شرائط جريان الربا .
فصل : و أما شرائط جريان الربا .
فمنها : أن يكون البدلان معصومين فإن كان أحدهما غير معصوم لا يتحقق الربا عندنا .
و عند أبي يوسف : هذا ليس بشرط و يتحقق الربا .
و على هذا الأصل يخرج ما إذا دخل مسلم دار الحرب تاجرا فباع حربيا درهما بدرهمين أو غير ذلك من سائر البيوع الفاسدة في حكم الإسلام أنه يجوز عند أبي حنيفة و محمد و عند أبي يوسف : لا يجوز .
و على هذا الخلاف المسلم الأسير في دار الحرب أو الحربي الذي أسلم هناك و لم يهاجر إلينا فبايع أحدا من أهل الحرب .
وجه قول أبي يوسف : أن حرمة الربا كما هي ثابتة في حق المسلمين فهي ثابتة في حق الكفار لأنهم مخاطبون بالحرمات في الصحيح من الأقوال فاشتراطه في البيع فساده كما إذا بايع المسلم الحربي المستأمن في دار الإسلام .
و لهما : أن مال الحربي ليس بمعصوم بل هو مباح في نفسه إلا أن المسلم المستأمن منع من تملكه من غير رضاه لما فيه من الغدر و الخيانة فإذا بذله باختياره و رضاه فقد زال هذا المعنى فكان الأخذ استيلاء على مال مباح غير مملوك و أنه مشروع مفيد للملك كالاستيلاء على الحطب و الحشيش و به تبين أن العقد ههنا ليس بتملك بل هو تحصيل شرط التملك و هو الرضا لأن ملك الحربي لا يزول بدونه و ما لم يزل ملكه لا يقع الأخذ تملكا لكنه إذا زال فالملك للمسلم يثبت بالأخذ و الاستيلاء لا بالعقد فلا يتحقق الربا لأن الربا اسم لفضل يستفاد بالعقد بخلاف المسلم إذا باع حربيا دخل دار الإسلام بأمان لأنه استفاد العصمة بدخوله دار الإسلام بأمان و المال المعصوم لا يكون محلا للاستيلاء فتعين التملك فيه بالعقد و شرط الربا في العقد مفسد .
و كذلك الذمي إذا دخل دار الحرب فباع حربيا درهما بدرهمين أو غير ذلك من البيوع الفاسدة في الإسلام فهو على هذا الخلاف الذي ذكرنا لأن ما جاز من بيوع المسلمين جاز من بيوع أهل الذمة و ما يبطل أو يفسد من بيوع المسلمين يبطل أو يفسد من بيوعهم إلا الخمر و الخنزير على ما نذكر إن شاء الله تعالى .
و منها : أن يكون البدلان متقومين شرعا و هو أن يكونا مضمونين حقا للعبد فإن كان أحدهما غير مضمون حقا للعبد لا يجري فيه الربا .
و على هذا يخرج ما إذا دخل المسلم دار الحرب فبايع رجلا أسلم في دار الحرب و لم يهاجر إلينا درهما بدرهمين أو غير ذلك من البيوع الفاسدة في دار الإسلام أنه يجوز عند أبي حنيفة .
و عندهما : لا يجوز لأن العصمة و إن كانت ثابتة فالتقوم ليس بثابت عنده حتى لا يضمن نفسه بالقصاص و لا بالدية عنده و كذا ماله لا يضمن بالإتلاف لأنه تابع للنفس و عندهما نفسه و ماله معصومان متقومان و المسألة تأتي في كتاب السير .
و لو دخل مسلمان دار الحرب فتبايعا درهما بدرهمين أو غيره من البيوع الفاسدة في دار الإسلام لا يجوز لأن مال كل واحد منهما معصوم متقوم فكان التملك بالعقد فيفسد بالشرط الفاسد .
و لو أسلم الحربي الذي بايع المسلم و دخل دار الإسلام أو اسلم أهل الدار فما كان من ربا مقبوض أو بيع فاسد مقبوض فهو جائز ماض و ما كان غير مقبوض يبطل لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين } أمرهم سبحانه و تعالى بترك ما بقي من الربا و الأمر بترك ما بقي من الربا نهي عن قبضه فكأنه تعالى قال : اتركوا قبضه فيقتضي حرمة القبض .
و روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ كل ربا في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي ] و الوضع عبارة عن الحط و الإسقاط و ذلك فيما لم يقبض و لأن بالإسلام حرم ابتداء العقد فكذا القبض بحكم العقد لأنه تقرير العقد و تأكيده فيشبه العقد فيلحق به إذ هو عقد من وجه فيلحق بالثابت من كل وجه في باب الحرمات احتياطا و متى حرم القبض لم يكن في بقاء العقد فائدة .
