بيع الثوب المصبوغ .
و كذا لو باع ثوبا على أنه مصبوغ بعصفر فإذا هو بزعفران لا ينعقد لأن العصفر مع الزعفران يختلفان في اللون اختلافا فاحشا و كذا لو يباع حنطة في جولق فإذا هو دقيق أو شرط الدقيق فإذا هو خبز لا ينعقد لأن الحنطة مع الدقيق جنسان مختلفان و كذا الدقيق مع الخبز .
ألا ترى إن من غصب من آخر حنطة و طحنها ينقطع حق الملك دل أنها تصير بالطحن شيئا آخر فكان بيع المعدوم فلا ينعقد و إن قال : بعتك هذه الشاة على أنها ميتة فإذا هي ذكية جاز بالإجماع لأن الميتة ليست بمحل للبيع فلغت التسمية و بقيت الإشارة إلى الذكية و لو قال بعتك هذا الثوب القز فإذا هو ملحم ينظر إن كان سداه من القفز و لحمته من غيره لا ينعقد و إن كانت لحمته من القز فالبيع جائز لأن الأصل في الثوب هو اللحمة لأنه إنما يصير ثوبا بها فإذا كانت لحمته من غير القز فقد اختلف الجنس فكانت العبرة للتسمية و المسمى معدوم فلم ينعقد البيع و إذا كانت من القز فالجنس لم يختلف فنعتبر الإشارة و المشار إليه موجود فكان محلا للبيع إلا أنه يثبت الخيار للمشتري لأن كون السدى منه أمر مرغوب فيه و قد فات فوجب الخيار .
و كذلك إذا قال بعتك هذا الثوب الخز بكذا فإذا هو ملحم فهو على التفصيل إلا أن لحمته إذا كانت خزا و سداه من غيره حتى جاز فقد قيل إنه ينبغي أن لا يثبت الخيار للمشتري ههنا لأن الخز هكذا ينسج بخلاف القز .
و لو باع جبة على أن بطاناتها و ظهارتها كذا و حشوها كذا فإن كانت الظهارة من غير ما شرط لا ينعقد البيع و إن كانت البطانة و الحشو مما شرط و إن كانت الظهارة مما شرط جاز البيع و إن كانت البطانة و الحشو من غير ما شرط لأن الأصل هو الظهارة .
ألا ترى أنه ينسب الثوب إليها و يختلف الاسم باختلافها و إنما البطانة تجري مجرى التابع لها و كذا الحشو فكان المعقود عليه هو الظهارة و ما سواها جاريا مجرى الوصف لها ففواته لا يمنع الجواز و لكنه يوجب الخيار لأنه فات شيء مرغوب فيه .
و لو قال : بعتك هذه الدار على أن فيها بناء فإذا لا بناء فيها فالبيع جائز و المشتري بالخيار إن شاء أخذ بجميع الثمن و إن شاء ترك فرق بين هذا و بين ما إذا قال بعتك هذه الدار على أن بناءها آجر فإذا هو لبن أنه لا ينعقد .
و وجه الفرق : أن الآجر مع اللبن يتفاوتان في المنفعة تفاوتا فاحشا فالتحقا بمختلفي الجنس على ما بيننا فيما تقدم .
و منها : أن يكون مالا لأن البيع مبادلة المال بالمال فلا ينعقد بيع الحر لأنه ليس بمال و كذا بيع أم الولد لأنها حرة من وجه لما [ روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : أعتقها ولدها ] .
و [ روي عنه عليه الصلاة و السلام أنه قال في أم الولد : لا تباع و لا توهب و هي حرة من الثلث ] نفى عليه الصلاة و السلام جواز بيعها مطلقا و سماها حرة فلا تكون مالا على الإطلاق خصوصا على أصل أبي حنيفة Bه لأن الاستيلاد يوجب سقوط المالية عنده حتى لا تضمن بالغصب و البيع الفاسد و الإعتاق و إنما تضمن بالقتل لا غير لأن ضمان القتل ضمان الدم لا ضمان المال و المسألة تأتي في موضعها إن شاء الله تعالى .
و لا بيع المدبر المطلق عندنا و قال الشافعي عليه الرحمة بيع المدبر جائز و احتج بما روي عن جابر بن عبد الله Bه أن النبي عليه الصلاة و السلام أجاز بيع المدبر .
و عن سيدتنا عائشة Bها أنها دبرت مملوكة لها فغضبت عليها فباعتها و لأن التدبير تعليق العتق بالموت و المعلق بالشرط عدم قبل وجود الشرط فلم يكن العتق ثابتا أصلا قبل الموت فيجوز بيعه كما إذا علق عتق عبده بدخول الدار و نحو ذلك ثم باعه قبل أن يدخل الدار و كما في المدبر المقيد .
