ما يرجع إلى المكاتبة .
فصل : وأما الذي يرجع إلى المكاتبة فأنواع أيضا : .
منها : أن لا يكون فيه خطر العدم وقت المكاتبة وهو شرط الانعقاد حتى لو كاتب ما في بطن جاريته لم ينعقد لنهي النبي صلى الله عليه و سلم عن بيع فيه غرر والمكاتبة فيها معنى البيع .
ومنها : أن لا يكون عاقلا وهو من شرائط الانعقاد حتى لو كاتب عبدا له مجنونا أو صغيرا لا يعقل لا تنعقد مكاتبته لأن القبول أحد شرطي الركن وأهلية القبول لا تثبت بدون العقل لأن ما هو المقصود من هذا العقد وهو الكسب لا يحصل منه فإن كاتبه فأدى البدل عنه رجل فقبله المولى لا يعتق لأن العتق لا ينعقد بدون القبول ولم يوجد فكان أداء الأجنبي أداء من غير عقد فلا يعتق وله أن يسترد ما أدى لأنه أداه بدلا عن العتق ولم يسلم العتق ولو قبل عنه الرجل الكتابة ورضى المولى لم يجز أيضا لأن الرجل قبل الكتابة من غيره من غير رضاه ولا يجوز قبول الكتابة عن غيره بغير رضاه وهل يتوقف على إجازة العبد بعد البلوغ ذكر القدوري أنه لا يتوقف وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أنه يتوقف .
والصحيح ما ذكره القدوري لأن تصرف الفضولي إنما يتوقف على الإجازة إذا كان له مجيز وقت التصرف وههنا لا مجيز له وقت وجوده إذ الصغير ليس من أهل الإجازة فلا يتوقف بخلاف ما إذا كان العبد كبيرا غائبا فجاء رجل وقبل الكتابة عنه ورضي المولى أن الكتابة تتوقف على إجازة العبد لأنه من أهل الإجازة وقت قبول الفضولي عنه فكان له مجيزا وقت التصرف فتوقف فلو أدى القابل عن الصغير إلى المولى ذكر في الأصل أنه يعتق استحسانا وجعله بمنزلة قوله : إذا أديت إلي كذا فعبدي حر وقال : وهذا والكبير سواء .
والقياس : أن لا يعتق لأن المكاتبة على الصغير لم تنعقد لأنه ليس من أهل القبول فيبقى الأداء بغير مكاتبة فلا يعتق .
وجه الاستحسان : أن المكاتبة فيها معنى المعاوضة ومعنى التعليق والمولى إن كان لا يملك إلزام العبد العوض / يملك تعليق عتقه بالشرط فيصح من هذا الوجه ويتعلق العتق بوجود الشرط وكذا إذا كان العبد كبيرا غائبافقبل الكتابة عنه فضولي وأداها إلى المولى يعتق استحسانا وليس للقابل استرداد المؤدى والقياس : أن لا يعتق وله أن يسترد لما قلنا .
هذا إذا أدى الكل فإن أدى البعض فله أن يسترد قياسا واستحسانا لأنه إنما أدى ليسلم العتق والعتق لا يسلم بأداء بعض بدل الكتابة فكان له أن يسترد إلا إذا بلغ العبد فأجاز قبل أن يسترد القابل فليس له أن يسترد بعد ذلك لأن بالإجازة استند جواب العقد إلى وقت وجوده والأداء حصل عن عقد جائز فلا يكون له الاسترداد فلو أن العبد عجز عن أداء الباقي ورد في الرق فليس له أن يسترد أيضا وإن رد العبد في الرق لأن المكاتبة لا تنفسخ بالرد في الرق بل تنتهي في المستقبل فكان حكم العقد قائما قي القدر المؤدى فلا يكون له الاسترداد بخلاف باب البيع بأن من باع شيئا ثم تبرع إنسان بأداء الثمن ثم فسخ البيع بالرد بالعيب أو بوجه من الوجوه أن للمتبرع أن يسترد ما دفع لأن الدفع كان بحكم العقد وقد انفسخ ذلك العقد .
وكذلك لو تبرع رجل بأداء المهر عن الزوج ثم ورد الطلاق قبل الدخول أنه يسترد منها النصف لأن الطلاق قبل الدخول فسخ من وجه ولو كانت الفرقة من قبلها قبل الدخول بها فله أن يسترد منها كل المهر ولا يكون المهر للزوج بل يكون للمتبرع لانفساخ النكاح .
