كيفية تعليم الكلب .
أما تعليم الكلب فهو أنه إذا أرسل اتبع الصيد و إذا أخذه أمسكه على صاحبه و لا يأكل منه شيئا و هذا قول عامة العلماء و قال مالك C : تعليمه أن يتبع الصيد إذا أرسل و يجيب إذا دعي و هو أحد قولي الشافعي C حتى لو أخذ صيدا فأكل منه لا يؤكل عندنا و عنده يؤكل .
وجه قوله : أن كونه معلما إنما شرط للاصطياد فيعتبر حالة الاصطياد و هي حالة الاتباع فأما الإمساك على صاحبه و ترك الأكل يكون بعد الفراغ عن الاصطياد فلا يعتبر في الحد .
و لنا : الكتاب و السنة و المعقول أما الكتاب فقوله عز و جل : { تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم } في الآية الكريمة إشارة إلى أن حد تعليم الكلب و ما هو في معناه ما قلنا و هو الإمساك على صاحبه و ترك الأكل منه لأنه شرط التعلم ثم أباح أكل ما أمسك علينا فكان هذا إشارة إلى أن التعليم هو أن يمسك علينا الصيد و لا يأكل منه .
يقرره أن الله تعالى إنما أباح أكل صيد المعلم من الجوارح الممسك على صاحبه و لو لم يكن ترك الأكل من حد التعلم و كان ما أكل منه حلالا لاستوى فيه المعلم و غير المعلم و الممسك على صاحبه و على نفسه لأن كل كلب يطلب الصيد و يمسكه لنفسه حتى يموت إن أرسلت عليه و أغريته إلا المعلم .
و أما السنة : فما روي [ عن عدي بن حاتم الطائي أنه قال : قلت : يا رسول الله إنا قوم نتصيد بهذه الكلاب و البزاة فما يحل لنا منها ؟ فقال عليه الصلاة و السلام : يحل لكم ما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن ما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم مما علمتموهن من كلب أو باز و ذكرتم اسم الله عليه قلت : فإن قتل : قال عليه الصلاة و السلام : إذا قتله و لم يأكل منه فكل فإنما أمسك عليك و إن أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه فقلت : يا رسول الله : أرأيت إن خالط كلابنا كلاب أخرى قال عليه الصلاة و السلام : إن خالطت كلابك كلاب أخرى فلا تأكل فإنك إنما ذكرت اسم الله تعالى على كلبك و لم تذكره على كلب غيرك ] .
و عن ابن عباس Bهما أنه قال : إذا أكل الكلب من الصيد فليس بمعلم و عنه أيضا أنه قال : إذا أكل الكلب فلا تأكل و إذا أكل الصقر فكل لأن الكلب يستطيع أن تضربه و الصقر لا و عن ابن سيدنا عمر Bهما أنه قال : إذا أكل الكلب من الصيد فلا تأكل و اضربه .
و أما المعقول فمن وجهين : أحدهما أن أخذ الصيد و قتله مضاف إلى المرسل و إنما الكلب آلة الأخذ و القتل و إنما يكون مضافا إليه إذا أمسك لصاحبه لا لنفسه لأن العامل لنفسه يكون عمله مضافا إليه لا إلى غيره و الإمساك على صاحبه أن يترك الأكل منه و هو حد التعليم .
و الثاني : أن تعليم الكلب و نحوه هو تبديل طبعه و فطامه عن العادة المألوفة و لا يتحقق ذلك إلا بإمساك الصيد لصاحبه و ترك الأكل منه لأن الكلب و نحوه من السباع من طباعهم أنهم إذا أخذوا الصيد فإنما يأخذونه لأنفسهم و لا يصبرون على أن يتناولوا منه فإذا أخذ واحد منهم الصيد و لم يتناول منه دل أنه ترك عادته حيث أمسك لصاحبه و لم يأكل منه فإذا أكل منه دل أنه على عادته سواء اتبع الصيد إذا أغري و استجاب إذا دعي أو لا لأنه ألوف في الأصل يجيب إذا دعي و يتبع إذا أغري فلا يصلح ذلك دليلا على تعلمه فثبت أن معنى التعلم لا يتحقق إلا بما قلنا و هو أن يمسك الصيد على صاحبه و لا يأكل منه ثم في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة Bه لا توقيت في تعلمه أنه إذا أخذ صيدا و لم يأكل منه هل يصير معلما أم يحتاج فيه إلى التكرار و كان يقول إذا كان معلما فكل كذا ذكر في الأصل و هكذا روى بشر بن الوليد C عن أبي يوسف قال : سألت أبا حنيفة C ما حد تعليم الكلب قال : أن يقول أهل العلم بذلك إنه معلم .
