- فنقول : إنهم اتفقوا على أن القاتل الذي يقاد منه يشترط فيه باتفاق أن يكون عاقلا بالغا مختارا للقتل مباشرا غير مشارك له فيه غيره واختلفوا في المكره والمكره وبالجملة الآمر والمباشر فقال مالك والشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وجماعة : القتل على المباشر دون الآمر ويعاقب الآمر وقالت طائفة : يقتلان جميعا وهذا إذا لم يكن هنالك إكراه ولا سلطان للآمر على المأمور . وأما إذا كان للآمر سلطان على المأمور أعني المباشر فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال : فقال قوم : يقتل الآمر دون المأمور ويعاقب المأمور وبه قال داود وأبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي . وقال قوم : يقتل المأمور دون الآمر وهو أحد قولي الشافعي وقال قوم : يقتلان جميعا وبه قال مالك . فمن لم يوجب حدا على المأمور اعتبر تأثير الإكراه في إسقاط كثير من الواجبات في الشرع لكون المكره يشبه من لا اختيار له . ومن رأى عليه القتل غلب عليه حكم الاختيار وذلك أن المكره يشبه من جهة المختار ويشبه من جهة المضطر المغلوب مثل الذي يسقط من علو والذي تحمله الريح من موضع إلى موضع . ومن رأى قتلهم جميعا لم يعذر المأمور بالإكراه ولا الآمر بعدم المباشرة . ومن رأى قتل الآمر فقط شبه المأمور بالآلة التي لا تنطق . ومن رأى الحد على غير المباشر اعتمد أنه ليس ينطلق عليه اسم قاتل إلا بالاستعارة . وقد اعتمدت المالكية في قتل المكره على القتل بالقتل بإجماعهم على أنه لو أشرف على الهلاك من مخمصة لم يكن له أن يقتل إنسانا فيأكله . وأما المشارك للقاتل عمدا في القتل فقد يكون القتل عمدا وخطأ وقد يكون القاتل مكلفا وغير مكلف وسنذكر العمد عند قتل الجماعة بالواحد . وأما إذا اشترك في القتل عامد ومخطئ أو مكلف وغير مكلف مثل عامد وصبي أو مجنون أو حر وعبد في قتل عبد عند من لا يقيد من الحر بالعبد فإن العلماء اختلفوا في ذلك فقال مالك والشافعي : على العامد القصاص وعلى المخطئ والصبي نصف الدية إلا أن مالكا يجعله على العاقلة والشافعي في ماله على ما يأتي وكذلك قالا في الحر والعبد يقتلان العبد عمدا أن العبد يقتل وعلى الحر نصف القيمة وكذلك الحال في المسلم والذمي يقتلان جميعا . وقال أبو حنيفة إذا اشترك من يجب القصاص عليه مع من لا يجب عليه القصاص فلا قصاص على واحد منهما وعليهما الدية وعمدة الحنفية أن هذه شبهة فإن القتل لا يتبعض وممكن أن تكون إفاتة نفسه من فعل الذي لا قصاص عليه كإمكان ذلك ممن عليه القصاص وقد قال E " ادرءوا الحدود بالشبهات " وإذا لم يكن الدم وجب بدله وهو الدية . وعمدة الفريق الثاني النظر إلى المصلحة التي تقتضي التغليظ لحوطة الدماء فكأن كل واحد منهما انفرد بالقتل فله حكم نفسه وفيه ضعف في القياس . وأما صفة الذي يجب به القصاص فاتفقوا على أنه العمد وذلك أنهم أجمعوا على أن القتل صنفان : عمد وخطأ . واختلفوا في هل بينهما وسط أم لا ؟ وهو الذي يسمونه شبه العمد فقال به جمهور فقهاء الأمصار . والمشهور عن مالك نفيه إلا في الابن مع أبيه وقد قيل أنه يتخرج عنه في ذلك رواية أخرى وبإثباته قال عمر ابن الخطاب وعلي وعثمان وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري والمغيرة ولا مخالف لهم من الصحابة والذين قالوا به فرقوا فيما هو شبه العمد مما ليس بعمد وذلك راجع في الأغلب إلى الآلات التي يقع بها القتل وإلى الأحوال التي كان من أجلها الضرب فقال أبو حنيفة : كل ما عدا الحديد من القضب أو النار وما يشبه ذلك فهو شبه العمد وقال أبو يوسف ومحمد : شبه العمد ما لا يقتل مثله وقال الشافعي : شبه العمد ما كان عمدا في الضرب خطأ في القتل : أي ما كان ضربا لم يقصد به القتل فتولد عنه القتل . والخطأ ما كان خطأ فيهما جميعا . والعمد ما كان عمدا فيهما جميعا وهو حسن . فعمدة من نفى شبه العمد أنه لا واسطة بين الخطأ والعمد أعني بين أن يقصد القتل أو لا يقصده . وعمدة من أثبت الوسط أن النيات لا يطلع عليها إلا الله تبارك وتعالى وإنما الحكم بما ظهر . فمن قصد ضرب آخر بآلة لا تقتل غالبا كان حكمه كحكم الغالب أعني حكم من قصد القتل فقتل بلا خلاف . ومن قصد ضرب رجل بعينه بآلة لا تقتل غالبا كان حكمه مترددا بين العمد والخطأ هذا في حقنا لا في حق الآمر نفسه عند الله تعالى . أما شبهة العمد فمن جهة ما قصد ضربه . وأما شبهه للخطأ فمن جهة أنه ضرب بما لا يقصد به القتل . وقد روي حديث مرفوع إلى النبي A أنه قال " ألا إن قتل الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا والحجر ديته مغلظة مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها " إلا أنه حديث مضطرب عند أهل الحديث لا يثبت من جهة الإسناد فيما ذكره أبو عمر بن عبد البر وإن كان أبو داود وغيره قد خرجه فهذا النحو من القتل عند من لا يثبته يجب به القصاص وعند من أثبته تجب به الدية ولا خلاف في مذهب مالك أن الضرب يكون على وجه الغضب والنائرة يجب به القصاص .
