وصية الإمام الأعظم لأبي يوسف C .
- وصية الإمام الأعظم أبي يوسف C بعد أن ظهر له منه الرشد و حسن السيرة والإقبال على الناس فقال له : يا يعقوب وقر السلطان وعظم منزلته و إياك و الكذب بين يديه والدخول عليه في كل وقت ما لم يدعك لحاجة علمية فإنك إذا أكثرت إليه الاختلاف تهاون بك وصغرت منزلتك عنده فكن منه كما أنت من النار تنتفع وتتباعد ولا تدن منها فإن السلطان لا يرى لأحد ما يرى لنفسه و إياك وكثرة الكلام بين يديه ة فإنه يأخذ عليك ما قلته ليرى من نفسه بين يدي حاشيته أنه أعلم منك وإنه يخطئك فتصغر في أعين قومه و لتكن إذا دخلت عليه تعرف قدرك و قدر غيرك .
ولا تدخل عليه و عنده من أهل العلم من لا تعرفه فإنك إن كنت أدون حالا منه لعلك تترفع عليه فيضرك و إن كنت أعلم منه لعلك تنحط عنه فتسقط بذلك من عين السلطان و إذا عرض عليك شيئا من أعماله فلا تقبل منه إلا بعد أن تعلم أنه يرضاك و يرضى مذهبك في العلم و القضايا كيلا تحتاج إلى ارتكاب مذهب غيرك في الحكومات و لا تواصل أولياء السلطان و حاشيته بل تقرب إليه فقط و تباعد عن حاشيته ليكون مجدك وجاهك باقيا .
ولا تتكلم بين يدي العامة إلا بما تسأل عنه و إياك و الكلام في العامة و التجار إلا بما يرجع إلى العلم كيلا يوقف على حبك و رغبتك في المال فإنهم يسيئون الظن بك ويعتقدون ميلك إلى أخذ الرشوة منهم و لا تضحك و لا تتبسم بين يدي العامة .
ولا تكثر الخروج إلى الأسواق و لا تكلم المراهقين فإنهم فتنة و لا بأس أن تكلم الأطفال و تمسح رؤوسهم ولا تمش في قارعة الطريق مع المشايخ و العامة فإنك إن قدمتهم ازدرى ذلك بعلمك و إن أخرتهم ازدرى بك من حيث إنه أسن منك فإن النبي A قال : [ من لم يرحم صغيرنا و لم يوقر كبيرنا فليس منا ] و لا تقعد على قوارع الطريق فإذا دعاك ذلك فاقعد في المسجد و لا تأكل في الأسواق و المساجد و لا تشرب من السقايات و لا من أيدي السقائين و لا تقعد على الحوانيت و لا تلبس الديباج و الحلي وأنواع الإبريسم فإن ذلك يفضي إلى الرعونة .
ولا تكثر الكلام في بيتك مع امرأتك في الفراش إلا وقت حاجتك إليها بقدر ذلك .
ولا تكثر لمسها و مسها و لا تقربها إلا بذكر الله تعالى و لا تتكلم بأمر نساء الغير بين يديها ولا بأمر الجواري فإنها تنبسط إليك في كلامك و لعلك إذا تكلمت عن غيرها تكلمت عن الرجال الأجانب .
ولا تتزوج امرأة كان لها بعل أو أب أو أم أو بنت إن قدرت إلا بشرط ألا يدخل عليها أحد من أقاربها فإن المرأة إذا كانت ذات مال يدعي أبوها أن جميع مالها له و أنه عارية في يدها و لا تدخل بيت أبيها ما قدرت .
و إياك أن ترضى أن تزف في بيت أبويها فإنهم يأخذون أموالك و يطمعون فيها غاية الطمع و إياك و أن تتزوج بذات البنين و البنات فإنها تدخر جميع المال لهم و تسرق من مالك و تنفق عليهم فإن الولد أعز عليها منك .
