حكم الإجارة .
و أما حكم الإجارة فالإجارة لا تخلو إما إن كانت صحيحة و أما إن كانت فاسدة و أما إن كانت باطلة أما الصحيحة فلها أحكام بعضها أصلي و بعضها من التوابع أما الحكم الأصلي فالكلام فيه في ثلاث مواضع في بيان أصل الحكم و في بيان وقت ثبوته و في بيان كيفية ثبوته .
أما الأول : فهو ثبوت الملك في المنفعة للمستأجر و ثبوت الملك في الأجرة المسماة للآجر لأنها عقد معاوضة إذ هي بيع المنفعة و البيع عقد معاوضة فيقتضي ثبوت الملك في العوضين .
و أما وقت ثبوته : فالعقد لا يخلو : إما إن كان عقه مطلقا عن شرط تعجيل الأجرة و إما إن شرط فيه تعجيل الأجرة أو تأجيلها فإن عقد مطلقا فالحكم يثبت في العوضين في وقت واحد فيثبت الملك للمؤاجر في الأجرة وقت ثبوت الملك للمستأجر في المنفعة و هذا قول أصحابنا .
و قال الشافعي : حكم الإجارة المطلقة هو ثبوت الملك في العوضين عقيب العقد بلا فصل و أما كيفية ثبوت حكم العقد فعندنا يثبت شيئا فشيئا على حسب حدوث محله و هو المنفعة لأنها تحدث شيئا فشيئا و عنده تجعل المدة موجودة تقديرا كأنها أعيان قائمة و يثبت الحكم فيها في الحال و على هذا يبنى أن الأجرة لا تملك بنفس العقد المطلق عندنا و عنده تملك .
وجه قوله : أن الإجارة عقد معاوضة و قد وجدت مطلقة و المعاوضة المطلقة تقتضي ثبوت الملك في العوضين عقيب العقد كالبيع إلا أن الملك لابد له من محل يثبت فيه منافع المدة معلومة في الحال حقيقة فتجعل موجودة حكما تصحيحا للعقد و قد يجعل المعدوم حقيقة موجودا تقديرا عند تحقق الحاجة و الضرورة .
و لنا : أن المعاوضة المطلقة إذا لم يثبت الملك فيها في أحد العوضين لا يثبت في العوض الآخر إذ لو ثبت لا يكون معاوضة حقيقة لأنه لا يقابله عوض و لأن المساواة في العقود المطلقة مطلوب العاقدين و لا مساواة إذا لم يثبت الملك في العوضين و الملك لم يثبت في أحد العوضين و هو منافع المدة لأنها معدومة حقيقة فلا تثبت في الأجرة في الحال تحقيقا للمعاوضة المطلقة في أي وقت تثبت فقد كان أبو حنيفة أولا يقول إن الأجرة لا تجب إلا بعد مضي المدة مثل استئجار الأرض سنة أو عشر سنين و هو قول زفر ثم رجع هنا فقال تجب يوما فيوما و في الإجارة على المسافة مثل أن استأجر بعيرا إلى مكة ذاهبا و جائيا كان قوله الأول إنه لا يلزمه تسليم الأجر حتى يعود و هو قول زفر ثم رجع و قال يسلم حالا فحالا .
و ذكر الكرخي : أنه يسلم أجرة كل مرحلة إذا انتهى إليها و هو قول أبي يوسف و محمد وجه قول أبي حنيفة الأول أن منافع المدة أو المسافة من حيث إنها معقود عليها شيء واحد فما لم يستوفها كلها لا يجب شيء من بدلها كمن استأجر خياطا يخيط ثوبا فخاط بعضه أنه لا يستحق الأجرة حتى يفرغ منه و كذا القصار و الصباغ .
