- والنظر في هذا الباب في موضعين : في وقت خروج الصغار من الحجر ووقت خروج السفهاء . فنقول : إن الصغار بالجملة صنفان : ذكور وإناث وكل واحد من هؤلاء إما ذو أب وإما ذو وصي وإما مهمل وهم الذين يبلغون ولا وصي لهم ولا أب . فأما الذكور الصغار ذوو الآباء فاتفقوا على أنهم لا يخرجون من الحجر إلا ببلوغ سن التكليف وإيناس الرشد منهم وإن كانوا قد اختلفوا في الرشد ما هو وذلك لقوله تعالى { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } واختلفوا في الإناث فذهب الجمهور إلى أن حكمهن في ذلك حكم الذكور أعني بلوغ المحيض وإيناس الرشد وقال مالك : هي في ولاية أبيها في المشهور عنه حتى تتزوج ويدخل بها زوجها ويؤنس رشدها وروى عنه مثل قول الجمهور ولأصحاب مالك في هذا أقوال غير هذه قيل إنها في ولاية أبيها حتى يمر بها سنة بعد دخول زوجها بها وقيل حتى يمر بها عامان وقيل حتى تمر سبعة أعوام . وحجة مالك أن إيناس الرشد لا يتصور من المرأة إلا بعد اختبار الرجال . وأما أقاويل أصحابه فضعيفة مخالفة للنص والقياس أما مخالفتها النص فإنهم لم يشترطوا الرشد وأما مخالفتها للقياس فلأن الرشد ممكن تصوره منها قبل هذه المدة المحدودة وإذا قلنا على قول مالك لا على قول الجمهور إن الاعتبار في الذكور ذوي الآباء البلوغ وإيناس الرشد فاختلف قول مالك إذا بلغ ولم يعلم سفهه من رشده وكان مجهول الحال فقيل عنه إنه محمول على السفه حتى يتبين رشده وهو المشهور وقيل عنه إنه محمول على الرشد حتى يتبين سفهه . فأما ذوو الأوصياء فلا يخرجون من الولاية في المشهور عن مالك إلا بإطلاق وصيه له من الحجر : أي يقول فيه إنه رشيد إن كان مقدما من قبل الأب بلا خلاف أو بإذن القاضي مع الوصي إن كان مقدما من غير الأب على اختلاف في ذلك . وقد قيل في وصي الأب أنه لا يقبل قوله في أنه رشيد إلا حتى يعلم رشده وقد قيل إن حاله مع الوصي كحاله مع الأب يخرجه من الحجر إذا آنس منه الرشد وإن لم يخرجه وصيه بالإشهاد وإن المجهول الحال في هذا حكمه حكم المجهول الحال ذي الأب . وأما ابن القاسم فمذهبه أن الولاية غير معتبر ثبوتها إذا علم الرشد ولا سقوطها إذا علم السفه وهي رواية عن مالك وذلك من قوله في اليتيم لا في البكر والفرق بين المذهبين أن من يعتبر الولاية يقول أفعاله كلها مردودة وإن ظهر رشده حتى يخرج من الولاية وهو قول ضعيف فإن المؤثر هو الرشد لا حكم الحاكم . وأما اختلافهم في الرشد ما هو ؟ فإن مالكا يرى أن الرشد هو تثمير المال وإصلاحه فقط والشافعي يشترط مع هذا صلاح الدين . وسبب اختلافهم هل ينطلق اسم الرشد على غير صالح الدين ؟ ؟ وحال البكر مع الوصي كحال الذكر لا يخرج من الولاية إلا بالإخراج ما لم تعنس على اختلاف في ذلك وقيل حالها مع الوصي كحالها مع الأب وهو قول ابن الماجشون . ولم يختلف قولهم إنه لا يعتبر فيها الرشد كاختلافهم في اليتيم . وأما المهمل من الذكور فإن المشهور أن أفعاله جائزة إذا بلغ الحلم كان سفيها متصل السفه أو غير متصل السفه معلنا به أو غير معلن . وأما ابن القاسم فيعتبر نفس فعله إذا وقع فإن كان رشدا جاز وإلا رده . فأما اليتيمة التي لا أب لها ولا وصي فإن فيها في المذهب قولين : أحدهما أن أفعالها جائزة إذا بلغت المحيض . والثاني أن أفعالها مردودة ما لم تعنس وهو المشهور .
الباب الثالث في معرفة أحكام أفعالهم في الرد والإجازة .
