- فنقول : أما الأركان فهي ثلاثة : الواهب والموهوب له والهبة . وأما الواهب فإنهم اتفقوا على أنه تجوز هبته إذا كان مالكا للموهوب صحيح الملك وذلك إذا كان في حال الصحة وحال إطلاق اليد . واختلفوا في حال المرض وفي حال السفه والفلس . أما المريض فقال الجمهور : إنها في ثلثه تشبيها بالوصية أعني الهبة التامة بشروطها . وقالت طائفة من السلف وجماعة أهل الظاهر : أن هبته تخرج من رأس ماله إذا مات ولا خلاف بينهم أنه إذا صح من مرضه أن الهبة صحيحة . وعمدة الجمهور حديث عمران بن حصين عن النبي E " في الذي أعتق ستة أعبد عند موته فأمره رسول الله A فأعتق ثلثهم وأرق الباقي " وعمدة أهل الظاهر استصحاب الحال : أعني حال الإجماع وذلك أنهم لما اتفقوا على جواز هبته في الصحة وجب استصحاب حكم الإجماع في المرض إلا أن يدل دليل من كتاب أو سنة بينة والحديث عندهم محمول على الوصية والأمراض التي يحجز فيها عند الجمهور هي الأمراض المخوفة وكذلك عند مالك الحالات المخوفة مثل الكون بين الصفين وقرب الحامل من الوضع وراكب البحر المرتج وفيه اختلاف . وأما الأرض المزمنة فليس عندهم فيها تحجير وقد تقدم هذا في كتاب الحجر . وأما السفهاء والمفلسون فلا خلاف عند من يقول بالحجر عليهم أن هبتهم غير ماضية . وأما الموهوب فكل شيء صح ملكه . واتفقوا على أن للإنسان أن يهب جميع ماله للأجنبي .
واختلفوا في تفضيل الرجل بعض ولده على بعض في الهبة أو في هبة جميع ماله لبعضهم دون البعض فقال جمهور فقهاء الأمصار بكراهية ذلك له ولكن إذا وقع عندهم جاز وقال أهل الظاهر : لا يجوز التفضيل فضلا عن أن يهب بعضهم جميع ماله وقال مالك يجوز التفضيل ولا يجوز أن يهب بعضهم جميع المال دون بعض . ودليل أهل الظاهر حديث النعمان بن بشير وهو حديث متفق على صحته وإن كان قد اختلف في ألفاظه والحديث أنه قال " إن أباه بشيرا أتى به إلى رسول الله A فقال : إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي فقال رسول الله A : أكل ولدك نحلته مثل هذا ؟ قال : لا قال رسول الله A : فارتجعه " واتفق مالك والبخاري ومسلم على هذا اللفظ قالوا : والارتجاع يقتضي بطلان الهبة . وفي بعض ألفاظ روايات هذا الحديث أنه قال E " هذا جور " . وعمدة الجمهور أن الإجماع منعقد على أن للرجل أن يهب في صحته جميع ماله للأجانب دون أولاده فإذا كان ذلك للأجنبي فهو للولد أحرى . واحتجوا بحديث أبي بكر المشهور أنه كان نحل عائشة جذاذ وعشرين وسقا من مال الغابة فلما حضرته الوفاة قال : والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلي غنى بعدي منك ولا أعز علي فقرا بعدي منك وإني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا فلو كنت جذذتيه واحتزتيه كان لك وإنما هواليوم مال وارث . قالوا : وذلك الحديث المراد به الندب والدليل على ذلك أن في بعض رواياته : " ألست تريد أن يكونوا لك في البر واللطف سواء ؟ قال : نعم قال : فأشهد على هذا غيري " .