واختلف في الذي يكون عمدا على جهة اللعب أو على جهة الأدب لمن أبيح له الأدب . وأما الشرط الذي يجب به القصاص في المقتول فهو أن يكون مكافئا لدم القاتل . والذي به تختلف النفوس هو الإسلام والكفر والحرية والعبودية والذكورية والأنوثية والواحد والكثير . واتفقوا على أن المقتول إذا كان مكافئا للقاتل في هذه الأربعة أنه يجب القصاص . واختلفوا في هذه الأربعة إذا لم تجتمع . أما الحر إذا قتل العبد عمدا فإن العلماء اختلفوا فيه فقال مالك والشافعي والليث وأحمد وأبو ثور : لا يقتل الحر بالعبد وقال أبو حنيفة وأصحابه : يقتل الحر بالعبد إلا عبد نفسه وقال قوم : يقتل الحر بالعبد سواء كان عبد القاتل أو عبد غير القاتل وبه قال النخعي فمن قال لا يقتل الحر بالعبد احتج بدليل الخطاب المفهوم من قوله تعالى { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد } ومن قال يقتل الحر بالعبد احتج بقوله E " المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم " فسبب الخلاف معارضة العموم لدليل الخطاب ومن فرق فضعيف . ولا خلاف بينهم أن العبد يقتل بالحر وكذلك الأنقص بالأعلى .
ومن الحجة أيضا لمن قال : يقتل الحر بالعبد ما رواه عن سمرة أن النبي A قال " من قتل عبده قتلناه به " ومن طريق المعنى قالوا : ولما كان قتله محرما كقتل الحر وجب أن يكون القصاص فيه كالقصاص في الحر وأما قتل المؤمن بالكافر الذمي فاختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال : فقال قوم : لا يقتل مؤمن بكافر وممن قال به الشافعي والثوري وأحمد وداود وجماعة . وقال قوم : يقتل به وممن قال بذلك أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى . وقال مالك والليث : لا يقتل به إلا أن يقتله غيلة وقتل الغيلة أن يضجعه فيذبحه وبخاصة على ماله . فعمدة الفريق الأول ما روي من حديث علي أنه سأله قيس بن عبادة والأشتر هل عهد إليه رسول الله A عهدا لم يعهده إلى الناس قال : لا إلا ما في كتابي هذا وأخرج كتابا من قراب سيفه فإذا فيه " المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " خرجه أبو داود . وروي أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي A قال " لا يقتل مؤمن بكافر " واحتجوا في ذلك بإجماعهم على أنه لا يقتل مسلم بالحربي الذي أمن .
