بيان ما يثبت به الرضاع .
فصل : و أما بيان ما يثبت به الرضاع أي يظهر به فالرضاع يظهر بأحد أمرين : .
أحدهما : الإقرار .
و الثاني : البينة .
أما الإقرار : فهو أن يقول لامرأة تزوجها : هي أختي من الرضاع أو أمي من الرضاع أو بنتي من الرضاع و يثبت على ذلك و يصبر عليه فيفرق بينهما لأنه أقر ببطلان ما يملك إبطاله للحال فيصدق فيه على نفسه و إذا صدق لا يحل له وطؤها و الاستمتاع بها فلا يكون في إبقاء النكاح فائدة فيفرق بينهما سواء صدقته أو كذبته لأن الحرمة ثابتة في زعمه ثم إن كان قبل الدخول بها فلها نصف المهر إن كذبته لأن الزوج مصدق على نفسه لا عليها بإبطال حقها في المهر و إن كان بعد الدخول بها فلها كمال المهر و النفقة و السكنى لأنه غير مصدق بإبطال حقها فإن أقر بذلك ثم قال : أوهمت أو أخطأت أو غلظت أو نسيت أو كذبت فهما على النكاح و لا يفرق بينهما عندنا .
و قال مالك و الشافعي : يفرق بينهما و لا يصدق على الخطأ و غيره .
وجه قولهما : أنه أقر بسبب الفرقة فلا يملك الرجوع كما لو أقر بالطلاق ثم رجع بأن قال لامرأته كنت طلقتك ثلاثا ثم قال وهمت و الدليل عليه أنه لو قال لأمته هذه امرأتي أو أمي أو أختي أو ابنتي ثم قال أوهمت إنه لا يصدق و تعتق و كذا ههنا .
و لنا : أن الإقرار إخبار فقوله هذه أختي إخبار منه أنها لم تكن زوجته قط لكونها محرمة عليه على التأبيد فإذا قال أوهمت صار كأنه قال ما تزوجتها ثم قال تزوجتها و صدقته المرأة و لو قال ذلك يقران على النكاح كذا هذا بخلاف الطلاق لأن قوله كنت طلقتك ثلاثا إقرارا منه بإنشاء الطلاق الثلاث من جهته و لا يتحقق إنشاء الطلاق إلا بعد صحة النكاح فإذا أقر ثم رجع عنه لم يصدق و بخلاف قوله لأمته هذه أمي أو ابنتي لأن ذلك لا يقتضي نفي الملك في الأصل ألا ترى أنها لو كانت أمه أو ابنته حقيقة جاز دخولها في ملكه حتى يقع العتق عليها من جهته فتضمن هذا اللفظ منه إنشاء العتق عليها فإذا قالت أوهمت لا يصدق كما لو قال هذه حرة ثم قال أوهمت .
و كذلك إذا أقر الزوج بذلك قبل النكاح فقال هذه أختي من الرضاع أو أمي أو ابنتي و أصر على ذلك و داوم عليه لا يجوز له أن يتزوجها و لو تزوجها يفرق بينهما و لو قال وهمت أو غلطت جاز له أن يتزوجها عندنا لما قلنا و لو جحد الإقرار فشهد شاهدان على إقراره فرق بينهما .
و كذلك إذا أقر بالنسب فقال هذه أمي من النسب أو بنتي أو أختي و ليس لها نسب معروف و إنها تصلح بنتا له أو أما له فإنه يسئل مرة / أخرى فإن أصر على ذلك و ثبت عليه يفرق بينهما لظهور النسب بإقراره مع إصراره عليه و إن قال وهمت أو أخطأت أو غلطت يصدق و لا يفرق بينهما عندنا لما قلنا و إن كان لها نسب معروف أو لا تصلح أما أو بنتا له لا يفرق بينهما و إن دام على ذلك لأنه كاذب في إقراره بيقين و الله أعلم .