وجه قوله الثاني و هو المشهور أنه ملك البدل و هو المنفعة و إنها تحدث شيئا فشيئا على حسب حدوث الزمان فيملكها شيئا فشيئا على حسب حدوثها فكذا ما يقابلها فكان ينبغي أن يجب عليه تسليم الأجرة ساعة فساعة إلا أن ذلك معتذر فاستحسن فقال يوما فيوما و مرحلة فمرحلة لأنه لا يعذر فيه و روي عن أبي يوسف فيمن استأجر بعيرا إلى مكة أنه إذا بلغ ثلث الطريق أو نصفه أعطي من الأجر بحسابه استحسانا و ذكر الكرخي أن هذا قول أبي يوسف الأخير و وجهه أن السير إلى ثلث الطريق أو نصفه منفعة مقصودة في الجملة فإذا وجد ذلك القدر يلزمه تسليم بدله .
و على هذا يخرج ما إذا أبرأ المؤاجر المستأجر من الأجر أو وهبه له أو تصدق به عليه إن ذلك لا يجوز في قول أبي يوسف الأخير عينا كان الأجر أو دينا و قال محمد : إن كان دينا جاز .
وجه قول أبي يوسف ظاهر خارج على الأصل و هو أن الأجرة لم يملكها المؤاجر في العقد المطلق عن شرط التعجيل و الإبراء عما ليس بمملوك المبرئ لا يصح بخلاف الدين المؤجل لأنه مملوك و إنما التأجيل لتأخير المطالبة فيصح الإبراء عنه وهبة غير المملوك لا تصح .
وجه قول محمد : أن الإبراء لا يصح إلا بالقبول فإذا قبل المستأجر فقد قصدا صحة تصرفهما و لا صحة إلا بالملك فيثبت الملك مقتضى التصرف تصحيحا له كما في قول الرجل لغيره أعتق عبدك عني على ألف درهم فقال : أعتقت و الإبراء إسقاط و إسقاط الحق بعد وجود سبب الوجوب جائز كالعفو عن القصاص بعد الجرح قبل الموت و سبب الوجوب ههنا موجود و هو العقد المنعقد و الجواب أنه إن كان يعني بالانعقاد في حق الحكم فهو غير منعقد في حق الحكم بلا خلاف بين أصحابنا و إن كان يعني شيئا آخر فهو غير معقول و لو أبرأه عن بعض الأجرة أو وهب منه جاز في قولهم جميعا .
أما على أصل محمد فظاهر لأنه يجوز ذلك عنده في الكل فكذا في البعض و أما على أصل أبي يوسف فلأن ذلك حط بعض الأجرة فيلحق الحط بأصل العقد فيصير كما لو وجد في الحال العقد بمنزلة هبة بعض الثمن في البيع و حط الكل لا يمكن إلحاقه بأصل العقد و لا سبيل إلى تصحيحه للحال لعدم الملك و أما إذا كانت الأجرة عينا من الأعيان فوهبها المؤاجر للمستأجر قبل استيفاء المنافع فقد قال أبو يوسف إن كان ذلك لا يكون نقضا للإجارة .
و قال محمد : إن قبل المستأجر الهبة بطلت الإجارة و إن ردها لم تبطل أما أبو يوسف فقد مر على الأصل أن الهبة لم تصح لعدم الملك فالتحقت بالعدم كأنها لم توجد رأسا بخلاف المشتري إذا وهب المبيع من بائعه قبل القبض و قبله البائع إن ذلك يكون نقضا للبيع لأن الهبة هناك قد صحت لصدورها من المالك فثبت الملك للبائع فانفسخ البيع .
و أما محمد فإنه يقول : الأجرة إذا كانت عينا كانت في حكم المبيع لأن ما يقابلها هو في حكم الأعيان و المشتري إذا وهب المبيع قبل القبض من البائع فقبله البائع يبطل البيع كذا هذا و إذا رد المستأجر الهبة لا تبطل الإجارة لأن الهبة لا تتم إلا بالقبول فإذا رد بطلت و التحقت بالعدم .
و على هذا إذا صارف المؤاجر المستأجر بالأجرة فأخذ بها دينارا إن كانت الأجرة دراهم إن العقد باطل عند أبي يوسف في قوله الأخير و كان قوله الأول إنه جائز و هو قول محمد .
فأبو يوسف مر على الأصل فقال : الأجرة لم تجب بعقد الإجارة و ما وجب بعقد الصرف لم يوجد فيه التقابض في المجلس فيبطل العقد فيه كمن باع دينارا بعشرة فلم يتقابضا و لأنه يشتري الدينار بدراهم في ذمته ثم يجعلها قصاصا بالأجرة و لا أجرة له فيبقى ثمن الصرف في ذمته فإذا افترقا قبل القبض بطل الصرف و محمد يقول : إذا لم يجز الصرف إلا ببدل واجب و لا وجوب إلا بشرط التعجيل ثبت الشرط مقتضى إقدامهما على الصرف .
و لو شرطا تعجيل الأجرة ثم تصارفا جاز كذا هذا و لو اشترى المؤاجر من المستأجر عينا من الأعيان بالأجرة جاز في قولهم لأن العقد على الأعيان و الهبة جائزان فالرهن و الكفالة أولى .
و أما على أصل أبي يوسف فأما الكفالة فلأن جوازها لا يستدعي قيام الدين للحال بدليل أنه لو كفل بما يذوب له على فلان جازت و كذلك الكفالة بالدرك جائزة و كذلك الرهن بدين لم يجب جائز كالرهن بالثمن في البيع المشروط فيه الخيار و لأن الكفالة و الرهن شرعا للتوثق ملائم للأجر هذا إذا وقع العقد مطلقا عن شرط تعجيل الأجرة فأما إذا شرط تعجيل الأجرة فأما إذا شرط في تعجيلها ملكت بالشرط و وجب تعجيلها .
فالحاصل : أن الأجرة لا تملك عندنا إلا بأحد معان ثلاثة : .
أحدهما : شرط التعجيل في نفس العقد .
و الثاني : التعجيل من غير شرط .
و الثالث : استيفاء المعقود عليه .
أما ملكها بشرط التعجيل فلأن ثبوت الملك في العوضين في زمان واحد لتحقيق معنى المعاوضة المطلقة و تحقيق المساواة التي هي مطلوب العاقدين و معنى المعاوضة و المساواة لا يتحقق إلا في ثبوت الملك فيهما في زمان واحد فإذا شرط التعجيل فلم توجد المعاوضة المطلقة بل المقيدة بشرط التعجيل فيجب اعتبار شرطهما لقوله صلى الله عليه و سلم : [ المسلمون عند شروطهم ] فيثبت الملك في العوض قبل ثبوته في المعوض و لهذا صح التعجيل في ثمن المبيع و عن كان إطلاق العقد يقتضي الحلول كذا هذا و للمؤاجر حبس ما وقع عليه العقد حتى يستوفي الأجرة كذا ذكر الكرخي في جامعه لأن المنافع في باب الإجارة كالمبيع في باب البيع و الأجرة في الإجارات كالثمن في البياعات و للبائع حبس المبيع إلى أن يستوفي الثمن فكذا للمؤاجر حبس المنافع إلى أن يستوفي الأجرة المعجلة .
فإن قيل : لا فائدة في هذا الحبس لأن الإجارة إذا وقعت على مدة فإذا حبس المستأجر مدة بطلت الإجارة في تلك المدة و لا شيء فيها من الأجرة فلم يكن الحبس مفيدا .
فالجواب : إن الحبس مفيد لأنه يحبس و يطالب بالأجرة فإن عجل و إلا فسخ العقد فكان في الحبس فائدة على أن هذا لا يلزم في الإجارة على المسافة بأن أجر دابة مسافة معلومة لأن العقد ههنا لا يبطل بالحبس و كذا هذا و يبطل ببيع ما يتسارع إليه الفساد كالسمك الطري و نحوه إذ للبائع حبسه حتى يستوفى الثمن و إن كان يؤدي إلى إبطال البيع بهلاك المبيع قبل القبض و إن وقع الشرط في عقد الإجارة على أن لا يسلم المستأجر الأجر إلا بعد انقضاء مدة الإجارة فهو جائز .
و أما على قول أبي حنيفة الأول فظاهر لأن الأجرة لا تجب إلا في آخر المدة فإذا شرط كان هذا شرطا مقررا مقتضى العقد فكان جائزا و أما على قوله الآخر فالأجرة و إن كانت تجب شيئا فشيئا فقد شرط تأجيل الأجرة كالثمن فتتحمل التأجيل كالثمن .
و أما إذا عجل الأجرة من غير شرط فلأنه لما عجل الأجرة فقد غير مقتضى مطلق العقد و له هذه الولاية لأن التأخير ثبت حقا له فيملك إبطاله بالتعجيل كما لو كان عليه دين مؤجل فعجله و لأن العقد سبب استحقاق الأجرة فالاستحقاق و إن لم يثبت فقد انعقد سببه و تعجيل الحكم قبل الوجوب بعد وجود سبب الوجوب جائز كتعجيل الكفارة بعد الجرح قبل الموت .
و أما إذا استوفى المعقود عليه فلأنه يملك المعوض فيملك المؤاجر العوض في مقابلته تحقيقا للمعاوضة المطلقة و تسوية بين العاقدين في حكم العقد المطلق و على هذا الأصل تبنى الإجارة المضافة إلى زمان في المستقبل بأن قال أجرتك هذه الدار غدا أو رأس شهر كذا أو قال أجرتك هذه الدار سنة اولها غرة شهر رمضان أنها جائزة في قول أصحابنا و عند الشافعي : لا تجوز .
وجه البناء : أن الإجارة بيع المنفعة و طريق جوازها عنده أن يعجل منافع المدة موجودة تقديرا عقيب العقد تصحيحا له إذ لا بد و أن يكون محل حكم العقد موجودا ليمكن إثبات حكمه فيه فجعلت المنافع موجودة حكما كأنها أعيان قائمة بنفسها و إضافة البيع إلى عين ستوجد لا تصح كما في بيع الأعيان حقيقة و أما عندنا فالعقد ينعقد شيئا فشيئا على حسب حدوث المعقود عليه شيئا فشيئا و هو المنفعة فكان العقد مضافا إلى حين وجود المنفعة من طريق الدلالة فالتنصيص على الإضافة يكون مقررا مقتضى العقد إلا أنا جوزنا الإضافة في الإجارة دون البيع للضرورة لأن المنفعة حال وجودها لا يمكن إنشاء العقد عليها فدعت الضرورة إلى الإضافة و لا ضرورة في بيع العين لإمكان إبقاء العقد عليها بعد وجودها لكونها محتملة للبقاء فلا ضرورة إلى الإضافة و طريقنا أولى فجعل المعدوم موجودا تقدير للمحال و تقدير المحال محال و لا إحالة في الإضافة إلى زمان في المستقبل فإن كثيرا من التصرفات تصح مضافة إلى المستقبل كالطلاق و العتاق و نحوهما فكان الصحيح ما قلنا .
و أما الأحكام التي هي من التوابع فكثيرة بعضها يرجع إلى الآجر و المستأجر مما عليهما و لهما و بعضها يرجع إلى صفة المستأجر و المستأجر فيه .
