ما يرجع إلى المكفول به .
و أما الذي يرجع إلى المكفول به فنوعان : .
أحدهما : أن يكون المكفول به مضمونا على الأصيل سواء كان دينا أوعينا أو نفسا أو فعلا ليس بدين و لا عين و لا نفس عند أصحابنا إلا أنه يشترط في الكفالة بالعين أن تكون مضمونة بنفسها .
و جملة الكلام فيه : أن المكفول به أربعة أنواع : عين و دين و نفس و فعل ليس بدين و لا عين و لا نفس .
أما العين فنوعان : عين هي أمانة و عين هي مضمونة أما العين التي هي أمانة فلا تصح الكفالة بها سواء كانت أمانة غير واجبة التسليم كالودائع و مال الشركات و المضاربات أو كانت أمانة واجبة التسليم كالعارية و المستأجر في يد الأجير لأنه أضاف الكفالة إلى و عينها ليست بمضمونة و له كفل بتسليم المستعار و المستأجر عن المستعير و المستأجر جاز لأنهما مضمونا التسليم عليهما فالكفالة أضيفت إلى مضمون على الأصيل و هو فعل التسليم فصحت .
و أما العين المضمونة فنوعان : مضمون بنفسه كالمغصوب و المقبوض بالبيع الفاسد و المقبوض على سوم الشراء و مضمون بغيره كالمبيع قبل القبض و الرهن فتصح الكفالة بالنوع الأول لأنه كفالة بمضمون بنفسه .
ألا ترى أنه يجب رد عينه حال قيامه ورد مثله أو قيمته حال هلاكه فيصير مضمونا على الكفيل على هذا الوجه أيضا و لا تصح بالنوع الثاني لأن المبيع قبل القبض مضمون بالثمن لا بنفسه .
ألا ترى أنه إذا هلك في يد البائع لا يجب عليه شيء و لكن يسقط الثمن عن المشتري .
و كذا الرهن غير مضمون بنفسه بل الدين ألا يرى أنه إذا هلك لا يجب على المرتهن شيء و لكن يسقط الدين عن الراهن بقدره .
و أما الفعل فهو فعل التسليم في الجملة فتجوز الكفالة بتسليم المبيع و الرهن لأن المبيع مضمون التسليم على البائع و الرهن مضمون التسليم على المرتهن في الجملة بعد قضاء الدين فكان المكفول به مضمونا على الأصيل و هو فعل التسليم فصحت الكفالة به لكنه إذا هلك لا شيء على الكفيل لأنه لم يبق مضمونا على الأصيل فلا يبقى على الكفيل .
و لو استأجر دابة للحمل فكفل رجل بالحمل فإن كانت الدابة بعينها لم تجز الكفالة بالحمل و إن كانت بغير عينها جازت لأن في الوجه الأول الواجب على الآجر فعل تسليم الدابة دون الحمل فلم تكن الكفالة بالحمل كفالة بمضمون على الأصيل فلم تجز .
و في الوجه الثاني : الواجب عليه فعل الحمل دون تسليم الدابة فكانت الكفالة بالحمل كفالة بفعل هو مضمون على الأصيل فجازت و على هذا إذا كفل بنفس من عليه الحق جاز عند أصحابنا لأن الكفالة بالنفس كفالة بالفعل و هو تسليم النفس و فعل التسليم مضمون على الأصيل فقد كفل بمضمون على الأصيل فجاز و كذا إذا كفل برأسه أو بوجهه أو برقبته أو بروحه أو بنصفه .
و الأصل فيه : أنه إذا أضاف الكفالة إلى جزء جامع كالرأس و الوجه و الرقبة و نحوها جازت لأن هذه الأجزاء يعبر بها عن جملة البدن فكان ذكرا للبدن كما في باب الطلاق و العتاق .
و كذا إذا أضاف إلى جزء شائع كالنصف و الثلث و نحوهما جازت لأن حكم الكفالة بالنفس وجوب تسليم النفس بثبوت ولاية المطالبة و النفس في حق وجوب التسليم لا تتجزأ و ذكر بعض ما لا يتجزأ شرعا ذكر لكله كما في الطلاق و العتاق و إذا أضافها إلى اليد أو الرجل و نحوهما من الأجزاء المعينة لا تجوز لأن هذه الأعضاء لا يعبر بها عن جميع البدن و هي في حكم الكفالة متجزئة فلا يكون ذكرها ذكرا لجميع البدن كما في الطلاق و العتاق و لو قال في الكفالة بالنفس هو جاز لأن هذا صريح في التزام تسليم النفس .