و لنا : ما [ روى أبو سعيد الخدري و جابر بن عبد الله الأنصاري Bهما أن النبي عليه الصلاة و السلام نهى عن بيع المدبر ] و مطلق النهي محمول على التحريم .
و [ روي عن عبد الله بن سيدنا عمر Bهما أن النبي عليه الصلاة و السلام قال : المدبر لا يباع و لا يوهب و هو حر من الثلث ] و هذا نص في الباب و لأنه حر من وجه فلا يجوز بيعه كأم الولد .
و الدليل على أنه حر من وجه الاستدلال بضرورة الإجماع و هو أنه يعتق بعد الموت بالإجماع و الحرية لا بد لها من سبب و ليس ذلك إلا الكلام السابق و ليس هو بتحرير بعد الموت لأن التحرير فعل اختياري و أنه لا يتحقق من الميت فكان تحريرا من حين وجوده فكان ينبغي أن تثبت به الحرية من كل وجه للحال إلا أنها تأخرت من وجه إلى آخر جزء من أجزاء حياته بالإجماع و لا إجماع على التأخير من وجه فبقيت الحرية من وجه ثابتة للحال فلا يكون مالا مطلقا فلا يجوز بيعه .
و حديث جابر و سيدتنا عائشة Bهما حكاية فعل يحتمل أنه أجاز عليه الصلاة و السلام بيع مدبر مقيد أو باع مدبرا مقيدا و يحتمل أن يكون المراد منه الإجارة لأن الإجارة بلغة أهل المدينة تسمى بيعا و يحتمل أنه كان في ابتداء الإسلام حين كان بيع المدبر مشروعا ثم نسخ فلا يكون حجة مع الاحتمال .
و أما المدبر المقيد هناك لا يمكن أن يجعل الكلام السابق إيجابا من حين وجوده لأنه علق عتقه بموت موصوف بصفة و احتمل أن يموت من ذلك المرض و السفر أو لا فكان الحظر قائما فكان تعليقا فلم يكن إيجابا ما دام الحظر قائما و متى اتصل به الموت يظهر أنه كان تحريرا من وجه من حين وجوده لكن لا يتعلق به حكم و الله سبحانه و تعالى أعلم .
و لا بيع المكاتب لأنه حر يدا فلا تثبت يد تصرف الغير عليه و لا بيع معتق البعض موسرا كان المعتق أو معسرا عند أصحابنا الثلاثة Bهم لأنه بمنزلة المكاتب عند أبي حنيفة Bه و عندهما هو حر عليه دين .
و أما عند الشافعي Bه : فإن كان المعتق معسرا فلشريكه الساكت أن يبيع نصيبه بناء على أصله أن المعتق إن كان معسرا فالإعتاق منجز فبقى نصيب شريكه على ملكه فيجوز له بيعه و كل جواب عرفته في هؤلاء فهو الجواب في الأولاد من هؤلاء لأن الولد يحدث على وصف الأم و لهذا كان ولد الحرة حرا و ولد الأمة رقيقا و كما لا ينعقد بيع المكاتب و ولده المولود في الكتابة لا ينعقد بيع ولده المشتري في الكتابة و والدته لأنهم تكاتبوا بالشراء .
و أما من سواهم من ذوي الأرحام إذا اشتراهم يجوز بيعهم عن أبي حنيفة Bه لأنهم لم يتكاتبوا بالشراء و عن أبي يوسف و محمد لا يجوز لأنهم تكاتبوا و هي مسألة كتاب المكاتب ولا ينعقد بيع الميتة و الدم لأنه ليس بمال و كذلك ذبيحة المجوسي و المرتد و المشرك لأنها ميتة و كذا متروك التسمية عمدا عندنا خلافا للشافعي و هي مسألة كتاب الذبائح .
و كذا ذبيحة المجنون و الصبي الذي لا يعقل لأنها في معنى الميتة و كذا ما ذبح من صيد الحرم محرما كان الذابح أو حلالا و ما ذبحه المحرم من الصيد سواء كان صيد الحرم أو الحل لأن ذلك ميتة .
و لا ينعقد بيع صيد الحرم محرما كان البائع أو حلالا لأنه حرام الانتفاع به شرعا فلم يكن مالا و لا بيع صيد المحرم سواء كان صيد الحرم أو الحل لأنه حرام الانتفاع به في حقه فلا يكون مالا في حقه و لو وكل محرم حلالا ببيع صيد فباعه فالبيع جائز عند أبي حنيفة و عند أبي يوسف و محمد باطل و هو على اختلافهم في مسلم و كل ذميا ببيع خمر فباعها .
وجه قولهما : أن البائع هو الموكل معنى لأن حكم البيع يقع له و المحرم ممنوع عن تمليك الصيد و تملكه .