هذا كله إذا أدى القابل فلو امتنع القابل عن الأداء لا يطالب بالأداء إلا إذا ضمن فحينئذ يؤخذ به بحكم الضمان فأما بلوغه فليس بشرط حتى لو كاتبه وهو يعقل البيع والشراء جازت المكاتبة ويكون كالكبير في جميع أحكامه عندنا خلافا للشافعي لأن المكاتبة إذن في التجارة وإذن الصبي العاقل بالتجارة صحيح عندنا خلافا له وهي من مسائل المأذون .
فصل : وأما الذي يرجع إلى بدل الكتابة .
فمنها : أن يكون مالا وهو شرط الانعقاد فلا تنعقد المكاتبة على الميتة والدم لأنهما ليسا بمال في حق أحد لا في حق المسلم ولا في حق الذمي ألا ترى أن المشتري بهما لا يملك وإن قبض ولا تنعقد عليهما المكاتبة حتى لا يعتق وإن أدى لأن التصرف الباطل لا حكم له فكان ملحقا بالعدم إلا إذا كان قال على أنك إن أديت إلي فأنت حر فأدى فإنه يعتق بالشرط وإذا عتق بالشرط لا يرجع المولى عليه بقيمته لأن هذا ليس بمكاتبة إنما هو إعتاق معلق بالشرط بمنزلة قوله إن دخلت الدار فأنت حر .
ومنها : أن يكون متقوما وأنه من شرائط الصحة فلا تصح مكاتبة المسلم عبده أو الذمي على الخمر أو الخنزير ولا مكاتبة الذمي عبده المسلم على الخمر والخنزير لأن الخمر وإن كان مالا في حق المسلمين فهي غير متقومة في حقهم فانعقدت المكاتبة على الفساد فإن أدى يعتق وعليه قيمة نفسه لأن هذا حكم المكاتبة الفاسدة على ما نذكر في بيان حكم المكاتبة .
أما الذمي فتجوز مكاتبته عبده الكافر على خمر أو خنزير لأن ذلك مال متقوم عندهم كالخل والشاة عندنا فإن كاتب ذمي عبدا له كافرا على خمر فأسلم أحدهما فالمكاتبة ماضية وعلى العبد قيمة الخمر لأن المكاتبة وقعت صحيحة لكون الخمر مالا متقوما في حقهم إلا أنه إذا أسلم أحدهما فقد تعذر التسليم أو التسلم لأن المسلم منهي عن ذلك فتجب قيمتها ولا ينفسخ العقد بخلاف ما إذا اشترى الذمي من ذمي شيئا بخمر ثم أسلم أحدهما قبل قبض الثمن الخمر أن البيع يبطل وههنا لا ينفسخ بتعذر تسليم المسمى أو تسلمه بل يصار إلى بدله فأما البيع فعقد مما كسبه ومضايقة لا تجري فيه من السهولة ما يجري في المكاتبة فينفسخ عند تعذر تسليم عين المسمى ويرتفع وإذا ارتفع لا يتصور تسليم القيمة مع ارتفاع سب الوجوب .
ومنها : أن يكون معلوم النوع والقدر وسواء كان معلوم الصفة أولا وهو من شرائط الانعقاد فإن كان مجهول القدر أو مجهول النوع لم ينعقد وإن كان معلوم النوع والقدر مجهول الصفة جازت المكاتبة .
والأصل : أن الجهالة متى فحشت منعت جواز المكاتبة وإلا فلا وجهالة النوع والقدر جهالة فاحشة و جهالة الصفة غير فاحشة فإنه روي عن عمر Bه أنه أجاز المكاتبة على الوصفاء بمحضر من الصحابة Bهم فيكون إجماعا على الجواز والإجماع على الجواز إجماع على سقوط اعتبار هذا النوع من الجهالة في باب الكتابة .
وبيان هذا الأصل في مسائل إذا كاتب عبده على ثوب أو دابة أو حيوان أو دار لم تنعقد حتى لا يعتق وإن أدى لأن الثوب والدار والحيوان مجهول النوع لاختلاف أنواع كل جنس وأشخاصه اختلافا متفاحشا .
وكذا الدور تجري مجرى الأجناس المختلفة لتفاحش التفاوت بين دار ودار في الهيئة والتقطيع وفي القيمة باختلاف المواضع من البلدان والمحال والسكك ولهذا منعت هذه الجهالة صحة التسمية والإعتاق على مال والنكاح والخلع والصلح عن جم العمد فصارت هذه الأشياء لكثرة التفاوت في أنواعها وأشخاصها بمنزلة الأجناس المختلفة فيصير كأنه كاتبه على ثوب أو دابة أو حيوان أو دار فأدى طعاما ولو كان كذلك لا يعتق .