وأما مالك فإنه رأى أن النهي عن أن يهب الرجل جميع ماله لواحد من ولده هو أحرى أن يحمل على الوجوب فأوجب عنده مفهوم هذا الحديث النهي عن أن يخص الرجل بعض أولاده بجميع ماله . فسبب الخلاف في هذه المسألة معارضة القياس للفظ النهي الوارد وذلك أن النهي يقتضي عند الأكثر بصيغته التحريم كما يقتضي الأمر الوجوب فمن ذهب إلى الجمع بين السماع والقياس حمل الحديث على الندب أو خصصه في بعض الصور كما فعل مالك ولا خلاف عند القائلين بالقياس أنه يجوز تخصيص عموم السنة بالقياس وكذلك العدول بها عن ظاهرها أعني أن يعدل بلفظ النهي عن مفهوم الحظر إلى مفهوم الكراهية . وأما أهل الظاهر فلما لم يجز عندهم القياس في الشرع اعتمدوا ظاهر الحديث وقالوا : بتحريم التفضيل في الهبة . واختلفوا من هذا الباب في جواز هبة المشاع غير المقسوم فقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور : تصح وقال أبو حنيفة : لا تصح . وعمدة الجماعة أن القبض فيها يصح كالقبض في البيع . وعمدة أبي حنيفة أن القبض فيها لا يصح إلا مفردة كالرهن ولا خلاف في المذهب في جواز هبة المجهول والمعدوم المتوقع الوجود وبالجملة كل ما لا يصح بيعه في الشرع من جهة الغرر وقال الشافعي : ما جاز بيعه جازت هبته كالدين وما لم يجز بيعه لم تجز هبته وكل ما لا يصح قبضه عند الشافعي لا تصح هبته كالدين والرهن وأما الهبة فلا بد من الإيجاب فيها والقبول عند الجميع . ومن شرط الموهوب له أن يكون ممن يصح قبوله وقبضه . وأما الشروط فأشهرها القبض أعني أن العلماء اختلفوا هل القبض شرط في صحة العقد أم لا ؟ فاتفق الثوري والشافعي وأبو حنيفة أن من شرط صحة الهبة القبض وأنه إذا لم يقبض لم يلزم الواهب وقال مالك : ينعقد بالقبول ويجبر على القبض كالبيع سواء فإن تأنى الموهوب له عن طلب القبض حتى أفلس الواهب أو مرض بطلت الهبة وله إذا باع تفصيل إن علم فتوانى لم يكن له إلا الثمن وإن قام في الفور كان له الموهوب .
فمالك : القبض عنده في الهبة من شروط التمام لا من شروط الصحة وهو عند الشافعي وأبي حنيفة من شروط الصحة . وقال أحمد وأبو ثور : تصح الهبة بالعقد وليس القبض من شروطها أصلا لا من شرط تمام ولا من شرط صحة وهو قول أهل الظاهر . وقد روي عن أحمد بن حنبل أن القبض من شروطها في المكيل والموزون . فعمدة من لم يشترط القبض في الهبة تشبيهها بالبيع وأن الأصل في العقود أن لا قبض مشترط في صحتها حتى يقوم الدليل على اشتراط القبض . وعمدة من اشترط القبض أن ذلك مروي عن أبي بكر Bه في حديث هبته لعائشة المتقدم وهو نص في اشتراط القبض في صحة الهبة . وما روى مالك عن عمر أيضا أنه قال : ما بال رجال ينحلون أبناءهم نحلا ثم يمسكونها فإن مات ابن أحدهم قال : مالي بيدي لم أعطه أحدا وإن مات قال هو لابني قد كنت أعطيته إياه فمن نحل نحلة فلم يحزها الذي نحلها للمنحول له وأبقاها حتى تكون إن مات لورثته فهي باطلة وهو قول علي قالوا : وهو إجماع من الصحابة لأنه لم ينقل عنهم في ذلك خلاف . وأما مالك فاعتمد الأمرين جميعا : أعني القياس وما روي عن الصحابة وجمع بينهما فمن حيث هي عقد من العقود لم يكن عنده شرطا من شروط صحتها القبض ومن حيث شرطت الصحابة فيه القبض لسد الذريعة التي ذكرها عمر جعل القبض فيها من شرط التمام ومن حق الموهوب له وأنه إن تراخى حتى يفوت القبض بمرض أو إفلاس على الواهب سقط حقه . وجمهور فقهاء الأمصار على أن الأب يجوز لابنه الصغير الذي في ولاية نظره وللكبير السفيه الذي ما وهبه كما يجوز لهما ما وهبه غيره لهم وأنه يكفي في الحيازة له إشهاده بالهبة والإعلان بذلك وذلك كله فيما عدا الذهب والفضة وفيما لا يتعين .
والأصل في ذلك عندهم ما رواه مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن عثمان بن عفان قال : من نحل ابنا له صغيرا لم يبلغ أن يحوز نحلته فأعلن ذلك وأشهد عليه فهي حيازة وإن وليها وقال مالك وأصحابه : لابد من الحيازة في المسكون والملبوس فإن كانت دارا سكن فيها خرج منها وكذلك الملبوس إن لبسه بطلت الهبة وقالوا في سائر العروض بمثل قول الفقهاء أعني أنه يكفي في ذلك إعلانه وإشهاده . وأما الذهب والورق فاختلفت الرواية فيه عن مالك فروي عنه أنه لا يجوز إلا أن يخرجه الأب عن يده إلى يد غيره وروي عنه أنه يجوز إذا جعلها في ظرف أو إناء وختم عليها بخاتم وأشهد على ذلك الشهود . ولا خلاف بين أصحاب مالك أن الوصي يقوم في ذلك مقام الأب . واختلفوا في الأم فقال ابن القاسم : لا تقوم مقام الأب ورواه عن مالك وقال غيره من أصحابه : تقوم وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي : الجد بمنزلة الأب والجدة عند ابن وهب أم الأم تقوم مقام الأم والأم عنده تقوم مقام الأب