و ذكر الحسن بن زياد في المجرد عن أبي حنيفة C أنه قال : لا يأكل ما يصيد أولا و لا الثاني و لو أكل الثالث و ما بعده و أبو يوسف و محمد رحمهما الله قدراه بالثلاث فقالا : إذا أخذ صيدا فلم يأكل ثم صاد ثانيا فلم يأكل ثم صاد ثالثا فلم يأكل فهذا معلم فأبو حنيفة Bه على الرواية المشهورة عنه إنما يمسك للتعليم و قد يمسك للشبع ففوض ذلك إلى أهل العلم بذلك .
و على الرواية الأخرى جعل أصل التكرار دلالة التعلم لأن الشبع لا يتفق في كل مرة فدل تكرار الترك على التعليم و أبو يوسف و محمد رحمهما الله قدرا التكرار بثلاث مرات لما أن الثلاث موضوعة لإبداء الأعذار أصله قضية سيدنا موسى عليه و على نبينا افضل الصلاة و السلام مع العبد الصالح حيث قال له : في المرة الثالثة { إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا } .
و روي عن سيدنا عمر Bه أنه قال : من اتجر في شيء ثلاث مرات فلم يربح فلينتقل إلى غيره ثم إذا صار معلما في الظاهر على اختلاف الأقاويل و صاد به ثم أكل بعد ذلك فما صاد قبل ذلك لا يؤكل شيء منه إن كان باقيا في قول أبي حنيفة C و عن أبي يوسف و محمد رحمهما الله يؤكل كله .
وجه قولهما : أن أكل الكلب يحتمل أن يكون لعدم التعلم و يحتمل أن يكون مع التعلم لفرط الجوع و يحتمل أن يكون للنسيان لأن المعلم قد ينسى فلا يحرم ما تقدم من الصيود بالشك و الاحتمال .
و لأبي حنيفة C : أن علامة التعلم لما كانت ترك الأكل فإذا أكل بعد ذلك علم أنه لم يكن معلما و إن إمساكه لم يكن لصيرورته معلما بل لشبعه في الحال إذ غير المعلم قد يمسكه بشبعه للحال إلى وقت الحاجة فاستدللنا بأكله بعد ذلك على أن إمساكه في الوقت الذي قبله كان على غير حقيقة التعليم أو يحتمل ذلك فلا تحل مع الاحتمال احتياطا .
و من المشايخ من حمل جواب أبي حنيفة C على ما إذا كان زمان الأكل قريبا من زمان التعليم لأنه إذا كان كذلك فالأكل يدل على عدم التعلم و أنه إنما ترك الأكل فيما تقدم للشبع لا للتعلم لأن المدة القصيرة لا تتحمل النسيان في مثلها فإذا طالت المدة فيجوز أن يقال إنه يؤكل ما بقي من الصيود المتقدمة لأنه يحتمل أن يكون الأكل للنسيان لا لعدم التعلم لوجود مدة لا يندر النسيان في مثلها إلا أن ظاهر الرواية عنه مطلق عن هذا التفصيل و إطلاق الرواية يقتضي أن لا يؤكل على كل حال و الوجه ما ذكرنا .