و أما البينة : فهي أن يشهد على الرضاع رجلان أو رجل و امرأتان و لا يقبل على الرضاع أقل من ذلك و لا شهادة النساء بانفرادهن و هذا عندنا و قال الشافعي يقبل فيه شهادة أربع نسوة وجه قوله أن الشهادة على الرضاع شهادة على عورة إذ لا يمكن تحمل الشهادة إلا بعد النظر إلى الثدي و أنه عورة فيقبل فيه شهادة النساء على الإنفراد كالولادة .
و لنا : ما روى محمد عن عكرمة بن خالد المخزومي عن عمر Bه أنه قال : ( لا يقبل على الرضاع أقل من شاهدين ) و كان ذلك بمحضر من الصحابة و لم يظهر النكير من أحد فيكون إجماعا و لأن هذا باب مما يطلع عليه الرجال فلا يقبل فيه شهادة النساء على الانفراد كالمال و إنما قلنا ذلك لأن الرضاع مما يطلع عليه الرجال أما ثدي الأمة فلأنه يجوز للأجانب النظر إليه و أما ثدي الحرة فيجوز لمحامها النظر إليه فثبت أن هذه شهادة مما يطلع عليه الرجال فلا يقبل فيه شهادة النساء على الانفراد لأن قبولهن شهادتهن بانفرادهن في أصول الشرع للضرورة و هي ضرورة عدم اطلاع الرجال على المشهود به فإذا جاز الاطلاع عليه في الجملة لم تتحقق الضرورة بخلاف الولادة فإنه لا يجوز لأحد فيها من الرجال الاطلاع عليها فدعت الضرورة إلى القبول .
و إذا شهدت امرأة على الرضاع فالأفضل للزوج أن يفارقها لما روي [ عن محمد أن عقبة بن الحرث قال : تزوجت بنت أبي إهاب فجاءت امرأة سوداء فقالت : إني أرضعتكما فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فقال صلى الله عليه و سلم ( فارقها ) فقلت : إنها امرأة سوداء و إنها كيت و كيت فقال صلى الله عليه و سلم : كيف و قد قيل ] .
و في بعض الروايات قال عقبة : [ فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم فأعرض ثم ذكرته فأعرض حتى قال : في الثالثة أو الرابعة فدعها إذا ] .
و قوله : فارقها أو فدعها إذا ندب إلى الأفضل و الأولى ألا ترى أنه صلى الله عليه و سلم لم يفرق بينهما بل أعرض و لو كان التفريق واجبا لما أعرض فدل قوله صلى الله عليه و سلم : [ فارقها ] على بقاء النكاح و روي أن رجلا تزوج امرأة فجاءت امرأة فزعمت أنها أرضعتهما فسأل الرجل عليا Bه فقال : هي امرأتك ليس أحد يحرمها عليك فإن تنزهت فهو أفضل و سأل ابن عباس Bهما فقال له مثل ذلك و لأنه يحتمل أن تكون صادقة في شهادتها فكان الاحتياط هو المفارقة فإذا فارقها فالأفضل له أن يعطيها نصف المهر إن كان قبل الدخول بها لاحتمال صحة النكاح لاحتمال كذبها في الشهادة و الأفضل لها أن لا تأخذ شيئا منه لاحتمال فساد النكاح لاحتمال صدقها في الشهادة و إن كان بعد الدخول فالأفضل للزوج أن يعطيها كمال المهر و النفقة و السكنى لاحتمال جواز النكاح و الأفضل لها أن تأخذ الأقل من مهر مثلها و من المسمى و لا تأخذ النفقة و السكنى لاحتمال الفساد و إن لم يطلقها فهو في سعة من المقام معها لأن النكاح قائم في الحكم و كذا إذا شهدت امرأتان أو رجل و امرأة أو رجلان غير عدلين أو رجل و امرأتان غير عدول لما قلنا .
و إذا شهد رجلان عدلان أو رجل و امرأتان و فرق بينهما فإن كان قبل الدخول بها فلا شيء لها لأنه تبين أن النكاح فاسدا و إن كان بعد الدخول بها يجب لها الأقل من المسمى و من مهر المثل و لا تجب النفقة و السكنى في سائر الأنكحة الفاسدة و الله عز و جل أعلم