أما الأول : فجملة الكلام فيه أن عقد الإجارة لا يخلو إما إن شرط فيه تعجيل البدل أو تأجيله و إما إن كان مطلقا عن شرط التعجيل و التأجيل فإن شرط فيه تعجيل البدل فعلى المستأجر تعجيلها و الابتداء بتسليمها سواء كان ما وقع عليه الإجارة شيئا ينتفع بعينه كالدار و الدابة و عبد الخدمة أو كان صانعا أو عاملا ينتفع بصنعته أو عمله كالخياط و القصار و الصياغ و الإسكاف لأنهما لما شرطا تعجيل البدل لزم اعتبار شرطهما لقوله صلى الله عليه و سلم : [ المسلمون عند شروطهم ] و ملك الآجر البدل حتى تجوز له هبته و التصدق به و الإبراء عنه و الشراء و الرهن و الكفالة و كل تصرف يملك البائع في الثمن في باب البيع و للمؤاجر أن يمتنع عن تسليم المستأجر في الأشياء المنتفع بأعيانها حتى يستوفي الأجرة و كذا للأجير الواحد ان يمتنع عن تسليم النفس و للأجير المشترك أن يمتنع عن إيفاء العمل قبل استيفاء الأجرة في الإجارة كالثمن في البياعات و للبائع حبس المبيع إلى أن يستوفي الثمن إذا لم يكن مؤجلا كذا ههنا .
و عن شرط فيه تأجيل الأجرة يبتدأ بتسليم المستأجر و إيفاء العمل و إنما يجب بتسليم البدل عند انقضاء الأجل لأن الأصل في الشروط اعتبارها للحديث الذي روينا و إن كان العقد مطلقا عن شرط التعجيل و التأجيل يبتدأ بتسليم ما وقع عليه العقد في نوعي الإجارة فيجب على المؤاجر تسليم المستأجر و على الأجير تسليم النفس أو إيفاء العمل أولا عندنا خلافا للشافعي لأن الأجرة لا تجب عندنا بالعقد المطلق و عنده تجب و المسألة قد مرت غير ان في النوع الأول و هي الإجارة على الأشياء المنتفع بأعيانها إذا سلم المستأجر لا يجب على المستأجر تسليم البدل كله للحال بل على حسب استيفاء المنفعة شيئا فشيئا حقيقة أو تقديرا بالتمكن من الاستيفاء في قول أبي حنيفة الآخر و للمؤاجر أن يطالبه بالأجرة بمقدار ذلك يوما فيوما في الإجارة على العقار و نحوه و مرحلة مرحلة في الإجارة على المسافة و لكن يخير المكاري على الحمل إلى المكان المشروط إذ لو لم يخير لتضرر المستأجر و في قوله الأول و هو قول أبي يوسف و محمد لا يجب تسليم شيء من البدل إلا عند انتهاء المدة أو قطع المسافة كلها في الإجارة على قطع المسافة و قد ذكرنا وجه القولين فيما تقدم .
و أما في النوع الآخر : و هو استئجار الصناع و العمل فلا يجب تسليم شيء من البدل إلا عند انتهاء المدة أو قطع المسافة بعد الفراغ من العمل بلا خلاف حتى قالوا في الحمال مالم يحط المتاع من رأسه لا يجب الأجر لأن الحط من تمام العمل و هكذا قال أبو يوسف في الحمال يطلب الأجرة بعدما بلغ المنزل قبل أن يضعه أنه ليس له ذلك لأن الوضع من تمام العمل .
و الفرق : أن كل جزء من العمل في هذا النوع غير مقصود لأنه لا ينتفع ببعضه دون بعض فكان الكل كشيء واحد فما لم يوجد لا يقابله البدل بلا خلاف بخلاف النوع الأول على قول أبي حنيفة الآخر لأن كل جزء من السكنى و قطع المسافة مقصود فيقابل بالأجرة ثم في النوع الآخر إذا أراد الأجير حبس العين بعد الفراغ من العمل لاستيفاء الأجرة هل له ذلك ينظر إن كان لعمله أثر ظاهر في العين كالخياط و القصار و الصباغ و الإسكاف له ذلك لأن ذلك الأثر هو المعقود عليه و هو صيرورة الثوب مخيطا مقصورا و إنما العمل يحصل ذلك الأثر عادة و البدل يقابل ذلك الأثر فكان كالمبيع فكان له أن يحبسه لاستيفاء الأجرة كالبيع قبل القبض أنه يحبس لاستيفاء الثمن إذا لم يكن الثمن مؤجلا .