و أما قولهم : إن النسيان لا يندر عند طول المدة فنقول من تعلم حرفة يتمامها و كمالها فالظاهر أنه لا ينساها بالكلية و إن طالت مدة عدم الاستعمال لكن ربما يدخلها خلل كصنعة الكتابة و الخياطة و الرمي إذا تركها صاحبها مدة طويلة فلما أكل و حرفته ترك الأكل دل أنه لم يكن تعلم الحرفة من الأصل و أنه إنما لم يأكل قبل ذلك لا للتعلم بل لشبعه في الحال فلا تحل صيوده المتقدمة .
و أما في المستقبل فلا يحل صيده إلا بتعلم مستأنف بلا خلاف فأما على قول أبي حنيفة Bه فلأنه تبين بالأكل أنه لم يكن معلما و أن ترك الأكل لم يكن للتعلم بل لشبعه للحال .
و أما على قولهما : فلأنه يحتمل أن يكون لم يتعلم كما قال أبو حنيفة C يحتمل أنه نسى و كيف ما كان لا يحل صيده في المستقبل إلا بتعليم مبتدأ و تعليمه في الثاني بما به تعليمه في الأول و قد ذكرنا الاختلاف فيه .
و لو جرح الكلب الصيد و ولغ في دمه يؤكل لأنه قد أمسك الصيد على صاحبه و إنما لو ولغ فيما أمسك على صاحبه لكان لا يأكله صاحبه و ذلك من غاية تعلمه حيث تناول الخبيث و أمسك الطيب على صاحبه .
و ذكر في الأصل في رجل أرسل كلبه على صيد و هو معلم فأخذ صيدا فقتله و أكل منه ثم تبع آخر فقتله و لم يأكل منه قال لا يؤكل واحد منهما لأنه لما أكل دل على عدم التعلم أو على النسيان فلا يحل صيده بعد ذلك فإن أخذ الكلب المعلم صيدا فأخذ منه صاحبه و أخذ صاحب الكلب من الصيد قطعة فألقاها إلى الكلب فأكلها الكلب فهو على تعلمه لأن ترك الأكل إنما يعتبر حال أخذه الصيد فأكله بإطعام صاحبه بعد الأخذ لا يقدح في التعلم مع ما أن من عادة الصائد بالكلب أنه إذا أخذ الكلب الصيد أن يطعمه من لحمه ترغيبا له على الصيد فلا يكون أكله بإطعامه دليلا على عدم التعلم .
و كذلك لو كان صاحب الكلب أخذ الصيد من الكلب ثم وثب الكلب على الصيد فأخذ منه قطعة فأكلها و هو في يد صاحبه فإنه على تعلمه لأن الكل بعد ثبوت يد الآدمي عليه بمنزلة الأكل من غيره فلا يقدح في التعلم .
و كذلك قالوا : لو سرق الكلب من الصيد بعد دفعه إلى صاحبه لأنه إنما يفعل ذلك للجوع لأن هذا الأكل لم يدخل في التعليم و إن أرسل الكلب المعلم على صيد فتبعه فنهشه فقطع منه قطعة فأكلها ثم أخذ الصيد بعد ذلك فقتله و لم يأكل منه شيئا لا يؤكل لأن الأكل منه في حال الاصطياد دليل على عدم التعلم فإن نهشه فألقى منه بضعة و الصيد حي ثم اتبع الصيد بعد ذلك فأخذه فقتله و لم يأكل منه شيئا يؤكل لأنه لم يوجد منه ما يدل على عدم التعلم لأنه إنما قطع منه قطعة ليثخنه فيتوصل به إلى أخذه فكان بمنزلة الجرح و إن أخذ صاحب الكلب الصيد من الكلب بعدما قطعه ثم رجع الكلب بعد ذلك فمر بتلك القطعة فأكلها يؤكل صيده لأنه لو أكل من نفس الصيد في هذه الحالة لا يضر فإذا أكل مما بان منه أولى و إن اتبع الصيد فنهشه فأخذ منه بضعة فأكلها و هو حي فانفلت الصيد منه ثم أخذ الكلب صيدا آخر في فوره فقتله و لم يؤكل منه ذكر في الأصل و قال أكره أكله لأن الأكل في حالة الاصطياد يدل على عدم التعلم فلا يؤكل ما اصطاده بعده و الله تعالى عز شأنه أعلم .