ولا تجمع بين امرأتين في دار واحدة و لا تتزوج إلا بعد أن تعلم أنك تقدر على القيام بجميع حوائجها .
واطلب العلم أولا ثم أجمع المال من الحلال ثم تزوج فإنك إن طلبت المال في وقت التعلم عجزت عن طلب العلم و دعاك المال إلى شراء الجواري و الغلمان و تشتغل بالدنيا و النساء قبل تحصيل العلم فيضيع وقتك و يجتمع عليك الولد و يكثر عيالك فتحتاج إلى القيام بمصالحهم وتترك العلم و أشتغل بالعلم في عنفوان شبابك وقت فراغ قلبك وخاطرك ثم اشتغل بالمال ليجتمع عندك فإن كثرة الولد و العيال يشوش البال فإذا جمعت المال ة فتزوج .
وعليك بتقوى الله تعال و أداء الأمانة و النصيحة لجميع الخاصة و العامة و لا تستخف بالناس و وقر نفسك و وقرهم و لا تكثر معاشرتهم إلا بعد أن يعاشروك وقابل معاشرتهم بذكر المسائل فإنه إن كان من أهله اشتغل بالعلم و إن لم يكن من أهله أحبك .
وإياك و أن تكلم العامة بأمر الدين في الكلام فإنهم قوم يقلدونك فيشتغلون بذلك ومن جاءك يستفتيك في المسائل فلا تجب إلا عن سؤاله و لا تضم إليه غيره فإنه يشو ش عليك جواب سؤاله .
وإن بقيت عشر سنين بلا كسب و لا قوت فلا تعرض عن العلم فإنك إذا أعرضت عنه كانت معيشتك ضنكا و أقبل على متفقهيك كأنك اتخذت كل واحد منهم ابنا و ولدا لتزيدهم رغبة في العلم و من ناقشك من العامة و السوقة فلا تناقشه فإنه يذهب ماء وجهك ولا تحتشم من أحد عند ذكر الحق و إن كان سلطانا و لا ترض لنفسك من العبادات إلا بأكثر مما يفعله غيرك و يتعاطاها فالعامة إذا لم يروا منك الإقبال عليها بأكثر مما يفعلون اعتقدوا فيك قلة الرغبة و اعتقدوا أن علمك لا ينفعك إلا ما نفعهم الجهل الذي هم فيه .
وإذا دخلت بلدة فيها أهل العلم : فلا تتخذها لنفسك بل كن كواحد من أهلهم ليعلموا أنك لا تقصد جاههم و إلا يخرجون عليك بأجمعهم و يطعنون في مذهبك و العامة يخرجون عليك و ينظرون إليك بأعينهم فتصير مطعونا عندهم بلا فائدة وإن استفتوك في المسائل فلا تناقشهم في المناظرة و المطارحات و لا تذكر لهم شيئا إلا عن دليل واضح ولا تطعن في أساتذتهم فإنهم يطعنون فيك .
وكن من الناس على حذر و كن لله تعالى في سرك كما أنت له في علانيتك و لا يصلح أمر العلم إلا بعد أن تجعل سره كعلانيته و إذا أولاك السلطان عملا لا يصلح لك فلا تقبل ذلك منه إلا بعد أن تعلم أنه إنما لا يوليك ذلك إلا لعلمك و إياك و أن تتكلم في مجلس النظر على خوف فإن ذلك يورث الخلل في الإحاطة و الكلل في اللسان .
وإياك أن تكثر الضحك فإنه يميت القلب و لا تمس إلا على طمأنينة و لا تكن عجولا في الأمور و من دعاك من خلفك فلا تجبه فإن البهائم تنادى من خلفها و إذا تكلمت فلا تكثر صياحك و لا ترفع صوتك و اتخذ لنفسك السكون وقلة الحركة عادة كي يتحقق عند الناس ثباتك .
