فصل : بيان شرائط النيابة في الحج .
و أما كيفية النيابة فيه فذكر في الأصل أن الحج يقع عن المحجوج عنه و روي عن محمد أن نفس الحج يقع عن الحاج و إنما للمحجوج عن ثواب النفقة وجه رواية محمد : أنه عبادة بدنية و مالية و البدن للحاج و المال للمحجوج عنه فما كان من البدن لصاحب البدن و ما كان بسبب المال يكون لصاحب المال و الدليل عليه أنه لو ارتكب شيئا من محظورات الإحرام فكفارته في ماله لا في مال المحجوج عنه و كذا لو أفسد الحج يجب عليه القضاء فدل أن نفس الحج يقع له إلا أن الشرع أقام ثواب نفقة الحج في حق العاجز عن الحج بنفسه مقام الحج بنفسه نظرا له و مرحمة عليه .
و جه رواية الأصل : ما روينا من حديث الخثعمية حيث قال لها النبي صلى الله عليه و سلم : [ حجي عن أبيك ] أمرها بالحج عن أبيها و لولا أن حجها يقع عن أبيها لما أمرها بالحج عنه و لأن النبي صلى الله عليه و سلم قاس دين الله تعالى بدين العباد بقوله : [ أرأيت لو كان على أبيك دين ] و ذلك تجزئ فيه النيابة و يقوم فعل النائب مقام فعل المنوب عنه كذا هذا .
و الدليل عليه أن الحاج يحتاج إلى نية المحجوج عنه كذا الإحرام و لو لم يقع نفس الحج عنه لكان لا يحتاج إلى نيته و الله أعلم .
و أما شرائط جواز النيابة : .
فمنها : أن يكون المحجوج عنه عاجزا عن أداء الحج بنفسه و له مال فإن كان قادرا على الأداء بنفسه بأن كان صحيح البدن و له مال لا يجوز حج غيره عنه لأنه إذا كان قادرا على الأداء ببدنه و له مال فالفرض يتعلق ببدنه لا بماله بل المال يكون شرطا و إذا تعلق الفرض ببدنه لا تجزئ فيه النيابة كالعبادات البدنية المحضة و كذا لو كان فقيرا صحيح البدن لا يجوز حج غيره عنه لأن المال من شرائط الوجوب فإذا لم يكن له مال لا يجب عليه أصلا فلا ينوب عنه غيره في أداء الواجب و لا واجب .
و منها : العجز المستدام من وقت الإحجاج إلى وقت الموت فإن زال قبل الموت لم يجز حج غيره عنه لأن جواز حج الغير ثبت بخلاف القياس لضرورة العجز الذي لا يرجى زواله فيتقيد الجواز به و على هذا يخرج المريض أو المحبوس إذا أحج عنه أن جوازه موقوف إن مات وهو مريض أو محبوس جاز و إن زال المرض أو الحبس قبل الموت لم يجز و الاحجاج من الزمن و الأعمى على أصل أبي حنيفة جائز لأن الزمانة و العمى لا يرجى زوالهما عادة فوجد الشرط و هو العجز المستدام إلى وقت الموت .
و منها : الأمر بالحج فلا يجوز حج الغير عنه بغير أمره لأن جوازه بطريق النيابة عنه و النيابة لا تثبت إلا بأمر إلا الوارث يحج عن مورثه بغير أمره فإنه يجوز إن شاء الله تعالى بالنص و لوجود الأمر هناك دلالة على ما نذكر إن شاء الله تعالى .
و منها : نية المحجوج عنه عند الإحرام لأن النائب يحج عنه لا عن نفسه فلا بد من نيته و الأفضل أن يقول لسانه : لبيك عن فلان كما إذ حج عن نفسه .
و منها : أن يكون حج المأمور بمال المحجوج عنه فإن تطوع الحاج عن بمال نفسه لم يجز عنه حتى يحج بماله و كذا إذا كان أوصى أن يحج عنه بماله و مات فتطوع عنه وارثه بمال نفسه لأن الفرض تعلق بماله فإذا لم يحج بماله لم يسقط عنه الفرض و لأن مذهب محمد أن نفس الحج يقع للحاج و إنما للمحجوج عنه ثواب النفقة فإذا لم ينفق من ماله شيء له رأسا .
و منها : الحج راكبا حتى لو أمره بالحج فحج ماشيا يضمن النفقة و يحج عنه راكبا لأن المفروض عليه هو الحج راكبا فينصرف مطلق الأمر بالحج إليه فإذا حج ماشيا فقد خالف فيضمن و سواء كان الحاج قد حج عن نفسه أو كان صرورة أنه يجوز في الحالين جميعا إلا أن الأفضل أنه قد حج عن نفسه .
