . واختلفوا هل على المرأة هدي ؟ فقال مالك : إن طاوعته فعليها هدي وإن أكرهها فعليه هديان . وقال الشافعي : ليس عليه إلا هدي واحد كقوله في المجامع في رمضان وجمهور العلماء على أنهما إذا حجا من قابل تفرقا أعني الرجل والمرأة وقيل لا يفترقان والقول بأن لا يفترقا مروي عن بعض الصحابة والتابعين وبه قال أبو حنيفة . واختلف قول مالك والشافعي من أين يفترقان ؟ فقال الشافعي : يفترقان من حيث أفسدا الحج وقال مالك : يفترقان من حيث أحرما إلا أن يكونا حرما قبل الميقات فمن أخذهما بالافتراق فسدا للذريعة وعقوبة ومن لم يؤاخذهما به فجريا على الأصل وأنه لا يثبت حكم في هذا الباب إلا بسماع .
واختلفوا في الهدي الواجب في الجماع ما هو ؟ فقال مالك وأبو حنيفة : هو شاة وقال الشافعي : لايجزئه إلا بدنة وإن لم يجد قومت البدنة دراهم وقومت الدراهم طعاما فإن لم يجد صام عن كل مد يوما قال : والإطعام والهدي لا يجزى إلا بمكة أو بمنى والصوم حيث شاء . وقال مالك : كل نقص دخل الإحرام من وطء أو حلق شعر أو إحصار فإن صاحبه إن لم يجد الهدي صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع ولا يدخل الإطعام فيه فمالك شبه الدم اللازم ههنا بدم المتمتع والشافعي شبهه بالدم الواجب بالفدية والإطعام عند مالك لا يكون إلا في كفارة الصيد وكفارة إزالة الأذى والشافعي يرى أن الصيام والإطعام قد وقعا بدل لدم في موضعين ولم يقع بدلهما إلا في موضع واحد فقياس المسكوت عنه على المنطوق به في الإطعام أولى فهذا ما يخص الفساد بالجماع .
وأما الفساد بفوات الوقت وهو أن يفوته الوقوف بعرفة يوم عرفة فإن العلماء أجمعوا أن من هذه صفته لا يخرج من إحرامه إلا بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة أعني أنه يحل ولابد بعمرة وأن عليه حج قابل . واختلفوا هل عليه هدي أم لا ؟ فقال مالك والشافعي وأحمد والثوري وأبو ثور : عليه الهدي وعمدتهم إجماعهم على أن من حبسه مرض حتى فاته الحج أن عليه الهدي . وقال أبو حنيفة : يتحلل بعمرة ويحج من قابل ولا هدي عليه . وحجة الكوفيين أن الأصل في الهدي إنما هو بدل من القضاء فإذا كان القضاء فلا هدي إلا ما خصصه الإجماع .
واختلف مالك والشافعي وأبو حنيفة فيمن فاته الحج وكان قارنا هل يقضي حجا مفردا أو مقرونا بعمرة ؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنه يقضي قارنا لأنه إنما يقضي مثل الذي عليه . وقال أبو حنيفة : ليس عليه إلا الإفراد لأنه قد طاف لعمرته فليس يقضي إلا ما فاته . وجمهور العلماء على أن من فاته الحج أنه لا يقيم على إحرامه ذلك إلى عام آخر وهذا هو الاختيار عند مالك إلا أنه أجاز ذلك ليسقط عنه الهدي ولا يحتاج أن يتحلل بعمرة .
وأصل اختلافهم في هذه المسئلة اختلافهم فيمن أحرم بالحج في غير أشهر الحج فمن لم يجعله محرما لم يجز للذي فاته الحج أن يبقى محرما إلى عام آخر ومن أجاز الإحرام في غير أيام الحج أجاز له البقاء محرما قال القاضي : فقد قلنا في الكفارات الواجبة بالنص في الحج وفي صفة القضاء في الحج الفائت والفاسد وفي صفة إحلال من فاته الحج وقلنا قبل ذلك في الكفارات المنصوص عليها وما ألحق الفقهاء بذلك من كفارة المفسد حجه وبقي أن نقول في الكفارات التي اختلفوا فيها ترك نسك منها من مناسك الحج مما لم ينص عليه