فصل : بيان ما يتأكد به المهر .
و أما بيان ما يتأكد به المهر فالمهر يتأكد بأحد معان ثلاثة : الدخول و الخلوة الصحيحة و موت أحد الزوجين سواء كان مسمى أو مهر المثل حتى لا يسقط شيء منه بعد ذلك إلا بالإبراء من صاحب الحق أما التأكد بالدخول فمتفق عليه و الوجه فيه أن المهر قد وجب بالعقد و صار دينا في ذمته و الدخول لا يسقطه لأنه استيفاء المعقود عليه و استيفاء المعقود عليه يقرر البدل لا أن يسقطه كما في الإجارة و لأن المهر يتأكد بتسليم المبدل من غير استيفائه لما نذكر فلأن يتأكد بالتسليم مع الاستيفاء أولى .
و أما التأكد بالخلوة فمذهبنا .
و قال الشافعي : لا يتأكد المهر بالخلوة حتى لو خلا بها خلوة صحيحة ثم طلقها قبل الدخول بها في نكاح فيه تسمية يجب عليه كمال عندنا و عنده نصف المسمى و إن لم يكن في النكاح تسمية يجب عليه كمال مهر المثل عندنا و عنده يجب عليه المتعة و على هذا الاختلاف وجوب العدة بعد الخلوة قبل الدخول عندنا تجب و عنده لا تجب .
و احتج بقوله تعالى : { و إن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن و قد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } أوجب الله تعالى نصف المفروض في الطلاق قبل الدخول في نكاح فيه تسمية لأن المراد من المس هو الجماع و لم يفصل بين حال وجود الخلوة و عدمها فمن أوجب كل المفروض ففقد خالف النص .
و قوله تعالى : { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن } أي و لم تفرضوا لهن فريضة فمتعوهن أوجب الله تعالى لهن المتعة في الطلاق في نكاح لا تسمية فيه مطلقا من غير فصل بين حال وجود الخلوة و عدمها و قوله عز و جل : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن } .
فدلت الآية الشريفة على نفي وجوب العدة و وجوب المتعة قبل الدخول من غير فصل و لأن تأكد المهر يتوقف على استيفاء المستحق بالعقد و هو منافع البضع واستيفاؤها بالوطء و لم يوجد و لا ضرورة لها في التوقف لأن الزوج لا يخلو إما أن يستوفي أو يطلق فإن استوفى تأكد حقها و إن طلق يفوت عليها نصف المهر لكن بعوض هو خير لها لأن المعقود عليه يعود عليها سليما مع سلامة نصف المهر لها بخلاف الإجارة أن تتأكد الأجرة فيها بنفس التخلية و لا يتوقف التأكد على استيفاء المنافع لأن في التوقف هناك ضرر بالأجر لأن الإجارة مدة معلومة فمن الجائز أن يمنع المستأجر من استيفاء المنافع مدة الإجارة بعد التخلية فلو توقف تأكد الأجرة على حقيقة الاستيفاء و ربما لا يستوفي لفائت المنافع عليه مجانا بلا عوض فيتضرر به الآجر فأقيم التمكن من الانتفاع مقام استيفاء المنفعة دفعا للضرر عن الآجر و ههنا لا ضرر في التوقف على ما بيننا فتوقف التأكد على حقيقة الاستيفاء و لم يوجد فلا يتأكد .
و لنا : قوله عز و جل : { و إن أردتم استبدال زوج مكان زوج و آتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا و إثما مبينا } { و كيف تأخذونه و قد أفضى بعضكم إلى بعض } نهى سبحانه و تعالى الزوج عن أخذ شيء مما ساق إليها من المهر عند الطلاق و أبان عن معنى النهي لوجود الخلوة كذا قال القراء إن الإفضاء هو الخلوة دخل بها أو لم يدخل و مأخذ اللفظ دليل على أن المراد منه الخلوة الصحيحة لأن الإفضاء مأخوذ من الفضاء من الأرض و هو الموضع الذي لا نبات فيه و لا بناء فيه و لا حاجز يمنع عن إدراك ما فيه فكان المراد منه الخلوة على هذا الوجه وهي التي لا حائل فيها و لا مانع من الاستمتاع عملا بمقتضى اللفظ فظاهر النص يقتضي أن لا يسقط شيء منه بالطلاق إلا أن سقوط النصف بالطلاق قبل الدخول و قبل الخلوة في نكاح فيه تسمية و إقامة المتعة مقام نصف مهر المثل في نكاح لا تسمية فيه ثبت بدليل آخر فبقي حال ما بعده الخلوة على ظاهر النص .
و روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من كشف خمار امرأته و نظر إليها وجب الصداق دخل بها أو لم يدخل ] و هذا نص في الباب .
و روى عن زرارة بن أبي أوفى أنه قال : قضى الخلفاء الراشدون المهديون أنه إذا أرخى الستور و أغلق الاب فلها الصداق كاملا و عليها العدة دخل بها أو لم يدخل بها .
و حكى الطحاوي في هذه المسألة إجماع الصحابة من الخلفاء الراشدين و غيرهم و لأن المهر قد وجب بنفس العقد إما في نكاح فيه تسمية فلا شك فيه و إما في نكاح لا تسمية فيه فلما ذكرنا في مسألة المفوضة إلا أن الوجوب بنفس العقد ثبت موسعا و يتضيق عند المطالبة و الدين المضيق واجب القضاء .
قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ الدين مضيق ] و لأن المهر متى صار ملكا لها بنفس العقد فالملك الثابت لإنسان لا يجوز أن يزول إلا بإزالة المالك أو يعجزه عن الانتفاع بالمملوك حقيقة إما لمعنى يرجع إلى المالك أو لمعنى يرجع إلى المحل و لم يوجد شيء من ذلك فلا يزول إلا عند الطلاق قبل الدخول و قبل الخلوة سقط النصف بإسقاط الشرع غير معقول المعنى إلا بالطلاق لأن الطلاق فعل الزوج و المهر ملكها و الإنسان لا يملك إسقاط حق الغير عن نفسه و لأنها سلمت المبدل إلى زوجها فيحب على زوجها تسليم البدل إليها كما في البيع و الإجارة .
و الدليل على أنها سلمت المبدل أن المبدل هو ما يستوفى بالوطء و هو المنافع إلا أن المنافع قبل الاستيفاء معدومة فلا يتصور تسليمها لكن لها محل موجود و هو العين و أنها متصور الستليم حقيقة فيقام تسليم العين مقام تسليم المنفعة كما في الإجازة و قد وجد تسليم المحل لأن التسليم هو جعل الشيء سالما للمسلم إليه و ذلك برفع الموانع و قد وجد لأن الكلام في الخلوة الصحيحة و هي عبارة عن التمكن من الانتفاع و لا يتحقق التمكن إلا بعد ارتفاع الموانع كلها فثبت أنه وجد منها تسليم المبدل فيجب على الزوج تسليم البدل لأن هذا عقد معاوضة و أنه يقتضي تسليما بإزاء التسليم كما يقتضب ملكا تحقيقا بحكم المعاوضة كما في البيع و الإجارة .
و أما الآية فقال بعض أهل التأويل إن المراد من المسيس هو الخلوة فلا تكون حجة على أن فيها إيجاب نصف المفروض لا إسقاط النصف الباقي ألا ترى أن من كان في يده عبد فقال : نصف هذا العبد لفلان لا يكون ذلك نفيا للنصف الباقي فكان حكم النصف الباقي مسكوتا عنه فبقيت على قيام الدليل و قد قام الدليل على البقاء و هو ما ذكرنا فيبقى .
و أما قوله التأكد إنما يثبت استيفاء المستحق فممنوع بل كما يثبت باستيفاء المستحق يثبت بتسليم المستحق كما في الإجارة و تسليمه بتسليم محله و قد حصل ذلك بالخلوة الصحيحة على ما بينا ثم تفسير الخلوة الصحيحة هو أن يكون هناك مانع من الوطء لا حقيقي و لا شرعي و لا طبعي أما المانع الحقيقي فهو أن يكون أحدهما مريضا يمنع الجماع أو صغيرا لا يجامع مثله أو صغيرة لا يجامع مثلها أو كانت المرأة ارتقاء أو قرناء لأن الرتق و القرن يمنعان من الوطء و تصح خلوة الزوج إن كان الزوج عنينا أو خصيا لأن العنة و الخصاء لا يمنعان من الوطء فكانت خلوتهما كخلوة غيرهما و اتصح خلوة المجبوب في قول أبي حنيفة و قال أبو يوسف و محمد لا تصح .
وجه قولهما أن الجب يمنع من الوطء فيمنع صحة الخلوة كالقرن و الرتق و أبي حنيفة أنه يتصور منه السحق و الإيلاد بهذا الطريق ألا ترى لو جاءت امرأته بولد يثبت النسب منه بالإجماع و استحقت كمال المهر إن طلقها و إن لم يوجد منه الوطء المطلق فيتصور في حقه ارتفاع المانع من وطء مثله فتصح خلوته و عليها العدة أما عند فلا يشكل لأن الخلوة إذا صحت أقيمت مقام الوطء في حق تأكد المهر ففي حق العدة أولى لأنه يحتاط في إيجابها و أما عندهما فقد ذكر الكرخي أن عليها العدة عندهما أيضا .
و قال أبو يوسف : إن كان المجبوب ينزل فعليها العدة لأن المجبوب قد يقذف بالماء فيصل إلى الرحم و يثبت نسب ولده فتجب العدة احتياطا فإن جاءت بولد ما بينها و بين سنتين لزمه و وجب لها جميع الصداق لأن الحكم بثبات النسب يكون حكما بالدخول فيتأكد المهر على قولهما أيضا و إن كان لا ينزل فلا عدة عليها فإن جاءت بولد لأقل من ستة أشهر ثبت نسبه و إلا فلا يثبت كالمطلقة قبل الدخول و كالمعتدة غذا أفرت بانقضاء العدة .
و أما المانع الشرعي : فهو أن يكون أحدهما صائما صوم رمضان أومحرما بحجة فريضة أو نفل أو بعمرة أو تكون المرأة حائضا أو نفساء لأن كل ذلك محرم للوطء فكان مانعا من الوطء شرعا و الحيض و النفاس يمنعان منه طبعا أيضا لأنهما أذى و الطبع السليم ينفر عن استعمال الأذى .
و أما في غير صوم رمضان فقد روى بشر عن أبي يوسف أن صوم التطوع و قضاء رضان و الكفارات و النذور لا يمنع صحة الخلوة و ذكر الحاكم الجليل في مختصره أن نفل الصوم كفرضه فصار في المسألة روايتان .
وجه رواية المختصر : أن صوم التطوع يحرم الفطر من غير عذر فصار كحج التطوع و إذا يمنع صحة الخلوة كذا هذا .
وجه رواية بشر : أن صوم غير رمضان مضمون بالقضاء لا غير فلم يكن قويا في المعنى بخلاف صوم رمضان فإنه يجب فيه القضاء و الكفارة و كذا حج التطوع فقوي المانع .
ووجه آخر من الفرق بين صوم التطوع و بين صوم رمضان أن تحريم الفطر في صوم التطوع من غير عذر غير مقطوع به لكونه محل الاجتهاد و كذا لزوم القضاء بالإفطار فلم يكن مانعا بيقين و حرمة الإفطار في صوم رمضان من غير عذر مقطوع بها و كذا لزوم القضاء فكان مانعا بيقين .
و أما المانع الطبعي : فهو أن يكون معهما ثالث لأن الإنسان يكره أن يجامع امرأته بحضرة ثالث و يستحي فينقبض عن الوطء بمشهد منه و سواء كان الثالث بصيرا أو أعمى يقظا أو نائما بالغا أو صبيا بعد أن كان عاقلا رجلا أو امرأة أجنبية أو منكوحته لأن الأعمى إن كان لا يبصر فيحس و النائم يحتمل أن يستيقظ ساعة فساعة فينقبض الإنسان عن الوطء مع حضوره و الصبي العاقل بمنزلة الرجل يحتشم الإنسان منه كما يحتشم من الرجل و إذا لم يكن عاقلا فهو ملحق بالبهائم لا يمتنع الإنسان عن الوطء لمكانه و لا يلتفت إليه و الإنسان يحتشم من المرأة الأجنبية و يستحي .
و كذا لا يحل لها النظر إليهما فيقبضان لمكانها و إذا كان هناك منكوحة له أخرى أو تزوج امرأتين فخلا بهما فلا يحل لها النظر إليهما فينقبض عنها و قد قالوا : إنه لا يحل لرجل أن يجامع امرأته بمشهد امرأة أخرى و لو كان الثالث جارية له فقد روي أن محمد كان يقول أولا : تصح خلوته ثم رجع و قال : لا تصح .
وجه قول الأول : أن الأمة ليست لها حرمة الحرة فلا يحتشم المولى منها و لذا يجوز لها النظر إليه فلا تمنعه عن الوطء .
وجه قوله الأخير : أن الأمة إن كان يجوز لها النظر إليه لا يجوز لها النظر إليها فتنقبض المراة لذلك و كذا قالوا لا يحل له الوطء بمشهد منها كما لا يحل بمشهد امراته الأخرى و لا خلوة في المسجد و الطريق و الصحراء و على سطح لا حجاب عليه لأن المسجد يجمع الناس للصلاة و لا يؤمن من الدخول عليه ساعة فساعة و كذا الوطء في المسجد حرام قال الله عز و جل : { و لا تباشروهن و أنتم عاكفون في المساجد } و الطريق ممر الناس لا تخلو عنهم عادة و ذلك يوجب الانقباض فيمنع الوطء و كذا الصحراء و السطح من غير حجاب لأن الإنسان ينقبض عن الوطء في مثله لاحتمال أن يحصل هناك ثالث أو ينظر إليه أحد معلوم ذلك بالعادة .