و قال الشافعي : لا يجوز حج الصرورة عن غيره و يقع حجه عن نفسه و يضمن النفقة و احتج بما روي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم سمع رجلا يلبي عن شبرمة فقال له صلى الله عليه و سلم : [ و من شبرمة ] فقال : أخ لي أو صديق لي فقال صلى الله عليه و سلم : [ أحججت عن نفسك ] فقال : لا فقال صلى الله عليه و سلم : [ حج عن نفسك ثم عن شبرمة ] فالاستدلال به من وجهين : .
أحدهما : أنه سأله عن حجه عن نفسه و لولا أن الحكم يختلف لم يكن لسؤاله معنى .
و الثاني : أن أمره بالحج عن نفسه أولا ثم عن شبرمة فدل أنه لا يجوز الحج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه و لأن حجه عن نفسه فرض عليه و حجه عن غيره ليس بفرض فلا يجوز ترك الفرض بما ليس بفرض .
و لنا : حديث الخثعمية أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لها : [ حجي عن أبيك ] و لم يستفسر أنها كانت حجت عن نفسها أو كانت صرورة و لو كان الحكم يختلف لاستفسر و لأن الأداء عن نفسه لم يجب في وقت معين فالوقت كما يصلح لحجه عن نفسه يصلح لحجه عن غيره فإذا عينه لحجه عن غيره وقع عنه و لهذا قال أصحابنا : إن الصرورة إذا حج بنية النفل لأن الوقت لم يتعين للفرض بل يقبل الفرض و النفل فإذا عينه للنفل تعين له إلا أن عند إطلاق النية يقع عن الفرض لوجود نية الفرض بدلالة حاله إذ الظاهر أنه لا يقصد النفل و عليه الفرض فانصرف المطلق إلى المقيد بدلالة حاله لكن الدلالة إنما تعتبر عند عدم النص بخلافها فإذا نوى التطوع فقد وجد النص بخلافها فلا تعتبر الدلالة إلا أن الأفضل أن يكون قد حج عن نفسه لأنه بالحج عن غيره يصير تاركا إسقاط الفرض عن نفسه فيتمكن في هذا الإحجاج ضرب كراهة و لأنه إذا كان حج مرة كان أعرف بالمناسك و كذا هو أبعد عن محل الخلاف فكان أفضل و الحديث محمول على الأفضلية توفيقا بين الدلائل و سواء كان رجلا أو امرأة إلا أنه يكره إحجاج المرأة لكنه يجوز .
أما الجواز فلحديث الخثعمية .
و أما الكراهة فلأنه يدخل في حجها ضرب نقصان لأن المرأة لا تستوفي سنن الحج فإنها لا ترمل في الطواف و في السعي بين الصفا و المروة و لا تحلق و سواء كان حرا أو عبدا بإذن المولى لكنه يكره حجاج العبد .
أما الجواز فلأنه يعمل بالنيابة و ما تجوز فيه النيابة يستوي فيه الحر و العبد كالزكاة و نحوها .
و أما الكراهة : فلأنه ليس من أهل أداء الفرض عن نفسه فيكره أداؤه عن غيره و الله الموفق .
و أما بيان ما يصير به المأمور بالحج مخالفا و بيان حكمه إذا خالف فنقول : إذا أمر بحجة مفردة أو بعمرة مفردة فقرن فهو مخالف ضامن في قول أبي حنيفة و قال أبي يوسف و محمد : يجزي ذلك عن الآمر نستحسن و ندع القياس فيه و لا يضمن فيه دم القران على الحاج .
و جه قولهما : أنه فعل المأمور به و زاد خيرا فكان مأذونا في الزيادة دلالة فلم يكن مخالفا كمن قال لرجل : اشتر لي هذا العبد بألف درهم فاشتراه بخمسمائة أو قال : بع هذا العبد بألف درهم فباعه بألف و خمسمائة يجوز و ينفذ على الآمر لما لما قلنا كذا هذا و عليه دم القران لأن الحاج إذا قرن بإذن المحجوج عنه كان الدم على الحاج لما نذكر .
و لأبي حنيفة : أنه لم يأت بالمأمور به لأنه أمر بسفر يصرفه إلى الحج لا غير و لم يأت به فقد خالف أمر الآمر فضمن .