والنظر في هذا الباب في شيئين : أحدهما ما يجوز لصنف صنف من المحجورين من الأفعال وإذا فعلوا فكيف حكم أفعالهم في الرد والإجازة وكذلك أفعال المهملين وهم الذين بلغوا الحلم من غير أب ولا وصي وهؤلاء كما قلنا إما صغار وإما كبار متصلو الحجر من الصغر وإما مبتدأ حجرهم . فأما الصغار الذين لم يبلغوا الحلم من الرجال ولا المحيض من النساء فلا خلاف في المذهب في أنه لا يجوز له في ماله معروف من هبة ولا صدقة ولا عطية ولا عتق وإن أذن له الأب في ذلك أو الوصي فإن أخرج من يده شيئا بغير عوض كان موقوفا على نظر وليه إن كان له ولي فإن رآه رشدا أجازه وإلا أبطله وإن لم يكن له ولي قدم له ولي ينظر في ذلك وإن عمل في ذلك حتى يلي أمره كان النظر إليه في الإجازة أو الرد . واختلف إذا كان فعله سدادا ونظرا فيما كان يلزم الولي أن يفعله هل له أن ينقضه إذا آل الأمر إلى خلاف بحوالة الأسواق أو نماء فيما باعه أو نقصان فيما ابتاعه فالمشهور أن ذلك له وقيل إن ذلك ليس له ويلزم الصغير ما أفسد في ماله مما لم يؤتمن عليه . واختلف فيما أفسد وكسر مما اؤتمن عليه ولا يلزمه بعد بلوغه رشده عتق ما حلف بحريته في صغره وحنث به في صغره . واختلف فيما حنث فيه في كبره وحلف به في صغره فالمشهور أنه لا يلزمه . وقال ابن كنانة : يلزمه ولا يلزمه فيما ادعى عليه يمين . واختلف إذا كان له شاهد واحد هل يحلف معه ؟ فالمشهور أنه لا يحلف وروي عن مالك والليث أنه يحلف . وحال البكر ذات الأب والوصي كالذكر ما لم تعنس على مذهب من يعتبر تعنيسها . أما السفيه البالغ فجمهور العلماء على أن المحجور إذا طلق زوجته أو خالعها مضى طلاقه وخلعه إلا ابن أبي ليلى وأبا يوسف وخالف ابن أبي ليلى في العتق فقال : إنه ينفذ وقال الجمهور : إنه لا ينفذ . وأما وصيته فلا أعلم خلافا في نفوذها ولا تلزمه هبة ولا صدقة ولا عطية ولا عتق ولاشيء من المعروف إلا أن يعتق أم ولده فيلزمه عتقها وهذا كله في المذهب وهل يتبعها مالها ؟ فيه خلاف قيل يتبع وقيل لا يتبع وقيل بالفرق بين القليل والكثير . وأما ما يفعله بعوض فهو أيضا موقوف على نظر وليه إن كان له ولي فإن لم يكن له ولي قدم له ولي فإن رد بيعه الولي وكان قد أتلف الثمن لم يتبع من ذلك بشيء وكذلك إن أتلف عين المبيع .
وأما أحكام أفعال المحجورين أو المهملين على مذهب مالك فإنها تنقسم إلى أربعة أحوال : فمنهم من تكون أفعاله كلها مردودة وإن كان فيها ما هو رشد . ومنهم ضد هذا وهو أن تكون أفعاله كلها محمولة على الرشد وإن ظهر فيها ما هو سفه . ومنهم من تكون أفعاله كلها محمولة على السفه ما لم يتبين رشده . وعكس هذا أيضا وهو أن تكون أفعاله كلها محمولة على الرشد حتى يتبين سفهه . فأما الذي يحكم له بالسفه وإن ظهر رشده فهو الصغير الذي لم يبلغ والبكر ذات الأب والوصي ما لم تعنس على مذهب من يعتبر التعنيس . واختلف في حده اختلافا كثيرا من دون الثلاثين إلى الستين والذي يحكم له بحكم الرشد وإن علم سفهه فمنها السفيه إذا لم تثبت عليه ولاية من قبل أبيه ولا من قبل السلطان على مشهور مذهب مالك خلافا لابن القاسم الذي يعتبر نفس الرشد لا نفس الولاية والبكر اليتيمة المهملة على مذهب سحنون . وأما الذي يحكم عليه بالسفه بحكم ما لم يظهر رشده : فالابن بعد بلوغه في حياة أبيه على المشهور في المذهب وحال البكر ذات الأب التي لا وصي لها إذا تزوجت ودخل بها زوجها ما لم يظهر رشدها وما لم تبلغ الحد المعتبر في ذلك من السنين عند من يعتبر ذلك وكذلك اليتيمة التي لا وصي لها على مذهب من يرى أن أفعالها مردودة . وأما الحال التي يحكم فيها بحكم الرشد حتى يتبين السفه : فمنها حال البكر المعنس عند من يعتبر التعنيس أو التي دخل بها زوجها ومضى لدخوله الحد المعتبر من السنين عند من يعتبر الحد وكذلك حال الإبن ذي الأب إذا بلغ وجهلت حاله على إحدى الروايتين والابنة البكر بعد بلوغها على الرواية التي لا تعتبر فيها دخولها مع زوجها . فهذه هي جمل ما في الكتاب والفروع كثيرة .
( بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما )