وقت وجوب الكفارة .
ثم وقت وجوب الكفارة في اليمين المعقود على المستقبل هو وقت وجود الحنث فلا يجب إلا بعد الحنث عند عامة العلماء و قال قوم وقته وقت وجود اليمين فتجب الكفارة بعقد اليمين من غير حنث .
و احتجوا بقوله تعالى : { و لكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } و قوله عز و جل : { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } و قوله عز و جل : { فكفارته } أي كفارة ما عقدتم من الأيمان لأن الإضافة تستدعي مضافا إليه سابقا و لم يسبق غير ذلك العقد فيصرف إليه وكذا في قوله : { ذلك كفارة أيمانكم } أضاف الكفارة إلى اليمين و على ذلك تنسب الكفارة إلى اليمين و الإضافة تدل على السببية في الأصل و بما روي عن رسول الله A أنه قال : [ من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه ثم ليأت الذي هو خير ] و الاستدلال بالحديث من وجهين : .
أحدهما : أنه أمر بالتفكير بعد اليمين قبل الحنث و مطلق الأمر يحمل على الوجوب .
و الثاني : أنه قال عليه الصلاة و السلام : [ فليكفر عن يمينه ] أضاف التفكير إلى اليمين فكذا في الرواية الأخرى [ فليأت الذي هو خير و ليكفر يمينه ] أمر بتكفير اليمين لا بتكفير الحنث فدل أن الكفارة لليمين و لأن الله تعالى نهى عن الوعد إلا بالاستثناء بقوله عز و جل : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * لا أن يشاء الله } .
و معلوم أن ذلك النهي في اليمين أوكد و أشد ممن حلف على شيء بلا ثنيا فقد صار عاصيا بإتيان ما نهي عنه فتجب الكفارة لدفع ذلك الإثم عنه .
و لنا : أن الواجب كفارة و الكفارة تكون للسيئات إذ من البعيد تكفير الحسنات فالسيئات تكفر بالحسنات قال الله تعالى : { إن الحسنات يذهبن السيئات } و عقد اليمين مشروع و قد أقسم رسول الله صلى الله عليه و سلم في غير موضع وكذا الرسل المتقدمة عليهم الصلاة و السلام قال الله تعالى خبرا عن إبراهيم عليه الصلاة و السلام أنه قال : { و تالله لأكيدن أصنامكم } و قال خبرا عن أولاد يعقوب عليهم الصلاة و السلام أنهم قالوا : { تالله تفتأ تذكر يوسف } وكذا أيوب عليه الصلاة و السلام كان حلف أن يضرب امرأته فأمره الله سبحانه بالوفاء بقوله تعالى : { و خذ بيدك ضغثا فاضرب به و لا تحنث } و الأنبياء عليهم الصلاة و السلام معصومون عن الكبائر و المعاصي فدل أن نفس اليمين ليست بذنب .
و روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إذا حلفتم فاحلفوا بالله ] و قال صلى الله عليه و سلم : [ لا تحلفوا بآبائكم و لا بالطواغيت فمن كان حالفا بالله أو ليذر ] أمر صلى الله عليه و سلم باليمين بالله تعالى فدل أن نفس اليمين ليس بذنب فلا يجب التفكير لها و إنما يجب للحنث لأنه هو المأثم في الحقيقة و معنى الذنب فيه أنه كان عاهد الله تعالى أن يفعل كذا فالحنث يخرج مخرج نقض العهد منه فيأثم بالنقض لا بالعهد و لذلك قال الله تعالى : { و أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم و لا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها و قد جعلتم } الآية و لأن عقد اليمين يخرج مخرج التعظيم و التبجيل لله تعالى و جعله مفزعا إليه و مأمنا عنه فيمتنع أن تجب بالكفارة محوا له و سترا و تبين بطلان قولهم إن الحالف يصير عاصيا بترك الاستثناء في اليمين لأن الأنبياء صلوات الله عليهم تركوا الاستثناء في اليمين ولم يجز وصفهم بالمعصية فدل أن ترك الاستثناء في اليمين ليس بحرام وإن كان تركه في مطلق الوعد منهيا عنه كراهة و ذلك و الله عز و جل أعلم لوجهين .