و لو أمره أن يحج عنه فاعتمر ضمن لأنه خالف و لو اعتمر ثم حج من مكة يضمن النفقة في قولهم جميعا لأمره له بالحج بسفر و قد أتى بالحج من غير سفر لأنه صرف سفره الأول إلى العمرة فكان مخالفا فيضمن النفقة و لو أمر بالحج عنه بجمع بين إحرام الحج و العمرة فأحرم بالحج عنه و أحرم بالعمرة عن نفسه فحج عنه و اعتمر عن نفسه صار مخالفا في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة و عن أبي يوسف أنه يقسم النفقة على الحج و العمرة و يطرح عن الحج ما أصاب العمرة و يجوز ما أصاب الحج .
و جه رواية أبي يوسف : أن المأمور فعل ما أمر به و هو الحج عن الأمر و زاده إحسانا حيث أسقط عنه بعض النفقة .
وجه ظاهر الرواية : أنه أمره بصرف كل السفر إلى الحج و لم يأت به لأنه أدى بالسفر حجا عن الآمر و عمرة عن نفسه فكان مخالفا و به تبين أنه فعل ما أمر به .
و قوله : إنه أحسن إليه حيث أسقط عنه بعض النفقة غير سديد لأن غرض الآمر في الحج عن الغير هو ثواب النفقة فإسقاطه لا يكون إحسانا بل يكون اساءة و لو أمره أن يعتمر فأحرم بالعمرة و اعتمر ثم أحرم بالحج بعد ذلك و حج عن نفسه لم يكن مخالفا لأنه فعل ما أمر به و هو أداء العمرة بالسفر و إنما فعل بعد ذلك الحج فاشتغاله به كاشتغاله بعمل آخر من التجارة و غيرها إلا أن النفقة مقدار مقامه للحج من ماله لأنه عمل لنفسه .
و روي ابن سماعة عن محمد C في الرقيات : إذا حج عن الميت و طاف لحجه و سعى ثم أضاف إليه عمرة عن نفسه لم يكن مخالفا لأن هذه العمرة واجبة الرفض لوقوعها على مخالفة السنة على ما ذكرنا في فصل القران فكان وجودها و العدم بمنزلة واحدة .
و لو كان جمع بينهما ثم أحرم بهما ثم لم يطف حتى وقف بعرفة و رفض العمرة لم ينفعه ذلك و هو مع ذلك مخالف لأنه لما أحرم بهما جميعا فقد صار مخالفا في ظاهر الرواية على ما ذكرنا فوقعت الحجة عن نفسه فلا يحتمل التغير بعد ذلك برفض العمرة .
و لو أمره رجل أن يحج عنه حجة و أمره رجل آخر أن يحج عنه فأحرم بحجة هذا لا يخلو عن أحد وجهين : إما أن أحرم بحجة عن أحدهما فإن أحرم بحجة عنهما جميعا فهو مخالف و يقع الحج عنه و يضمن النفقة لهما إن كان أنفق من مالهما لأن كل واحد منهما أمره بحج تام و لم يفعل فصار مخالفا لأمرهما فلم يقع حجة عنهما فيضمن لهما لأن كل واحد منهما لم يرض بإنفاق ماله فيضمن و إنما وقع الحج عن الحاج لأن الأصل أن يقع كل فعل عن فاعله و إنما يقع لغيره بجعله فإذا خالف لم يصر لغيره فبقي فعله له .
و لو أراد أن يجعله لأحدهما لم يملك ذلك بخلاف الابن إذا أحرم بحجة عن أبويه أنه يجزئه أن يجعله عن أحدهما لأن الابن غير مأمور بالحج عن الأبوين فلا تتحق مخالفة الآمر و إنما جعل ثواب الحج الواقع عن نفسه في الحقيقية لأبويه و كان من عزمه أن يجعل ثواب حجة لهما ثم نقض عزمه و جعله لأحدهما و .
ههنا بخلافه لأن الحاج متصرف بحكم الآمر و قد خالف أمرهما فلا يقع حجة لهما و لا لأحدهما .
و إن أحرم بحجة عن أحدهما فإن أحرم لأحدهما عينا وقع الحج عن الذي عينه و يضمن النفقة للأخر و هذا ظاهر .
و إن أحرم بحجة عن أحدهما غير عين فله أن يجعلهما عن أحدهما أيهما شاء ما لم يتصل بها الأداء في قول أبي حنيفة و محمد استحسانا .
و القياس : أن لا يجوز له ذلك و يقع الحج عن نفسه و يضمن النفقة لهما .