و منها : أن لا يكون البدلان ملكا لأحد المتبايعين فإن كان لا يجري الربا و على هذا يخرج العبد المأذون إذا باع مولاه درهما بدرهمين و ليس عليه دين أنه يجوز لأنه إذا لم يكن عليه دين فما في يده لمولاه فكان البدلان ملك المولى فلا يكون هذا بيعا فلا يتحقق الربا إذ هو مختص بالبياعات .
و كذلك المتفاوضان إذا تبايعا درهما بدرهمين يجوز لأن البدل من كل واحد منهما مشترك بينهما فكان مبادلة ماله بماله فلا يكون بيعا و لا مبادلة حقيقة و كذلك الشريكان شركة العنان إذا تبايعا درهما بدرهمين من مال الشركة جاز لما قلنا .
و لو تبايعا من غير مال الشركة لا يجوز لأنهما في غير مال الشركة أجنبيان و لو كان على العبد المأذون دين فباعه مولاه درهما بدرهمين لا يجوز بالإجماع أما عند أبي حنيفة C فظاهر لأن المولى لا يملك كسب عبده المأذون المديون عنده فلم يجتمع البدلان في ملك واحد .
و عندهما : و إن كان يملك لكن ملكا محجورا عن التصرف فيه لتعلق حق الغرماء به فكان المولى كالأجنبي عنه و كذلك المولى إذا عاقد مكاتبه عقد الربا لم يجز لأن المكاتب في حق الاكتساب ملحق بالأحرار لانقطاع تصرف المولى عنها فأشبه الأجانب .
و أما إسلام المتبايعين فليس بشرط لجريان الربا فيجري الربا بين أهل الذمة و بين المسلم و الذمي لأن حرمة الربا ثابتة في حقهم لأن الكفار مخاطبون بشرائع هي حرمات إن لم يكونوا مخاطبين بشرائع هي عبادات عندنا قال الله تعالى { و أخذهم الربا و قد نهوا عنه و أكلهم أموال الناس بالباطل } .
و روي : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب إلى مجوس هجر : إما أن تذروا الربا أو تأذنوا بحرب من الله و رسوله ] و هذا في نهاية الوعيد فيدل على نهاية الحرمة و الله سبحانه و تعالى أعلم .
و منها : الخلو عن احتمال الربا فلا تجوز المجازفة في أموال الربا بعضها ببعض لأن حقيقة الربا كما هي مفسدة للعقد فاحتمال الربا مفسد له أيضا لقول عبد الله بن مسعود Bه : [ ما اجتمع الحلال و الحرام في شيء إلا و قد غلب الحرام الحلال ] .
و الأصل فيه أن كلما جازت فيه المفاضلة جاز فيه المجازفة و ما لا فلا لأن التماثل و الخلو عن الربا فيما يجري فيه الربا لما كان شرط الصحة فلا يعلم تحقيق المماثلة بالمجازفة فيقع الشك في وجود شرط الصحة فلا تثبت الصحة على الأصل المعهود في الحكم المعلق على شرط إذا وقع الشك في وجود شرطه أنه لا يثبت لأن غير الثابت بيقين لا يثبت بالشك كما أن الثابت بيقين لا يزول بالشك و بيان هذا الأصل في مسائل : إذا تبايعا حنطة بحنطة مجازفة فإن لم يعلما كيليهما أو علم أحدهما دون الآخر أو علما كيل أحدهما دون الآخر لا يجوز لما قلنا و إن علم استواؤهما في الكيل فإن علم في المجلس جاز البيع لأن المجلس و إن طال فله حكم حالة العقد فكأنه عند العقد و إن علم بعد الافتراق لم يجز و قال زفر يجوز علم قبل الافتراق أو بعده .
وجه قوله : أن الحاجة إلى الكيل عند العقد لتحقق المساواة المشروطة و قد تبين أنها كانت ثابتة عنده .
و لنا : أن علم المتعاقدين بالمساواة عند العقد شرط الصحة و لم يوجد و الدليل على أن العلم عند العقد شرط الصحة أن الشرع ألزم رعاية المماثلة عند البيع بقوله عليه الصلاة و السلام [ الحنطة بالحنطة مثلا بمثل ] أي بيعوا الحنطة بالحنطة مثلا بمثل أمر المتبايعين بالبيع بصفة المماثلة فلا بد و أن تكون المماثلة معلومة لهما عند البيع لتمكنهما من رعاية هذا الشرط .
و كذا لو كان بين رجلين حنطة فاقتسماها مجازفة لا يجوز لأن القسمة فيها معنى المبادلة فيشبه البيع و لا يجوز البيع فيها مجازفة فكذا القسمة و لو تبايعا حنطة بحنطة وزنا بوزن متساويا في الوزن لم يجز لأن الحنطة مكيلة و التساوي في الكيل شرط جواز البيع في المكيلات و لا تعلم المساواة بينهما في الكيل فكان بيع الحنطة بالحنطة مجازفة .
و روي عن أبي يوسف C أنه إذا غلب استعمال الوزن فيها تصير وزنية و يعتبر التساوي فيها بالوزن و إن كانت في الأصل كيلية