و كذا إذا قال : أنا ضامن لوجهه لأن الوجه جزء جامع و لو قال أنا ضامن لمعرفته لا تصح لأن المعرفة لا تحتمل أن تكون مضمونة على الأصيل و لو قال للطالب أنا ضامن لك لم يصح لأن المضمون غير معلوم أصلا ثم ما ذكرنا من الكفالة بالنفس و العين و الفعل أنها صحيحة و ما ذكرنا من التفريعات عليها مذهب أصحابنا و قال الشافعي C : إنها غير صحيحة .
وجه قوله : أن الكفالة أضيفت إلى غير محلها فلا تصح و دلالة ذلك أن الكفالة التزام الدين فكان محلها الدين فلم توجد و التصرف المضاف إلى غير محله باطل و لأن القدرة على تسليم المكفول به شرط جواز الكفالة و القدرة على الإعتاق لا تتحقق .
و لنا قوله عز و جل : { و لمن جاء به حمل بعير و أنا به زعيم } أخبر الله عز شأنه عن الكفالة بالعين عن الأمم السالفة و لم يغير و الحكيم إذا حكى عن منكر غيره و لأن هذا حكم لم يعرف له مخالف من عصر الصحابة و التابعين إلى زمن الشافعي C فكان الإنكار خروجا عن الإجماع فكان باطلا و لما ذكرنا أن هذه الكفالة أضيفت إلى مضمون على الأصيل مقدور الاستيفاء من الكفيل فتصح أصله الكفالة بالدين .
و قوله : الكفالة التزام الدين ممنوع بل هي التزام المطالبة بمضمون على الأصيل و قد يكون ذلك دينا و قد يكون عينا و العين مقدورة التسليم في حق الأصيل كالدين عبد مقر بالرق في يد رجل فأخذ منه المولى كفيلا بنفسه فأبق فهو باطل لأنه كفل بما ليس بمضمون .
و كذا لو كفل بعد إباقه لما قلنا و كذا لو ادعى رجل على إنسان أنه عبده و أنكر المدعى عليه و زعم أنه حر و كفل رجل بنفسه حتى لو أقام البينة على أنه عبده فمات المدعى عليه لا شيء على الأصيل لما ذكرنا و لو كان المدعي في يد ثالث فقال أنا ضامن لك قيمة هذا إن استحقيته صحت الكفالة حتى لو أقام البينة على أنه عبده فمات المدعى عليه فالكفيل ضامن كل قيمته لأن بإقامة البينة تبين أنه كفل بمضمون صبي في يد رجل يدعي أنه ابنه و ادعى رجل آخر أنه عبده فضمن له إنسان فأقام المدعي البينة و قد مات الصبي فالكفيل ضامن لما ذكرنا أنه لما قامت البينة تبين أنه كفيل بمضمون .
و عن محمد فيمن ادعى على إنسان أنه غصبه عبدا فقبل أن يقيم البينة قال رجل : أنا ضامن بالعبد الذي يدعي فهو ضامن حتى يأتي بالعبد فيقيم البينة عليه لأنه كفل بمضمون على الأصيل و هو إحضاره مجلس القاضي فإن هلك و استحقه ببينة فهو ضامن لقيمته لأنه تبين أنه كفل بمضمون بعين مضمون بنفسه .
و لو ادعى أنه غصبه ألف درهم و استهلكها أو عبدا و مات في يده فقال رجل خله فأنا ضامن المال أو لقيمة العبد فهو ضامن يأخذه به من ساعته و لا يقف على إقامة البينة لأن بقوله أنا ضامن لقيمة العبد أقر بكون القيمة واجبة على الأصيل فقد كفل بمضمون على الأصيل فلا يقف على البينة بخلاف الفصل الأول لأن هناك ما عرف وجوب القيمة بإقراره بل بإقامة البينة فتوقف عليها .
و النوع الثاني : أن يكون الكفول به مقدور الاستيفاء على الكفيل ليكون العقد مفيدا فلا تجوز الكفالة بالحدود و القصاص لتعذر الاستيفاء من الكفيل فلا تفيد الكفالة فائدتها و ههنا شرط ثالث لكنه يخص الدين و هو أن يكون لازما فلا تصح الكفالة عن المكاتب لمولاه ببدل الكتابة لأنه ليس بدين لازم لأن المكاتب يملك إسقاط الدين عن نفسه بالتعجيز لا بالكسب بمضمون .