و أما تعليم ذي المخلب كالبازي أو نحوه فهو أن يجيب صاحبه إذا دعاه و لا يشترط فيه الإمساك على صاحبه حتى لو أخذ الصيد فأكل منه فلا بأس بأكل صيده بخلاف الكلب و نحوه .
و الفرق من وجوه : .
أحدهما : أن التعلم بترك العادة و الطبع و البازي من عادته التوحش من الناس و التنفر منهم بطبعه يألف بالناس و إجابة صاحبه إذا دعاه يكفي دليلا على تعلمه بخلاف الكلب فإنه ألوف بطبعه يألف بالناس و لا يتوحش منهم فلا يكفي هذا القدر دليل التعلم في حقه فلا بد من زيادة أمر و هو ترك الأكل .
و الثاني : أن البازي إنما يعلم بالكل فلا يحتمل أن يخرج بالأكل عن حد التعلم بخلاف الكلب .
و الثالث : أن الكلب يمكن تعليمه بترك الأكل بالضرب لأن جثته تتحمل الضرب والبازي لا لأن جثته لا تتحمل .
و قد روي عن سيدنا علي و ابن عباس و سلمان الفارسي Bهم أنهم قالوا إذا أكل الصقر فكل و إن أكل الكلب فلا تأكل و منها الإرسال أو الزجر عند عدمه على وجه ينزجر بالزجر فيما يحتمل ذلك و هو الكلب و ما في مهناه حتى لو ترسل بنفسه و لم يزجره صاحبه فيما يزجر بالزجر لا يحل صيده الذي قتله لأن الإرسال في صيد الجوارح أصل ليكون القتل و الجرح مضافا إلى المرسل إلا أن عند عدمه يقام الزجر مقام الانزجار فيما يحتمل قيام ذلك مقامه فإذا لم يوجد فلا تثبت الإضافة فلا يحل .
و لو أرسل مسلم كلبه و سمى فزجره مجوسي فانزجر يؤكل صيده و لو أرسل مجوسي كلبه فزجره مسلم فانزجر لا يؤكل صيده و كذلك لو أرسل مسلم كلبه و ترك التسمية عمدا فاتبع الصيد ثم زجره فانزجر لا يؤكل صيده و لو لم يرسله أحد و انبعث بنفسه فاتبع الصيد فزجره مسلم و سمى يؤكل صيده و إن لم ينزجر لا يؤكل و إنما كان كذلك لأن الإرسال هو الأصل و الزجر كالخلف عنه و الخلف يعتبر حال عدم الأصل لا حال وجوده ففي المسائل الثلاث وجد الأصل فلا يعتبر الخلف إلا أن في المسألة الأولى المرسل من أهل الإرسال فيؤكل صيده و في المسألة الثانية لا فلا يؤكل و في المسألة الرابعة لم يوجد الأصل فيعتبر الخلف فيؤكل صيده إن انزجر و إن لم ينزجر لا يؤكل لأن الزجر بدون الانزجار لا يصلح خلفا عن الإرسال فكان ملحقا بالعدم فيصير كأنه يرسل بنفسه من غير إرسال و لا زجر .
و لو أرسله مسلم و سمى و زجره رجل و لم يسم على زجره فأخذ الصيد و قتله يؤكل لما ذكرنا أن العبرة للإرسال فيعتبر وجود التسمية عنده و أصل آخر لتخريج هذه المسائل ما ذكره بعض مشايخنا أن الدلالة لا تعتبر إذا وجد الصريح و إذا لم يوجد تعتبر ففي المسائل الثلاث وجد من الكلب صريح الطاعة بالإرسال حيث عدا بإرساله و انزجاره طاعة للزاجر بطريق الدلالة فلا يعتبر في مقابلة الصريح و في المسألة الرابعة لم يوجد الصريح فاعتبرت الدلالة