وجه قياس : انه خالف الأمر لأنه أمر بالحج لمعين و قد حج لمبهم و المبهم غير المعين فصار مخالفا و يضمن النفقة و يقع الحج عن نفسه لما ذكرنا بخلاف ما إذا احرم الابن بالحج عن احد أبويه أنه يصح و إن لم يكن معينا لما ذكرنا أن الابن في حجة لأبويه ليس متصرفا بحكم الآمر حتى يصير مخالفا للأمر بل هو يحج عن نفسه ثم يجعل ثواب حجه لأحدهما و ذلك جائز و ههنا بخلافه وجه الاستحسان : أنه قد صح من أصل أصحابنا أن الإحرام ليس من الأداء بل هو شرط جواز أداء الأفعال الحج فيقتضي تصور الأداء و الأداء متصور بواسطة التعيين فإذا جعله عن أحدهما قبل أن يتصل به شيء من أفعال الحج تعين له فيقع عنه فإن لم يجعلها عن أحدهما حتى طاف شوطا ثم أراد يجعلها عن أحدهما لم تجزعن واحد منهما لأنه إذا اتصل به الأداء تعذر تعيين القدر المؤدى قد مضى و انقضى فلا يتصور تعيينه فيقع عن نفسه و صار إحرامه واقعا له لاتصال الأداء به .
و إن أمره أحدهما بحجة و أمره الآخر بعمرة فإن أذنا له بالجمع و هو القران فجمع جاز لأنه أمر بسفر ينصرف بعضه إلى الحج و بعضه إلى العمرة و قد فعل ذلك فلم يصر مخالفا و إن لم يأذنا له بالجمع فجمع ذكر الكرخي أنه يجوز و ذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي أنه لا يجوز على قول أبي حنيفة لأنه خالف لأنه أمر بسفر ينصرف كله إلى الحج و قد صرفه كله إلى الحج و العمرة فصار مخالفا و إنما يصح هذا على ما روي عن أبي يوسف أن من حج عن غيره و اعتمر عن نفسه جاز .
و لو أمره أن يحج عنه فحج عنه ماشيا يضمن لأنه خالف لأن الأمر بالحج ينصرف إلى الحج المتعارف في الشرع و هو الحج راكبا لأن الله تعالى أمر بذلك فعند الإطلاق ينصرف إليه فإذا حج ماشيا فقد خالف فيضمن لما قلنا و لأن الذي يحصل للآمر من الأمر بالحج هو ثواب النفقة .
و النفقة في الركوب أكثر فكان الثواب فيه أوفر .
و لهذا قال محمد : إن حج على حمار كرهت له ذلك و الجمل أفضل لأن النفقة في ركوب الجمل أكثر فكان حصول المقصود فيه أكمل فكان أولى .
و إذ فعل المأمور بالحج ما يوجب الدم أو غيره فهو عليه و لو قرن عن الآمر بأمره فدم القران عليه .
و الحاصل أن جميع الدماء المتعلقة بالإحرام في مال المحجوج عنه كذا ذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي دم الإحصار و لم يذكر الاختلاف و كذا ذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي و لم يذكر الخلاف و ذكر في بعض نسخ الجامع الصغير أنه على الحاج عند أبي يوسف .
أما ما يجب بالجناية فلأنه هو الذي جنى فكان عليه الجزاء و لأنه أمر بحج خال عن الجناية فإذا جنى فقد خالف فعليه ضمان الخلاف .
و أما دم القران فلأنه دم نسك لأنه يجب شكرا أو سائر أفعال النسك على الحاج فكذا هذا النسك و أما دم الإحصار فلأن المحجوج عنه هو الذي أدخله في هذه العهدة فكان في هذه العهدة فكان من جنس النفقة و المؤنة و ذلك عليه كذا هذا فإن جامع الحاج عن غيره قبل الوقوف بعرفة فسد حجه و يمضي فيه و النفقة في ماله و يضمن ما أنفق من مال المحجوج عنه قبل ذلك و عليه القضاء من مال نفسه .
أما فساد الحج فلأن الجماع قبل الوقوف بعرفة مفسد للحج لما نذكر إن شاء الله تعالى في موضعه .
و الحجة الفاسدة يجب المضي فيها و يضمن ما أنفق من مال المحجوج عنه قبل ذلك و عليه القضاء من مال نفسه و يضمن ما أنفق من مال الآمر قبل ذلك لأنه خالف لأنه أمره بحجة صحيحة و هي الخالية من الجماع و لم يفعل ذلك فصار مخالفا فيضمن ما أنفق وما بقي ينفق من ماله لأن الحج وقع له و يقضي لأن من أفسد حجه يلزمه قضاؤه فإن فاته الحج يصنع ما يصنع فائت الحج بعد شروعه فيه و سنذكره في موضعه إن شاء الله .
و لا يضمن النفقة لأنه فاته بغير صنعه فلم يوجد منه الخلاف فلا يجب الضمان و عليه عن نفسه الحج من قابل لأن الحجة قد وجبت عليه بالشروع فإذا فاتت لزمه قضاؤها .