أحدهما : أن الوعد إضافة الفعل إلى نفسه بأن يقول افعل غدا كذا وكل فعل يفعله تحت مشيئة الله تعالى فإن فعله لا يتحقق لأحد إلا بعد تحقيق الله تعالى منه و لا يتحقق منه الاكتساب لذلك إلا باقداره فيندب إلى قران الإستثناء بالوعد ليوفق على ذلك و يعصم عن الترك و في اليمين يذكر الاستشهاد باسم الله تعالى على طريق التعظيم و قد استغاث بالله تعالى و إليه فزع فيتحقق التعظيم الذي يحصل به الاستثناء و زيادة فلا معنى للاستثناء الثاني : أن اليمين شرعت لتأكيد المحلوف عليه خصوصا في البيعة و قران الاستثناء في مثل ذلك يبطل المعنى الذي وضع له العقد بخلاف الوعد المطلق .
و أما الآية الكريمة فتأويلها من وجهين : .
أحدهما : أي يؤاخذكم الله بمحافظة ما عقدتم من الأيمان و الوفاء بها كقوله عز و جل : { و لا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها } فإن تركتم ذلك فكفارته كذا و كذلك قوله : { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } فتركتم المحافظة ألا ترى أنه قال عز و جل : { و احفظوا أيمانكم } و المحافظة تكون بالبر .
و الثاني : أن يكون على إضمار الحنث أي و لكن يؤاخذكم بحنثكم فيما عقدتم و كذا في قوله : { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } أي إذا حلفتم و حنثتم كما في قوله : { فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } معناه فحلف ففدية من صيام و قوله عز و جل : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } معناه فتحلل و قوله عز و جل : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } أي فأفطر فعدة من أيام أخر لأن ظاهر الملفوظ و هو القدر الذي هو سبب التخفيف لا يصلح سببا للوجوب فصار استعمال الرخصة مضمرا فيه كذلك ههنا لا تصلح اليمين التي هي تعظيم الرب جل جلاله سببا لوجوب التفكير فيجب إضمار ما هو صالح وهو الحنث و أما إضافة الكفارة إلى اليمين فليست للوجوب بها بل على إدارة الحنث كإضافة كفارة الفطر إلى الصيام و إضافة الدم إلى الحج و السجود إلى السهو و إن لم يكن ما أضيف إليه سببا كذا هذا .
و أما الحديث فقد روي بروايات : [ فليأت الذي هو خير و ليكفر يمينه ] و روي [ فليكفر يمينه وليأت الذي هو خير ] و روي [ فليأت الذي هو خير ثم ليكفر يمينه ] و هو على الروايات كلها حجة عليهم لا لهم لأن الكفارة لو كانت واجبة بنفس اليمين لقال عليه الصلاة و السلام : من حلف على يمين فليكفر من غير التعرض لما وقع عليه اليمين أنه ماذا و لما لزم الحنث إذا كان خيرا ثم بالتكفير فلما خص اليمين على ما كان الحنث خيرا من البر بالنقض و الكفارة علم أنها تختص بالحنث دون اليمين نفسها و أنها لا تجب بعقد اليمين دون الحنث .
و اختلف في جوازها قبل الحنث قال أصحابنا : لا يجوز و قال الشافعي يجوز التفكير بالمال قبل الحنث فأما التفكير بالصوم فلا يجوز قبل الحنث بالإجماع وجه قوله إنه كفر بعد وجود سبب الوجوب فيجوز كما لو كفر بالمال بعد الجرح قبل الموت .
و الدليل على أنه كفر بعد وجود سبب الوجوب أن اليمين سبب وجوب الكفارة بدليل أن الكفارة تضاف إلى اليمين يقال : كفارة اليمين و قال الله تعالى : { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } و الحكم إنما يضاف إلى سببه هو الأصل فدل أن اليمين سبب لوجوب الكفارة فكان هذا تكفيرا بعد وجود سبب الوجوب فيجوز كما في موضع الإجماع .