و تجوز الكفالة بنفس من عليه القصاص في النفس و ما دونها و بحد القذف و السرقة إذا بذلها المطلوب فأعطاه بها كفيلا بلا خلاف بين أصحابنا و هو الصحيح لأنه كفالة بمضمون على الأصيل مقدور الاستيفاء من الكفيل فتصح كالكفالة بتسليم نفس من عليه الدين و إنما الخلاف أنه إذا امتنع من إعطاء الكفيل عند الطلب هل يجبره القاضي عليه قال أبو حنيفة : لا يجبره و قال أبو يوسف و محمد : يجبره .
وجه قولهما : أن نفس من عليه القصاص و الحد مضمون التسليم عليه عند الطلب كنفس من عليه الدين ثم تصح الكفالة بنفس من عليه الدين و يجبر عليها عند الطلب فكذا هذا .
و لأبي حنيفة : أن الكفالة شرعت وثيقة و الحدود مبناها على الدرء فلا يناسبها التوثيق بالجبر على الكفالة و لا يلزمه الحبس في الحدود و القصاص قبل تزكية الشهود و الحبس توثيق لأن الحبس للتهمة لا للتوثيق لأن شهادة شاهدين أو شاهد واحد لا تخلو عن إيراث تهمة فكان الحبس لأجل التهمة دون التوثيق و يجوز الجبر على إعطاء الكفيل في التعذير لأنه لا يحتال لدرئه لكونه حق العبد .
و أما الدين فتصح الكفالة به بلا خلاف لأنه مضمون على الأصيل مقدور الاستيفاء من الكفيل .
و النوع الثالث : أن يكون المكفول به مقدور الاستيفاء من الكفيل ليكون العقد مفيدا فلا تجوز الكفالة بالحدود و القصاص لتعذر الاستيفاء من الكفيل فلا تفيد الكفالة فائدتها و ههنا شرط ثالث لكنه يخص الدين و هو أن يكون لازما فلا تصح الكفالة عن المكاتب لمولاه ببدل الكتابة لأنه ليس بدين لازم لأن المكاتب يملك إسقاط الدين عن نفسه بالتعجيز لا بالكسب فلو أجزنا الكفالة بدل الكتابة لكان لا يخلو .
إما أن يملك الكفيل إسقاطه عن نفسه كما يملك الأصيل و إما أن لا يملك فإن ملك لا تفيد الكفالة و إن لم يملك لم يكن هذا التزام ما على الأصيل فلا يتحقق التصرف كفالة و لأنا لو أجزنا هذه الكفالة لكان الدين على الكفيل ألزم منه على الأصيل لأن المكاتب إذا مات عاجزا بطل عنه الدين .
و لو مات الكفيل عاجزا مفلسا لم يبطل عنه الدين فكان الحق على الكفيل ألزم منه على الأصيل و هذا خلاف ما توجبه الأصول و لأن الكفالة جوازها بالعرف فلا تجوز فيما لا عرف فيه و لا عرف في الكفالة ببدل الكتابة .
و كذا لا تجوز الكفالة عن المكاتب لمولاه بسائر الديون سوى دين الكتابة لأن غيره من الديون إنما وجب للمولى عليه بمشيئته ألا ترى أنه لولا لزوم الكتابة عليه لما وجب عليه دين آخر فكان دين الكتابة أصلا لوجوب دين آخر عليه فلما لم تجز الكفالة بالأصل فلأن لا تجوز بالفرع أولى و أحرى .
و لا تجوز الكفالة ببدل السعاية عند أبي حنيفة و عندهما تجوز بناء على أن المستسعى بمنزلة المكاتب عنده و عندهما بمنزلة حر عليه دين و كون المكفول به معلوم الذات في أنواع الكفالات أو معلوم القدر في الدين ليس بشرط حتى لو كفل بأحد شيئين غير عين بأن كفل بنفس رجل أو ربما عليه و هو ألف جاز و عليه أحدهما أيهما شاء لأن هذه جهالة مقدورة الدفع بالبيان فلا تمنع جواز الكفالة .
و كذا إذا كفل بنفس رجل أو بما عليه أو بنفس رجل آخر أو بما عليه جاز و يبرأ بدفع واحد منهما إلى الطالب .
