- اختلف العلماء في جواز صلاة الخوف بعد النبي E وفي صفتها فأكثر العلماء على أن صلاة الخوف جائزة لعموم قوله تعالى { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا } الآية . ولما ثبت ذلك من فعله E وعمل الأئمة والخلفاء بعده بذلك وشذ أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة فقال : لا تصلى صلاة الخوف بعد النبي A بإمام واحد وإنما تصلى بعده بإمامين يصلي واحد منهما بطائفة ركعتين ثم يصلي الآخر بطائفة أخرى وهي الحارسة ركعتين أيضا وتحرس التي قد صلت . والسبب في اختلافهم هل صلاة النبي بأصحابه صلاة الخوف هي عبادة أو هي لمكان فضل النبي A فمن رأى أنها عبادة لم ير أنها خاصة بالنبي E ومن رآها لمكان فضل النبي E رآها خاصة بالنبي E وإلا فقد كان يمكننا أن ينقسم الناس على إمامين وإنما كان ضرورة اجتماعهم على إمام واحد خاصة من خواص النبي E وتأيد عنده هذا التأويل بدليل الخطاب المفهوم من قوله تعالى { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } الآية . ومفهوم الخطاب أنه إذا لم يكن فيهم فالحكم غير هذا الحكم .
وقد ذهبت طائفة من فقهاء الشام إلى أن صلاة الخوف تؤخر عن وقت الخوف إلى وقت الأمن كما فعل رسول الله A يوم الخندق . والجمهور على أن ذلك الفعل يوم الخندق كان قبل نزول صلاة الخوف وأنه منسوخ بها . وأما صفة صلاة الخوف فإن العلماء اختلفوا فيها اختلافا كثيرا لاختلاف الآثار في هذا الباب : أعني المنقولة من فعله A في صلاة الخوف والمشهور من ذلك سبع صفات . فمن ذلك ما أخرجه مالك ومسلم من حديث صالح بن خوات عمن صلى مع رسول الله A يوم ذات الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صفت معه وصفت طائفة وجاه العدو فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاتهم ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم وبهذا الحديث قال الشافعي وروى مالك هذا الحديث بعينه عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات موقوفا كمثل حديث يزيد بن رومان أنه لما قضى الركعة بالطائفة الثانية سلم ولم ينتظرهم حتى يفرغوا من الصلاة واختار مالك هذه الصفة فالشافعي آثر المسند على الموقوف ومالك آثر الموقوف لأنه أشبه بالأصول : أعني أنه لا يجلس ( قوله يجلس لعله يسلم كما يظهر من سابقه اه مصححه ) الإمام حتى تفرغ الطائفة الثانية من صلاتها لأن الإمام متبوع لا متبع وغير مختلف عليه . والصفة الثالثة ما ورد في حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه رواه الثوري وجماعة وخرجه أبو داود قال : صلى رسول الله A صلاة الخوف بطائفة وطائفة مستقبلوا العدو فصلى بالذين معه ركعة وسجدتين وانصرفوا ولم يسلموا فوقفوا بإزاء العدو ثم جاء الأخرون فقاموا معه فصلى بهم ركعة ثم سلم فقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا وذهبوا فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو ورجع أولئك إلى مراتبهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا " وبهذه الصفة قال أبو حنيفة وأصحابه ما خلا أبا يوسف على ما تقدم " . والصفة الرابعة الواردة في حديث أبي عياش الزرقي قال " كنا مع رسول الله A بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد فصلينا الظهر فقال المشركون : لقد أصبنا غفلة لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة فأنزل الله آية القصر بين الظهر والعصر فلما حضرت العصر قام رسول الله A مستقبل القبلة والمشركون أمامه فصلى خلف رسول الله A صف واحد وصف بعد ذلك صف آخر فركع رسول الله A وركعوا جميعا ثم سجد وسجد الصف الذي يليه وقام الآخر يحرسونهم فلما صلى هؤلاء سجدتين وقاموا سجد الآخرون الذين كانوا خلفه ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين وتقدم الصف الآخر إلى مقام الصف الأول ثم ركع رسول الله A وركعوا جميعا ثم سجد وسجد الصف الذي يليه وقام الآخرون يحرسونهم فلما جلس رسول الله A والصف الذي يليه سجد الآخرون ثم جلسوا جميعا فسلم بهم جميعا " وهذه الصلاة صلاها بعسفان وصلاها يوم بني سليم .
قال أبو داود : وروي هذا عن جابر وعن ابن عباس وعن مجاهد وعن أبي موسى وعن هشام ابن عروة عن أبيه عن النبي A قال : وهو قول الثوري وهو أحوطها يريد أنه ليس في هذه الصفة كبير عمل مخالف لأفعال الصلاة المعروفة وقال بهذه الصفة جملة من أصحاب مالك وأصحاب الشافعي وخرجها مسلم عن جابر وقال جابر : كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائكم . والصفة الخامسة الواردة في حديث حذيفة قال ثعلبة بن زهدم قال كنا مع سعيد بن العاصي بطبرستان فقام فقال : أيكم صلى مع رسول الله A صلاة الخوف ؟ قال حذيفة : أنا فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا شيئا " .
وهذا مخالف للأصل مخالفة كثيرة . وخرج أيضا عن ابن عباس في معناه أنه قال " الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع وفي السفر ركعتان وفي الخوف ركعة واحدة " وأجاز هذه الصفة الثوري . والصفة السادسة الواردة في حديث أبي بكرة وحديث جابر عن النبي A أنه صلى بكل طائفة من الطائفتين ركعتين ركعتين وبه كان يفتي الحسن وفيه دليل على اختلاف نية الإمام والمأموم لكونه متما وهم مقصرون خرجه مسلم عن جابر .
والصفة السابعة الواردة في حديث ابن عمر عن النبي E أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال : يتقدم الإمام وطائفة من الناس فيصلي بهم ركعة . وتكون طائفة منهم بينه وبين العدو لم يصلوا فإذا صلى الذين معه ركعة استأخروا مكان الذين لم يصلوا معه ولا يسلمون ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون معه ركعة ثم ينصرف الإمام وقد صلى ركعتين تتقدم كل واحدة من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعة ركعة بعد أن ينصرف الإمام فتكون كل واحدة من الطائفتين قد صلت ركعتين فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها وممن قال بهذه الصفة أشهب عن مالك وجماعة . وقال أبو عمر : الحجة لمن قال بحديث ابن عمر هذا أنه ورد بنقل الأئمة أهل المدينة وهم الحجة في النقل على من خالفهم وهي أيضا مع هذا أشبه بالأصول لأن الطائفة الأولى والثانية لم يقضوا الركعة إلا بعد خروج رسول الله A من الصلاة وهو المعروف من سنة القضاء المجتمع عليها في سائر الصلوات وأكثر العلماء على ما جاء في هذا الحديث من أنه إذا اشتد الخوف جاز أن يصلوا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها وإيماء من غير ركوع ولا سجود . وخالف في ذلك أبو حنيفة فقال : لا يصلي الخائف إلا إلى القبلة ولا يصلي أحد في حال المسايفة . وسبب الخلاف في ذلك مخالفة هذا الفعل للأصول وقد رأى قوم أن هذه الصفات كلها جائزة وأن للمكلف أن يصلي أيتها أحب وقد قيل : إن هذا الاختلاف إنما كان بحسب اختلاف المواطن