حكم البيع .
فصل : و أما حكم البيع فلا يمكن الوقوف عليه إلا بعد الوقوف على تسمية البياعات في حق الحكم فنقول و بالله التوفيق .
البيع في حق الحكم لا يخلو إما ان يكون صحيحا و إما أن يكون فاسدا و إما أن يكون باطلا و إما أن يكون موقوفا و الصحيح لا يخلو إما أن يكون فيه خيار أو لا خيار فيه .
أما البيع الصحيح الذي لا خيار فيه فله أحكام لكن بعضها أصل و بعضها من التوابع .
أما الحكم الأصلي فالكلام فيه في موضعين : في بيان أصل الحكم و في بيان صفته أما الأول فهو في ثبوت الملك للمشتري في المبيع و للبائع في الثمن للحال فلا بد من معرفة المبيع و الثمن لمعرفة حكم البيع و الأحكام المتعلقة بهما فيقع الكلام في موضعين : أحدهما : في تفسير المبيع و الثمن .
و الثاني : في بيان الأحكام المتعلقة بهما أما الأول فنقول و لا قوة إلا بالله تعالى .
المبيع و الثمن على اصل اصحابنا من الأسماء المتباينة الواقعة على معان مختلفة فالمبيع في الأصل اسم لما يتعين بالتعيين و الثمن في الأصل ما لا يتعين بالتعيين و إن احتمل تغير هذا الأصل بعارض بأن يكون ما لا يحتمل التعيين مبيعا كالمسلم فيه و ما يحتمله ثمنا كرأس مال السلم إذا كان عينا على ما نذكره إن شاء الله تعالى .
و أما على أصل زفر C و هو قول الشافعي C فالمبيع و الثمن من الأسماء المترادفة الواقعة على مسمى واحد و إنما يتميز أحدهما عن الآخر في الأحكام بحرف الباء .
و إذا عرف هذا فالدراهم و الدنانير على أصل أصحابنا أثمان لا تتعين في عقود المعاوضات في حق الاستحقاق و إن عينت حتى لو قال بعت منك هذا الثوب بهذه الدراهم أو بهذه الدنانير كان للمشتري أن يمسك المشار إليه و يرد مثله و لكنها تتعين في حق ضمان الجنس و النوع و الصفة و القدر حتى يجب عليه رد مثل المشار إليه جنسا و نوعا و قدرا و صفة و لو هلك المشار إليه لا يبطل العقد و على أصلهما يتعين حتى يستحق البائع على المشتري الدراهم المشار إليها كما في سائر الأعيان المشار إليها و لو هلك قبل القبض يبطل العقد كما لو هلك سائر الأعيان وجه قولهما أن المبيع و الثمن يستعملان استعمالا واحدا قال الله تعالى : { و لا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا } سمى سبحانه و تعالى المشتري و هو المبيع ثمنا دل على ان الثمن مبيع و المبيع ثمن و لهذا جاز أن يذكر الشراء بمعنى البيع يقال شريت الشيء بمعنى بعته .
قال الله تعالى : { و شروه بثمن بخس دراهم } أي و باعوه و لأن ثمن الشيء قيمته و قيمة الشيء ما يقوم مقامه و لهذا سمي قيمة لقيامه مقام غيره و الثمن و المثمن كل واحد منهما يقوم مقام صاحبه فكان كل واحد منهما ثمنا و مبيعا دل أنه لا فرق بين الثمن و المبيع في اللغة و المبيع يحتمل التعين بالتعيين فكذا الثمن إذ هو مبيع على ما بينا .
و لنا : أن الثمن في اللغة اسم لما في الذمة هكذا نقل عن الفراء و هو إمام في اللغة و لأن أحدهما يسمى ثمنا و الآخر مبيعا في عرف اللغة و الشرع و اختلاف الأسامي دليل اختلاف المعاني في الأصل إلا أنه بستعمل أحدهما مكان صاحبه توسعا لأن كل واحد منهما يقابل صاحبه فيطلق اسم أحدهما على الآخر لوجود معنى المقابلة كما يسمى جزاء السيئة سيئة و جزاء الاعتداء اعتداء فأما الحقيقة فما ذكرنا و إذا كان الثمن اسما لما في الذمة لم يكن محتملا للتعيين بالإشارة فلم يصح التعيين حقيقة في حق استحقاق العين فجعل كناية عن بيان الجنس المشار إليه و نوعه و صفته و قدره تصحيحا لتصرف العاقل بقدر الإمكان و لأن التعيين غير مفيد لأن كل عوض يطلب من المعين في المعاوضات يمكن استيفاؤه من مثله فلم يكن التعيين في حق استحقاق العين مفيدا فيلغو في حقه و يعتبر في بيان حق الجنس و النوع و الصفة و القدر لأن التعيين في حقه مفيد ثم الدراهم و الدنانير عندنا أثمان على كل حال أي شيء كان في مقابلتها و سواء دخله حرف الباء فيهما أو فيما يقابلهما لأنها لا تتعين بالتعيين بحال فكانت أثمانا على كل حال .
و أما ما سواهما من الأموال فإن كان مما لا مثل له من العدديات المتفاوتة و الذرعيات فهو مبيع على كل حال لأنها تتعين بالتعين بل لا يجوز بيعها إلا عينا إلا الثياب الموصوفة المؤجلة سلما فإنها تثبت دينا في الذمة مبيعة بطريق السلم استحسانا بخلاف القياس لحاجة الناس إلى السلم فيها و كذا الموصوف المؤجل فيها لا بطريق السلم يثبت دينا في الذمة ثمنا استحسانا و إن كان مما له مثل كالمكيلات و الموزونات و العدديات المتقاربة فإن كان في مقابلة المكيل أو الموزون دراهم أو دنانير فهو مبيع و إن كان في مقابلته ما لا مثل له من الأعيان التي ذكرنا فإنه ينظر إن كان المكيل أو الموزون معينا فهو مبيع و إن لم يكن معينا يحكم فيه حرف الباء فما دخله فهو ثمن و الآخر مبيع و إن كان أحدهما معينا و الآخر موصوفا أو كان كل واحد منهما موصوفا فإنه يحكم فيه حرف الباء فما صحبه فهو الثمن و الآخر المبيع .
و أما الفلوس الرائجة فإن قوبلت بخلاف جنسها فهي أثمان و كذا إن قوبلت بجنسها متساوية في العدد و إن قوبلت بجنسها متفاضلة في العدد فهي مبيعة عند أبي حنيفة و أبي يوسف و عند محمد : هي أثمان على كل حال و الله عز و جل أعلم