وأكثر ذكر الله تعالى فيما بين الناس ليتعلموا ذلك منك و اتخذ لنفسك أورادا خلف الصلاة ة تقرأ فيها القرآن و تذكر الله تعالى و تشكره على ما أودعك من الصبر و أولاك من النعم و اتخذ لنفسك أياما معدودة من كل شهر تصوم فيها ليقتدي غيرك بك .
وراقب نفسك و حافظ على الغير لتنتفع من دنياك و آخرتك بعلمك و لا تشتر بنفسك و لا تبع بل اتخذ لك غلاما مصلحا يقوم بأشغالك و تعتمد عليه في أمورك و لا تطمئن إلى دنياك و إلى ما أنت فيه فإن الله تعالى سائلك عن جميع ذلك .
ولا تشتر الغلمان المردان و لا تظهر من نفسك التقرب إلى السلطان و إن قربك فإنه ترفع إليك الحوائج فإن قمت أهانك و إن لم تقم أعابك .
ولا تتبع الناس في خطئهم بل اتبع في صوابهم وإذا عرفت إنسانا بالشر فلا تذكره به بل اطلب منه خيرا فاذكره به إلا في باب الدين فإنك إن عرفت في دينه ذلك فاذكره للناس كيلا يتبعوه ويحذروه وقال عليه السلام : [ اذكروا الفاجر بما فيه حتى يحذره الناس و إن كان ذا جاه و منزلة ] و الذي ترى منه الخلل في الدين فاذكر ذلك و لا تبال من جاهه فإن الله تعالى معينك و ناصرك و ناصر الدين فإذا فعلت ذلك مرة ة هابوك و لم يتجاسر أحد على إظهار البدعة في الدين .
وإذا رأيت من سلطانك ما لا يوافق العلم فاذكر ذلك مع طاعتك إياه فإن يده أقوى من يسك تقول له : أنا مطيع لك في الشيء أنت فيه سلطان و مسلط علي غير أني أذكر من سيرتك ما لا يوافق العلم فإذا فعلت مع السلطان مرة كفاك لأنك إذا واظبت عليه ودمت لعلهم يقهرونك فيكون في ذلك قمع للدين فإذا فعل ذلك مرة أو مرتين ليعرف منك الجهد في الدين و الحرص في الأمر بالمعروف فإذا فعل ذلك مرة أخرى فادخل عليه وحدك في داره و انصحه في الدين و ناظره إن كان مبتدعا و إن كان سلطانا فاذكر له ما يحضرك من كتاب الله تعالى و سنة رسول الله A فإن قبل منك وإلا فاسأل الله تعالى أن حفظك منه .
واذكر الموت و استغفر للأستاذ و من أخذت عنهم العلم و داوم على التلاوة و أكثر من زيارة القبور و المشايخ و المواضع المباركة و اقبل من العامة ما يعرضون عليك من رؤياهم في النبي A و في رؤيا الصالحين في المساجد و المنازل و المقابر و لا تجالس أحدا من أهل الأهواء إلا على سبيل الدعوة إلى الدين و لا تكثر اللعب و الشتم و إذا أذن المؤذن فتأهب لدخول المسجد كيلا تتقدم عليك العامة .
ولا تتخذ دارك في جوار السلطان و ما رأيت على جارك فاستره عليه فإنه أمانة ولا تظهر أسرار الناس و من استشارك في شيء فأشر عليه بما تعلم أنه يقربك إلى الله تعالى .
وأقبل و صيتي هذه فإنك تنتفع بها في أولاك و أخراك إن شاء الله تعالى .
وإياك و البخل فإنه يبغض به المرء و لا تك طماعا و لا كثابا و لا صاحب تخليط بل احفظ مروءتك في الأمور كلها .
وألبس من الثياب البيض في الأحوال كلها و أظهر غنى القلب مظهرا من نفسك قلة الحرص و الرغبة في الدنيا و أظهر من نفسك الغناء و لا تظهر الفقر و إن كنت فقيرا وكن ذا همة فإن من ضعفت همته ضعفت منزلته .