و الدليل على جواز التكفير بالمال قبل الحنث ما روي : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ كفر قبل الحنث و ذلك أنه لما رأى حمزة Bه سيد الشهداء قد مثل و جرح جراحات عظيمة اشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأقسم أن يفعل كذلك بكذا و كذا من قريش فنزل النهي عن الوفاء بذلك و كفر عن يمينه ] وذلك تكفير قبل الحنث لأن الحنث في مثل هذه اليمين لا يتحقق إلا في الوقت الذي لا يحتمل البر فيه حقيقة و ذلك عند موته فدل على جواز التكفير للأمة قبل الحنث إذ هو صلى الله عليه و سلم قدوة .
و لنا : أن السبب ما يكون مفضيا إلى المسبب إذ هو في اللغة اسم لما يتوصل به إلى الشيء و اليمين مانعة من الحنث لكون الحنث خلفا في الوعد و نقصا للعهد وقد قال الله تعالى : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون * ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا } و لكونه استخفافا باسم الله تعالى من حيث الصورة وكل ذلك مانع من الحنث فكانت اليمين مانعة من الحنث فكانت مانعة من الوجوب إذ الوجوب شرط الحنث بلا خلاف بيننا فكيف يكون سببا للوجوب و لهذا لم يجز تعجيل التكفير بالصوم كذا بالمال بخلاف التكفير بعد الجرح قبل الموت لأن الجرح سبب للموت لكونه مفضيا إلى فوات الحياة عادة فكان تكفيرا بعد وجوب السبب فجاز .
و أما إضافة الكفارة إلى اليمين فعلى إضمار الحنث فيكون الحنث بعد اليمين سببا لا قبله و الحنث يكون سببا و الدليل عليه أنه سماه كفارة لقوله عز و جل { ذلك كفارة أيمانكم } و هي اسم لما يكفر بالذنب و لا ذنب إلا ذنب الحنث فكان المراد منه إذا حلفتم و حنثتم كما يقرأ ابن مسعود Bه .
فإن قيل : الكفارة تجب بنفس اليمين أصل الوجوب لكن يجب أداؤها عند الحنث كالزكاة تجب عند وجوب النصاب لكن يجب الأداء عند الحول و قوله صلى الله عليه و سلم : [ لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ] لنفي وجوب الأداء لا لنفي أصل الوجوب فالجواب أنه لا وجوب إلا وجوب الفعل فأما وجوب غير الفعل فأمر لا يعقل على ما عرف في موضعه على أنه لو كان كذلك لجاز التفكير بالصوم لأنه صام بعد الوجوب فعلم أن الوجوب غير ثابت أصلا و رأسا .
فإن قيل : يجوز أن يسمي كفارة قبل وجوبها كما يسمى ما يجعل من المال زكاة قبل الحول و كما يسمى المعجل كفارة بعد الجراحة قبل الموت فلا حاجة إلى الحنث في جوازها فالجواب أنه لا خلاف في أن الكفارة الحقيقة و هي الكفارة الوجبة بعد الحنث مرادة بالآية فامتنع أن يراد بها ما يسمى كفارة مجازا لعرضية الوجوب لاستحالة كون اللفظ الواحد منتظما الحقيقة و المجاز .
و أما تكفير النبي صلى الله عليه و سلم فنقول ذلك في المعنى كان تكفيرا بعد الحنث لأنه تكفير بعد العجز عن تحصيل البر فيكون تكفيرا بعد الحنث من حيث المعنى كمن حلف لآتين البصرة فمات يلزمه الكفارة لتحقق العجز بالموت و بيان ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم معصوم عن المعصية و الوفاء بتلك اليمين معصية إذ هو نهي عن ذلك فكانت يمينه قبل النهي عن الذي حلف عليه فكانت منعقدة على فعل مباح و لما نهي صلى الله عليه و سلم عن تحصيل ذلك الفعل و صار ذلك معصية صار إنشاء و عاجزا عن البر فصار حانثا و إن كان ذلك الفعل ممكن الوجود في نفسه فكانت وقت يأسه وقت النهي لا وقت الموت أما في حق غير النبي صلى الله عليه و سلم وقت اليأس و العجز حقيقة هو وقت الموت إذ غير النبي صلى الله عليه و سلم غير معصوم عن المعاصي فلا يتحقق العجز لتصور وجود البر مع وصف العصيان فهو الفرق و الله عز و جل أعلم