و لو هلك قبل التسليم تسقط الأجرة لأنه مبيع هلك قبل القبض و هل يجب الضمان فعند أبي حنيفة لا يجب و عندهما يجب لأنه يجب قبل الحبس عندهما فبعد الحبس أولى و المسألة تأتي في موضعها إن شاء الله تعالى .
و إن لم يكن لعمله أثر ظاهر في العين كالحمال و الملاح و المكاري ليس له أن يحبس العين لأن ما لا أثر له في العين فالبدل إنما يقابل نفس العمل إلا أن العمل كله كشيء واحد إذ لا ينتفع ببعضه دون بعض فكما فرغ حصل في يد المستأجر فلا يملك حبسه عنه بعد طلبه كاليد المودعة و لهذا لا يجوز حبس الوديعة بالدين و لو حبسه فهلك قبل التسليم لا تسقط الأجرة لما ذكرنا أنه كما وقع في العمل حصل مسلما إلى المستأجر لحصوله في يده فتقررت عليه الأجرة فلا تحتمل السقوط بالهلاك و يضمن لأنه حبسه بخير حق فصار غاضبا بالحبس و نص محمد على الغصب فقال : فإن حبس الجمال المتاع في يده فهو غاصب .
و وجهه : ما ذكرنا أن العين كانت أمانة في يده فإن حبسها بدينه فقد صار غاصبا كما لو حبس المودع الوديعة بالدين هذا الذي ذكرنا أن العمل لا يصير مسلما إلى المستأجر إلا بعد الفراغ منه حتى لا يملك الأجير المطالبة بالأجرة قبل الفراغ إذا كان المعمول فيه في يد الأجير فإن كان في يد المستأجر فقدر ما أوقعه من العمل فيه يصير مسلما إلى المستأجر قبل الفراغ منه حتى يملك المطالبة بقدره من المدة بأن استأجر رجلا ليبني له بناء في ملكه أو فيما في يده بأن استاجره ليبني له بناء في داره أو يعمل له ساباطا أو جناحا أو يحفر له بئرا أو قناة أو نهرا أو ما أشبه ذلك في ملكه أو فيما في يده فعمل بعضه فله أن يطالبه بقدره من الأجرة لكنه يجبر على الباقي حتى لو انهدم البناء أو انهارت البئر أو وقع فيها الماء و التراب و سواها مع الأرض أو سقط الساباط فله أجر ما عمله بحصته لأنه إذا كان في ملك المستأجر أو في يده فكلما عمل شيئا حصل في يده قبل هلاكه و صار مسلما إليه فلا يسقط بدله بالهلاك .
و لو كان غير ذلك في غير ملكه و يده ليس له أن يطلب شيئا من الأجرة قبل الفراغ من عمله و تسليمه إليه حتى لو هلك قبل التسليم لا يجب شيء من الأجرة لأنه إذا لم يكن في ملكه و لا في يده توقف وجوب الأجرة فيه على الفراغ و التمام .
و قال الحسن بن زياد : إذا أراه موضعا من الصحراء يحفر بمنزلة ما هو في ملكه و يده و قال في آخر الكلام و هذا قياس قول أبي حنيفة و قال محمد : لا يكون قابضا إلا بالتخلية و إن أراه الموضع و هو الصحيح لأن ذلك الموضع بالتعيين لم يصر في يده فلا يصير عمل الأجير فيه مسلما له و إن كان ذلك في غير ملك المستأجر و يده فعمل الأجير بعضه و المستأجر قريب من العامل فخلى الأجير بينه و بينه فقال المستأجر لا أقبضه منك حتى يفرغ فله ذلك لأن قدر ما عمل لم يصر مسلما إذا لم يكن في ملك المستأجر و لا في يده لأنه لا ينتفع ببعض عمله دون بعض فكان للمستأجر أن يمتنع من التسليم حتى يتمه