و لو خلا بها في حجلة أو قبة فأرخى الستر عليه فهو خلوة صحيحة لأن ذلك في معنى البيت ولا خلوة في النكاح الفاسد لأن الوطء فيه حرام فكان المانع الشرعي قائما لأن الخلوة مما يتاكد به المهر و تأكده بعد و جوبة يكون ولا يجب بالنكاح الفاسد شيء فلا يتصور التأكد و الله عز و جل أعلم .
ثم في كل موضع صحت الخلوة و تأكد المهر وجبت العدة لأن الخلوة الصحيحة لما أوجبت كمال المهر فلأن توجب العدة أولى لأن المهر خالص حق العبد و في العدة حق الله تعالى فيحتاط فيها و في كل موضع فسدت فيه الخلوة لا يجب كمال المهر و هل تجب العدة ؟ .
ينظر في ذلك إن كان الفساد لمانع حقيقي لا تجب لأنه لا يتصور الوطء مع وجود المانع الحقيقي منه و إن كان المانع شرعيا أو طبيعا تجب لأن الوطء مع وجود هذا النوع من المانع ممكن فيتهمان في الوطء فتجب العدة عند الطلاق احتياطا و الله عز و جل الموفق .
و أما التأكد بموت أحد الزوجين فنقول : لا خلاف في أن أحد الزوجين إذا مات حتف أنفه قبل الدخول في نكاح فيه تسمية أنه يتأكد المسمى سواء كانت المرأة حرة أو أمة لأن المهر كان واجبا بالعقد و العقد لم ينفسخ بالموت بل انتهى نهايته لأنه عقد للعمر فتنتهي نهايته عند انتهاء العمر و إذا انتهى بتأكيد فيما مضى و يتقرر بمنزلة الصوم يتقرر بمجيء الليل فيتقرر الواجب و لأن كل المهر لما وجب بنفس العقد صار دينا عليه و الموت لم يعرف مسقطا للدين في أصول الشرع فلا يسقط شيء منه بالموت كسائر الديون و كذا إذا قتل أحدهما سواء كان قتله أجنبي أو قتل أحدهما صاحبه أو قتل الزوج نفسه فأما إذا قتلت المرأة نفسها فإن كانت حرة لا تسقط عن الزوج شيء من المهر بل يتأكد المهر عندنا و عند زفر و الشافعي : يسقط المهر .
وجه قولهما : أنها بالقتل فوتت على الزوج حقه في المبدل فيسقط حقها في البدل كما إذا ارتدت قبل الدخول أو قبلت ابن زوجها أو أباه .
و لنا : أن القتل إنما يصير تفويتا للحق عند زهوق الروح لأنه إنما يصير قتلاص في حق المحل عند ذلك و المهر في تلك الحالة ملك الورثة فلا يحتمل السقوط بفعلها كما إذا قتلها زوجها أو أجنبي بخلاف الردة و التقبيل لأن المهر وقت التقبيل و الردة كان ملكها فاحتمل السقوط بفعلها كما إذا قتلها زوجها أو قتل المولى أمته سقط مهرها في قول أبي حنيفة .
و قال أبو يوسف و محمد : لا يسقط بل يتأكد .
وجه قولهما : أن الموت مؤكد للمهر و قد وجد الموت لأن المقتول ميت بأجله فيتأكد بالموت كما إذا قتلها أجنبي أو قتلها زوجها و كالحرة إذا قتلت نفسها و لأن الموت إنما أكد المهر لأنه ينتهي به النكاح و الشيء إذا انتهى نهايته يتقرر و هذا المعنى موجود في القتل لأنه ينتهي به النكاح فيتقرر به المبدل و تقرر المبدل يوجب تقرر البدل .