و لو كفل عن رجل بما لفلان عليه أو بما يدركه في هذا البيع جاز لأن جهالة قدر المكفول به لا تمنع صحة الكفالة قال الله تعالى جل شأنه : { و لمن جاء به حمل بعير و أنا به زعيم } أجاز الله تعالى عز شأنه الكفالة بحمل البعير مع أن الحمل يحتمل الزيادة و النقصان و الله عز و جل أعلم .
و لو ضمن رجل بالعهدة فضمانه باطل عند أبي حنيفة و عندهما صحيح .
وجه قولهما أن ضمان العهدة في متعارف الناس ضمان الدرك و هو ضمان الثمن عند استحقاق المبيع و ذلك جائز بلا خلاف بين أصحابنا و لأبي حنيفة C أن العهدة تحتمل الدرك وتحتمل الصحيفة و هو الصك و أحدهما و هو الصك غير مضمون على الأصيل فدارت الكفالة بالعهدة بين أن تكون بمضمون و غير مضمون فلا تصح مع الشك فلم يكن عدم الصحة عنده لجهالة المكفول به بل لوقوع الشك في وجود شرط الجواز و هو كونه مضمونا على الأصيل و ضمان الدرك هو ضمان الثمن عند استحقاق المبيع و إذا استحق المبيع يخاصم المشتري البائع أولا فإذا قضى عليه بالثمن يكون قضاء على الكفيل و له أن يأخذ من أيهما شاء و ليس له أن يخاصم الكفيل أولا في ظاهر الرواية و روي عن أبي يوسف أنه قال الكفيل يكون خصما .
هذا إذا كان المبيع ما سوى العبد فإن كان عبدا فظهر أنه حر بالبينة فللمشتري أن يخاصم أيهما شاء بالإجماع و لو انفسخ البيع بينهما بما سوى الاستحقاق بالرد بالعيب أو بخيار الشرط أو بخيار الرؤية لا يؤاخذ به الكفيل لأن ذلك ليس من الدرك .
و لو أخذ المشتري رهنا بالدرك لا يصح بخلاف الكفالة بالدرك و الفرق عرف في موضعه و لو بنى المشتري في الدار بناء ثم استحقت الدار و نقض عليه البناء فللمشتري أن يرجع على بائعه بالثمن و بقيمة بنائه مبينا إذا سلم النقض إلى البائع و إن لم يسلم لا يرجع عليه إلا بالثمن خاصة في ظاهر الرواية و روي عن أبي يوسف أنه يرجع عليه بالثمن و بقيمة البناء و التالف .
و لو سلم النقض إلى البائع و قضى عليه بالثمن و قيمة البناء مبينا له أن يأخذ أيهما شاء بالثمن و يأخذ البائع يقيمة البناء في ظاهر الرواية و ذكر الطحاوي أنه يأخذ أيهما شاء بهما جميعا إن شاء أخذهما من البائع و إن شاء أخذهما من الكفيل بالدرك ثم يرجع الكفيل على البائع إن كانت الكفالة بأمره جعل الطحاوي قيمة البناء بمنزلة الثمن و هو غير سديد لأن المفهوم من الدرك ضمان المشتري في متعارف الناس فلا تكون قيمة البناء داخلة تحت الكفالة بالدرك .
و كذلك لو كان المبيع جارية فاستولدها المشتري ثم استحقها رجل و أخذ منه قيمة الجارية و قيمة الولد و العقر فإن المشتري يأخذ الثمن من ايهما شاء و لا يؤخذ الكفيل بقيمة الولد و للمشتري أن يأخذ قيمة الولد من البائع خاصة لأنه لم يدخل تحت الكفالة بالدرك و الله عز و جل أعلم و لو كفل بماله على فلان فقامت البينة عليه ضمنها الكفيل لأنه تبين أنه كفل بمضمون على الأصيل و إن لم تقم البينة فالقول قول الكفيل مع يمينه في مقدار ما يقر به أما القول قوله في المقر به لأنه مال لزم بالتزامه فيصدق في القدر الملتزم كما إذا أقر على نفسه بمال مجهول .
و اما اليمين فلأنه منكر الزيادة و القول قول المنكر مع يمينه في الشرع و لو اقر المكفول عنه بأكثر مما أقر به لم يصدقه على كفيله لأن إقرار الإنسان حجة في حق نفسه لا في حق غيره لأنه مقر في حق نفسه مدع في حق غيره و لا يظهر صدق المدعي إلا بحجة