وإن أدى أعلى الثياب والدواب والدور بخلاف ما إذا كاتبه على قيمة فأدى القيمة أنه يعتق لأن التفاوت بين القيمتين لا يلحقهما مجلسين فكانت جهالة القيمة مفسدة للعقد لا مبطلة له وإن كاتبه على ثوب هروي أو عبد أو جارية أو فرس جازت المطالبة لأن الجهالة ههنا جهالة الوصف أنه جيد أو رديء أو وسط وإنها لا تمنع صحة التسمية كما في النكاح والخلع .
والأصل أن الحيوان يثبت دينا في الذمة في مبادلة المال كما في النكاح ونحوه فتصبح التسمية ويقع في الوسط كما في باب الزكاة والدية والنكاح وكذا لو كاتبه على وصيف يجوز ويقع على الوسط ولو جاء العبد بقيمة الوسط في هذه المواضع يجبر المولى على القبول كما في النكاح والخلع ونحوهما .
ولو كاتبه على لؤلؤة أو ياقوتة لم ينعقد لأن الجهالة متفاحشة ولو كاتبه على كر حنطة أو ما أشبه ذلك من المكيل والموزون ولم يصف يجوز وعليه الوسط من جنسه لأنه ثبت دينا في الذمة في مبادلة المال بالمال إذا كان موصوفا ويثبت في مبادلة ما ليس بمال بمال وإن لم يكن موصوفا كالنكاح والخلع والصلح عن دم العمد والإعتاق على مال والمكاتبة معاوضة ما ليس بمال بمال في جانب المولى فتجوز المكاتبة عليه ويجب الوسط .
ولو كاتبه على حكمه أو على حكم نفسه لم تنعقد لأن الجهالة ههنا أفحش من جهالة النوع والقدر لأن البدل هناك مسمى ولا تسمية للبدل ههنا رأسا فكانت الجهالة أكثر وإلى هذا أشار في الأصل فقال أرأيت لو حكم المولى عليه بملء الأرض ذهبا كان يلزمه أو حكم العبد على نفسه بفلس هل كان يعتق فلم ينعقد العقد أصلا فلا يعتق بالحكم وإن كاتب على ألف درهم إلى العطاء أو إلى الدياس أو إلى الحصاد أو نحو ذلك مما يعرف من الأجل جاز استحسانا والقياس أن لا يجوز لأن الأجل تبطل البيع فتبطل المكاتبة .
وجه الاستحسان : أن الجهالة لم تدخل في صلب العقد لأنها لا ترجع إلى البدل وإنما دخلت في أمر زائد ثم هي غير متفاحشة لا توجب فساد المكاتبة كجهالة الوصف بخلاف البيع إلى هذه الأوقات أنه يفسد لأن الجهالة لا توجب فساد العقد لذاتها بل لإفضائها إلى المنازعة والمنازعة قل ما تجري في هذا القدر في المكاتبة لأن مبناها على المسامحة بخلاف البيع فإن مبناه على المماكسة فيفضي إلى المنازعة ولهذا جازت الكفالة إلى هذه الأوقات ولم يجز تأجيل الثمن إليها في البيع بخلاف المكاتبة إلى مجيء المطر وهبوب الريح لأنه ليس وقت معلوم ففحشت الجهالة فإن كاتبه إلى العطاء فأخر العطاء فإن الأجل يحل في مثل الوقت الذي كان يخرج فيه العطاء لأن المراد به العرف والعادة وقت العطاء لا عين العطاء وكذا في الحصاد والدياس .
ولو كاتبه على قيمته فالمكاتبة فاسدة لأن القيمة تختلف بتقويم المقومين فكان البدل مجهول القدر وأنه مجهول جهالة فاحشة ولهذا منعت صحة التسمية في باب النكاح حتى عدل إلى مهر المثل فتمنع صحة المكاتبة بل أولى لأن النكاح يجوز بدون تسمية البدل فلما لم تصح تسمية القيمة هناك فلأن لا تصح ههنا أولى ولأن جهالة القيمة موجب للعقد الفاسد فكان ذكرها نصا على الفساد بخلاف ما إذا كاتبه على عبد لأن جهالة العبد جهالة الوصف أي جيد ورديء أو وسط فعند الإطلاق يقع على الوسيط معلوم عندهم .