و لأبي حنيفة : أن من له البدل فوت المبدل على صاحبه و تفويت المبدل على صاحبه يوجب سقوط البدل كالبائع إذا أتلف المبيع قبل القبض أنه يسقط الثمن لما قلنا كذا هذا و لا شك أنه وجد تفويت المبدل ممن يستحق البدل لأن المستحق للمبدل هو المولى و قد أخرج المبدل عن كونه مملوكا للزوج و الدليل على أن هذا يوجب سقوط البدل أن الزوج لا يرضى بملك البدل عليه بعد فوات المبدل عن ملكه فكان إيفاء البدل عليه بعد زوال المبدل عن ملكه إضرارا به و الأصل في الضرر أن لا يكون فكان إقدام المولى على تفويت المبدل عن ملك الزوج و الحالة هذه إسقاطا للبدل دلالة فصار كما لو أسقطه نصا بالإبراء بخلاف الحرة إذا قتلت نفسها لأنها وقت فوات المبدل لم تكن مستحقة للبدل لانتقاله إلى الورثة على ما بينا و الإنسان لا يملك إسقاط حق غيره و ههنا بخلافه و لأن المهر وقت فوات المبدل على الزوج ملك المولى و حقه و الإنسان يملك التصرف في ملك نفسه استيفاء و إسقاطا فكان محتملا للسقوط بتفويت المبدل دلالة كما كان محتملا للسقوط بالإسقاط نصا بالإبراء و هو الجواب عما إذا قتلها زوجها أو أجنبي لأنه لا حق للأجنبي و لا للزوج في مهرها فلا يحتمل السقوط بإسقاطهما و لهذا لا يحتمل السقوط بإسقاطهما نصا فكيف يحتمل السقوط من طريق الدلالة و الدليل على التفرقة بين هذه الفصول أن قتل الحرة نفسها لا يتعلق به حكم من أحكام الدنيا فصار كموتها حتف أنفها حتى قال أبو حنيفة و محمد أنها تغسل و يصلى عليها كما لو ماتت حتف أنفها و قتل المولى أمته يتعلق به وجوب الكفارة و قتل الأجنبي إياها يتعلق به وجوب القصاص إن كان عمدا والدية و الكفارة إن كان خطأ فلم يكن قتلها بمنزلة الموت هذا إذا قتلها المولى فأما إذا قتلت نفسها فعن أبي حنيفة فيه روايتان و روى أبو يوسف عنه أنه لا مهر لها و روى محمد عنه أن لها المهر و هو قولهما .
وجه الرواية الأولى : أن قتلها نفسها بمنزلة قتل المولى إياها بدليل أن جنايتها كجنايته في باب الضمان لأنها مضمونة بمال المولى و لو قتلها المولى يسقط المهر عنده فكذا إذا قتلت نفسها .
وجه الرواية الأخرى : أن البدل حق المولى و ملكه فتفويت المبدل منها لا يوجب بطلان حق المولى و ملكه بخلاف جناية المولى و الدليل على التفرقة بين الجنايتين أن جنايتها على نفسها هدر بدليل أنه لا يتعلق بها حكم من أحكام الدنيا فالتحقت بالعدم و صارت كأنها ماتت حتف أنفها بخلاف جناية المولى عليها فإنها مضمونة بالكفارة و هي من أحكام الدنيا فكانت جنايته عليها معتبرة فلا تجعل بمنزلة الموت و الله عز و جل الموفق و إذا تأكد المهر بأحد المعاني التي ذكرناها لا يسقط بعد ذلك و إن كانت الفرقة من قبلها لأن البدل بعد تأكده لا يحتمل السقوط إلا بالإبراء كالثمن إذا تأكد بقبض المبيع و أما إذا مات أحد الزوجين في نكاح لا تسمية فيه فإنه يتأكد مهر المثل عند أصحابنا و هو مذهب عبد الله بن مسعود Bهما و عن علي Bه أن لها المتعة و به أخذ الشافعي إلا أنه قال متعتها ما استحقت من الميراث لا غير .
احتج من قال بوجوب المتعة بقوله تعالى : { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة و متعوهن } .
و قوله عز و جل : { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات } إلى قوله عز و جل { فمتعوهن } أمر سبحانه و تعالى بالمتعة من غير فصل بين حال الموت و غيرها و النص و إن ورد في الطلاق لكنه يكون واردا في الموت .
الا ترى أن النص ورد في صريح الطلاق ثم ثبت حكمه في الكنايات من الإبانة و التسريح و اللتحريم و نحو ذلك كذا ههنا .
و لنا : ما روينا عن معقل بن سنان أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قضى في بروع بنت واشق و قد مات عنها زوجها قبل أن يدخل بها بمهر المثل ] و لأن المعنى الذي له وجب كل المسمى بعد موت أحد الزوجين في نكاح فيه تسمية موجود في نكاح لا تسمية فيه و هو ما ذكرنا فيما لا تقدم و لا حجة له في الآية لأن فيها إيجاب المتعة في الطلاق لا في الموت فمن ادعى إلحاق الموت بالطلاق فلا بد له من دليل آخر