وأما أصحاب أبي حنيفة فاعتمدوا في ذلك آثارا منها حديث يرويه ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الرحمن السلماني قال " قتل رسول الله A رجلا من أهل القبلة برجل من أهل الذمة وقال : أنا أحق من وفى بعهده " ورووا ذلك عن عمر قالوا : وهذا مخصص لعموم قوله E " لا يقتل مؤمن بكافر " أي أنه أريد به الكافر الحربي دون الكافر المعاهد وضعف أهل الحديث حديث عبد الرحمن السلماني وما رووا من ذلك عن عمر . وأما من طريق القياس فإنهم اعتمدوا على إجماع المسلمين في أن يد المسلم تقطع إذا سرق من مال الذمي قالوا : فإذا كانت حرمة ماله كحرمة مال المسلم فحرمة دمه كحرمة دمه فسبب الخلاف تعارض الآثار والقياس . وأما قتل الجماعة بالواحد فإن جمهور فقهاء الأمصار قالوا تقتل الجماعة بالواحد منهم مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وغيرهم سواء كثرت الجماعة أو قلت وبه قال عمر حتى روي أنه قال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا . وقال داود وأهل الظاهر لا تقتل الجماعة بالواحد وهو قول ابن الزبير وبه قال الزهري وروي عن جابر . وكذلك عند هذه الطائفة لا تقطع أيد بيد أعني إذا اشترك اثنان فما فوق ذلك في قطع يد وقال مالك والشافعي : تقطع الأيدي باليد وفرقت الحنفية بين الأنفس والأطراف فقالوا : تقتل الأنفس بالنفس ولا يقطع بالطرف إلا طرف واحد وسيأتي هذا في باب القصاص من الأعضاء . فعمدة من قتل بالواحد الجماعة النظر إلى المصلحة فإنه مفهوم أن القتل إنما شرع لنفي القتل كما نبه عليه الكتاب في قوله تعالى { ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب } وإذا كان ذلك كذلك فلو لم تقتل الجماعة بالواحد لتذرع الناس إلى القتل بأن يتعمدوا قتل الواحد بالجماعة لكن للمعترض أن يقول : إن هذا إنما كان يلزم لو لم يقتل من الجماعة أحد فأما إن قتل منهم واحد وهو الذي من قتله يظن إتلاف النفس غالبا على الظن فليس يلزم أن يبطل الحد حتى يكون سببا للتسليط على إذهاب النفوس .
وعمدة من قتل الواحد بالواحد قوله تعالى { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين } وأما قتل الذكر بالأنثى فإن ابن المنذر وغيره ممن ذكر الخلاف حكى أنه إجماع إلا ما حكي عن علي من الصحابة وعن عثمان البتي أنه إذا قتل الرجل بالمرأة كان على أولياء المرأة نصف الدية . وحكى القاضي أبو الوليد الباجي في المنتقى عن الحسن البصري أنه لا يقتل الذكر بالأنثى وحكاه الخطابي في معالم السنن وهو شاذ ولكن دليله قوي لقوله تعالى { والأنثى بالأنثى } وإن كان يعارض دليل الخطاب ههنا للعموم الذي في قوله تعالى { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } لكن يدخله أن هذا الخطاب وارد في غير شريعتنا وهي مسألة مختلف فيها أعني هل شرع من قبلنا شرع لنا أم لا ؟ والاعتماد في قتل الرجل بالمرأة هو النظر إلى المصلحة العامة . واختلفوا من هذا الباب في الأب والابن فقال مالك : لا يقاد الأب بالابن إلا أن يضجعه فيذبحه فأما إن حذفه بسيف أو عصا فقتله لم يقتل وكذلك الجد عنده مع حفيده . وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري : لا يقاد الوالد بولده ولا الجد بحفيده إذا قتله بأي وجه كان من أوجه العمد وبه قال جمهور العلماء . وعمدتهم حديث ابن عباس أن النبي E قال " لا تقام الحدود في المساجد ولا يقاد بالولد الوالد " . وعمدة مالك عموم القصاص بين المسلمين .
وسبب اختلافهم ما رووه عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب أن رجلا من بني مدلج يقال له قتادة حذف ابنا له بالسيف فأصاب ساقه فنزى جرحه فمات فقدم سراقة بن جعشم على عمر ابن الخطاب فذكر ذلك له فقال له عمر : اعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك فلما قدم عليه عمر أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة ثم قال : أين أخو المقتول فقال : ها أنا ذا قال : خذها فإن رسول الله A قال " ليس لقاتل شيء " فإن مالكا حمل هذا الحديث على أنه لم يكن عمدا محضا وأثبت منه شبه العمد فيما بين الابن والأب . وأما الجمهور فحملوه على ظاهره من أنه عمد لإجماعهم أن من حذف آخر بسيف فقتله فهو عمد . وأما مالك فرأى ما للأب من التسلط على تأديب ابنه ومن المحبة له أن حمل القتل الذي يكون في أمثال هذه الأحوال على أنه ليس بعمد ولم يتهمه إذ كان ليس بقتل غيلة فإنما يحمل فاعله على أنه قصد القتل من جهة غلبة الظن وقوة التهمة إذ كانت النيات لا يطلع عليها إلا الله تعالى فمالك لم يتهم الأب حيث اتهم الأجنبي لقوة المحبة التي بين الأب والابن . والجمهور إنما عللوا درء الحد عن الأب لمكان حقه على الابن والذي يجيء على أصول أهل الظاهر أن يقاد فهذا هو القول في الموجب