وإذا مشيت في الطريق فلا تلتفت يمينا و لا شمالا بل داوم النظر إلى الأرض و إذا دخلت الحمام فلا تساو الناس في أجرة الحمام و المجلس بل ارجح على ما تعطي العامة لتظهر مروءتك بينهم فيعظمونك و لا تسلم الأمتعة إلى الحائك و سائر الصناع بل اتخذ لنفسك ثقة يفعل ذلك و لا تماكس بالحبات و الدوانيق و لا تزن الدراهم بل اعتمد على غيرك .
وحقر الدنيا المحقرة عند أهل العلم فإن ما عند الله خير منها و ول أمورك غيرك ليمكنك الإقبال على العلم فإن ذلك أحفظ لحاجتك .
وإياك إن تكلم المجانين و من لا يعرف المناظرة و الحجة من أهل العلم و الذين يطلبون الجاه و يستغرقون بذكر المسائل فيما بين الناس فإنهم يطلبون تخجيلك و لا يبالون منك و إن عرفوك على الحق .
وإذا دخلت على قوم كبارة فلا ترتفع عليهم ما لم يرفعوك كيلا يلحق بك منهم أذية وإذا كنت في قوم تتقدم عليهم في الصلاة ما لم يقدموك على وجه التعظيم .
ولا تدخل الحمام وقت الظهيرة والغداة و لا تخرج إلى النظارات و لا تحضر مظالم السلاطين إلا إذا عرفت أنك إذا قلت شيئا ينزلون على قولك بالحق فإنهم إن فعلوا ما لا يحل و أنت عندهم ربما لا تملك منعهم و يظن الناس أن ذلك حق لسكوتك فيما بينهم وقت الإقدام عليه .
وإياك و الغضب في مجلس العلم و لا تقص على العامة فإن القاص لا بد له أن يكذب و إذا أردت اتخاذ مجلس لأحد من أهل العلم فإن كان مجلس فقه فاحضر بنفسك و اذكر فيه ما تعلمه و إلا فلا كيلا يغتر الناس بحضورك فيظنون أنه على صفة من العلم وليس هو على تلك الصفة و إن كان يصلح للفتوى فاذكر منه ذلك و إلا فلا و لا تقعد ليدرس الآخر بين يديك بل أترك عنده من أصحابك ليخبرك بكيفية كلامه و كمية علمه و لا تحضر مجالس الذكر أو من يتخذ مجلس و عظ بجاهك و تزكيتك له بل وجه أهل محلتك و عامتك الذين تعتمد عليهم مع واحد من أصحابك .
وفوض أمر المناكح إلى خطيب ناحيتك و كذا صلاة الجنازة و العيدين .
ولا تنسني من صالح دعائك و اقبل هذه الموعظة مني و إنما أوصيك لمصلحتك ومصلحة المسلمين انتهى .
- وفي آخر تلقيح المحبوبي : قال الحاكم الجليل : نظرت في ثلاثمائة جزء مثل الأمالي و نوادر ابن سماعة حتى انتقيت كتاب المنتقى .
وقال حين ابتلي بمحنة القتل بمرو من جهة الأتراك هذا جزاء من آثر الدنيا على الآخرة و العالم متى أخفى علمه و ترك حقه خيف عليه أن يمتحن بما يسوؤه .
وقيل : كان سبب ذلك : أنه لما رأى في كتب محمد مكررات و تطويلات خلعها وحذف مكررها فرأى محمدا C تعالى في منامه فقال : لم فعلت هذا بكتبي فقال : لأن في الفقهاء كسالى فحذفت المكرر و ذكرت المقرر تسهيلا فغضب و قال قطعك الله كما قطعت كتبي فابتلي بالأتراك حتى جعلوه على رأس شجرتين فتقطع نصفين C تعالى .
تم الكتاب و الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وله الفضل و المنة في الأولى و الآخرة