ألا ترى أن أبا حنيفة جعل قيمة الوسط أربعين دينارا فأما المكاتبة على القيمة فليست بمكاتبة على بدل معلوم عند الناس عند إطلاق الاسم فصار كما لو كاتبه على ألف أو على ألفين غير أنه إذا أدى القيمة عتق لأن العقد الفاسد له حكم في الجملة عندنا كالبيع الفاسد إذا اتصل به القبض والنكاح الفاسد إذا اتصل به الدخول حتى يثبت الملك في البيع وتجب العدة والعقر ويثبت النسب في النكاح وكذا المكاتبة الفاسدة .
ولو قال كاتبتك على دراهم فالمكاتبة باطلة ولو أدى ثلاثة دراهم لا يعتق لأن البدل مجهول جهالة متفاحشة وليس للدراهم وسط معلوم حتى يقع عليه الاسم بخلاف ما إذا قال أعتقتك على درهم فقبل العبد عتق وتلزمه قيمة نفسه لأن العتق هناك وقع بالقبول والجهالة متفاحشة فلزمه قيمة نفسه ولو كاتبه على أن يخدمه شهرا فهو جائز استحسانا والقياس : أن لا يجوز .
وجه القياس : أن الخدمة مجهولة لأنها مختلفة ولا يدري في أي شيء يستخدمه وأنه يستخدمه في الحضر أو في السفر وجهالة البدل تمنع صحة الكتابة .
وجه الاستحسان : أن الخدمة المطلقة تنصرف إلى الخدمة المعهودة فتصير معلومة بالعادة وبحال المولى أنه في أي شيء يستخدمه وبحال العبد أنه لأي شيء يصلح فصار كما لو عينها نصا ولهذا جازت الإجارة على هذا الوجه فالمكاتبة أولى لأنها أقبل للجهالة من الإجارة .
ولو كاتبه على أن يخدم رجلا شهرا فهو جائز في القياس كذا ذكره في الأصل ولم يرد به قياس الأصل لأن ذلك يقتضي أن لا يجوز لما ذكرنا وإنما أراد به القياس على الاستحسان الذي ذكرنا ويجوز القياس على موضع الاستحسان إذا كان الحكم في الاستحسان معقول المعنى كقياس الجماع ناسيا ولأن المنافع أموال في العقود وأنها تصير معلومة بذكر المدة فلا فرق بين أن يستأجر رجلا ليخدمه أو ليخدم غيره .
وكذلك لو كاتبه على أن يحفر بئرا قد سمى له طولها وعمقها ومكانها أو على أن يبني له دارا وأراه آجرها وجصها وما يبني بها لأنه كاتبه على بدل معلوم ألا ترى أن الإجارة عليه جائزة فالكتابة أولى ولو كاتبه على أن يخدمه ولو يذكر الوقت فالكتابة فاسدة لأن البدل مجهول .
ومنها : أن لا يكون البدل ملك المولى وهو شرط الانعقاد حتى لو كاتبه على عين من أعيان مال المولى لم يجز لأنه يكون مكاتبة بغير بدل في الحقيقة فلا يجوز كما إذا باع داره من إنسان بعبد هو لصاحب الدار أنه لا يجوز البيع لأنه يكون بيعا بغير ثمن في الحقيقة كذا هذا .
وكذا لو كاتبه على ما قي يد العبد من الكسب وقت المكاتبة لأن ذلك مال المولى فيكون مكاتبة على مال المولى فلم يجز .
وأما كون البدل دينا فهل هو شرط جواز الكتابة بأن كاتبه على شيء بعينه من عبد أو ثوب أو دار أو غير ذلك مما يتعين بالتعيين وهو ليس من أعيان مال المولى ولا كسب العبد ولكنه ملك أجنبي وهو معين مشار إليه ذكر في كتاب المكاتب إذا كاتب عبده على عبد بعينه لرجل لم يجز ولم يذكر الخلاف وذكر في كتاب الشرب إذا كاتبه على أرض لرجل جاز ولم يذكر الخلاف وذكر ابن سماعة الخلاف فقال لا يجوز عند أبي حنيفة ويجوز عند أبي يوسف وعند محمد إن أجاز صاحبه جاز وإلا لم يجز وإطلاق رواية كتاب المكاتب يقتضي أن لا يجوز أجاز ولم يجز وإطلاق رواية كتاب الشرب يقتضي الجواز أجاز أو لم يجز ولأنه لما أجاز عند عدم الإجازة أولى ويجوز أن يكون قول محمد تفسيرا للروايتين المبهمتين فتحمل رواية كتاب المكاتب على حال عدم الإجازة