وجه قول أبي حنيفة Bه : أن البائع في الحقيقة هو الوكيل لأنه بيعه كلامه القائم به حقيقة و لهذا ترجع حقوق العقد إليه إلا أن الموكل يقوم مقامه شرعا في نفس الحكم مع اقتصار نفس التصرف على مباشرته حقيقة و المحرم من أهل ثبوت الملك له في الصيد حكما لا يمتلكه حقيقة ألا يرى أنه يرثه و هذا لأن المنع إنما يكون عما للعبد فيه صنع و لا صنع له فيما يثبت حكما فلا يحتمل المنع .
و لو باع حلال حلالا صيدا ثم أحرم أحدهما قبل القبض يفسخ البيع لأن الإحرام كما يمنع البيع و الشراء يمنع التسليم و القبض لأنه عقد من وجه على ما عرف فيلحق به في حق الحرمة احتياطا .
و لو وكل حلال حلالا ببيع صيد فباعه ثم أحرم الموكل قبل قبض المشتري فعلى قياس قول أبي حنيفة C جاز البيع .
و على قياس قولهما يبطل لأن الإحرام القائم لا يمنع من جواز التوكيل عنده فالطاريء لا يبطله و عندهما القائم يمنع فالطاريء يبطله : حلالان تبايعا صيدا في الحل و هما في الحرم جاز عند أبي حنيفة و عند محمد لا يجوز .
وجه قول محمد : أن كون الحرم مأمنا يمنع من التعرض للصيد سواء كان المتعرض في الحرم أو الحل بعد أن كان المتعرض في الحرم ألا ترى أنه لا يحل للحلال الذي في الحرم أن يرمي إلى الصيد الذي في الحل كما لا يحل له أن يرمي إليه إذا كان في الحرم .
وجه قول أبي حنيفة Bه : أن كونه في الحرم يمنع من التعرض لصيد الحل لكن حسا لا شرعا بدليل أن الحلال في الحرم إذا أمر حلالا آخر بذبح صيد في الحل جاز و لو ذبح حل أكله و معلوم أن الأمر بالذبح في معنى التعرض للصيد فوق البيع و الشراء فلما لم يمنع من ذلك فلأن لا يمنع من هذا أولى و هذا لأن المنع من التعرض إنما كان احتراما للحرم فكل ما فيه ترك احترامه يجب صيانة الحرم عنه و ذلك بمباشرة سبب الإيذاء في الحرم و لم يوجد في البيع و الله سبحانه و تعالى أعلم .
و لا بيع لحم السبع لأنه لا يباح الانتفاع به شرعا فلم يكن مالا و روي عن أبي حنيفة Bه أنه يجوز بيعه إذا ذبح لأنه صار طاهرا بالذبح .
و أما جلد السبع و الحمار و البغل فإن كان مدبوغا أو مذبوحا يجوز بيعه لأنه مباح الانتفاع به شرعا فكان مالا و إن لم يكن مدبوغا و لا مذبوحا لا ينعقد بيعه لأنه إذا لم يدبغ و لم يذبح بقيت رطوبات الميتة فيه فكان حكمه حكم الميتة و لا ينعقد بيع جلد الخنزير كيف ما كان لأنه نجس العين بجميع أجزائه و قيل إن جلده لا يحتمل الدباغ .
و أما عظم الميتة و عصبها و شعرها و صوفها و وبرها و ريشها و خفها و ظلفها و حافرها فيجوز بيعها و الانتفاع بها عندنا و عند الشافعي C لا يجوز بناء على أن هذه الأشياء طاهرة عندنا و عنده نجسة .
و احتج بقوله سبحانه و تعالى : { حرمت عليكم الميتة } و هذه من أجزاء الميتة فتكون حراما فلا يجوز بيعها و قال عليه الصلاة و السلام : [ لا تنتفعوا من الميتة بإهاب و لا عصب ] .
و لنا : قوله سبحانه و تعالى : { والله جعل لكم من بيوتكم سكنا } إلى قوله عز و جل : { ومن أصوافها وأوبارها } الآية أخبر سبحانه و تعالى أنه جعل هذه الأشياء لنا و من علينا بذلك من غير فصل بين الذكية و الميتة فيدل على تأكد الإباحة و لأن حرمة الميتة ليست لموتها فإن الموت موجود في السمك و الجراد و هما حلالان قال عليه الصلاة و السلام : [ أحل لنا ميتتان و دمان ] بل لما فيها من الرطوبات السيالة و الدماء النجسة لانجمادها بالموت و لهذا يطهر الجلد بالدباغ حتى يجوز بيعه لزوال الرطوبة عنه و لا رطوبة في هذه الأشياء فلا تكون حراما .
و لا حجة له في هذا الحديث لأن الإهاب اسم لغير المدبوغ لغة و المراد من العصب حال الرطوبة يحمل عليه توفيقا بين الدلائل