و هذا على قول محمد ظاهر لأن الحج عنده يقع عن الحاج و قالوا فيمن حج عن غيره فمرض في الطريق لم يجز له أن يدفع النفقة إلى من يحج عن الميت إلا أن يكون أذن له في ذلك لأنه مأمور بالحج لا بالإحجاج كأن لم يبلغ المال المدفع إليه النفقة فأنفق من مال نفسه و مال الآمر ينظر فإن بلغ مال الآمر الكراء و عامة النفقة فالحج عن الميت لا يكون مخالفا و إلا فهو ضامن و يكون الحج عن نفسه و يرد المال و الأصل فيه أن يعتبر الأكثر و يجعل الأقل تبعا للأكثر و قليل الانفاق من مال نفسه مما لا يمكن التحرز عنه من شربة ماء أو قليل زاد فلو اعتبر القليل مانعا من وقوع الحج عن الآمر يؤدي إلى سد باب الإحجاج فلا يعتبر و يعتبر الكثير .
و لو أحج رجلا يؤدي الحج و يقيم بمكة جاز لأن فرض الحج صار مؤديا بالفراغ عن أفعاله و الأفضل أن يحج ثم يعود إليه لأن الحاصل للآمر ثواب النفقة فمهما كانت النفقة أكثر كان الثواب أكثر و أوفر و إذا فرغ المأمور بالحج من الحج و نوى الإقامة خمسة عشر يوما فصاعدا أنفق من مال نفسه لأن نية الإقامة قد قد صحت فصار تاركا للسفر فلم يكن مأذونا بالانفاق من مال الآمر و لو أنفق ضمن لأنه أنفق مال غيره بغير إذنه فإن أقام أياما من غير نية الإقامة فقد قال أصحابنا : إنه إن أقام معتادة فالنفقة في مال المحجوج عنه و إن زاد على المعتاد فالنفقة من ماله حتى قالوا إذا أقام بعد الفراغ من الحج ثلاثة أيام ينفق من مال الآمر و إن زاد ينفق من مال نفسه .
و قالوا في الخراساني إذا جاء حاجا عن غيره فدخل بغداد فأقام بها إقامة معتادة مقدار ما يقيم الناس بها عادة فالنفقة في مال المحجوج عنه و إن أقام أكثر من ذلك فالنفقة في ماله و هذا كان في زمانهم لأنه كان أمن يتمكن الحاج من الخروج من مكة وحده أو مع نفر يسير فقدروا مدة الإقامة بها بعد الفراغ من الحج كما أذن النبي صلى الله عليه و سلم للمهاجر أن يقيم بمكة .
فأما في زماننا فلا يمكن الخروج للأفراد و الأحاد و لا لجماعة قليلة من مكة مع القافلة فما دام منتظرا خروج القافلة فنفقته في مال المحجوج عنه و كذا هذا في إقامته ببغداد أنه ما دام منتظرا لخروج القافلة فالنفقة في مال الآمر لتعذر سبقه بالخروج لما فيه من تعريض المال و النفس للهلاك فالتعويل في الذهاب و الإياب على ذهاب القافلة و إيابها .
فإن نوى إقامة خمسة عشر يوما فصاعدا حتى سقطت نفقته من مال الآمر ثم رجع بعد ذلك هل تعود نفقته في مال الآمر ذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي أنه تعود و لم يذكر الخلاف .
و ذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أن على قول محمد تعود و هو ظاهر الرواية و عند أبي يوسف : لا تعود و هذا إذا لم يكن اتخذ مكة دارا فأما إذا اتخذها دارا ثم عاد لا تعود النفقة في مال الآمر بلا خلاف .
وجه قول : أبي يوسف أنه إذا نوى الإقامة خمسة عشر يوما فصاعدا فقد انقطع حكم السفر فلا تعود بعد ذلك كما لو اتخذ مكة دارا .
وجه ظاهر الرواية : أن الإقامة ترك السفر لا قطعها و المتروك يعود فأما اتخاذ مكة دارا و التوطن بها فهو قطع السفر و المنقطع لا يعود و لو تعجل المأمور بالحج ليكون شهر رمضان بمكة فدخل محرما في شهر رمضان أو في ذي القعدة فنفقته في مال نفسه إلى عشر الأضحى فإذا جاء عشر الأضحى أنفق من مال الآمر كذا روى هشام عن محمد لأن المقام بمكة قبل الوقت الذي يدخلها الناس لا يحتاج إليه لأداء المناسك غالبا فلا تكون هذه الإقامة مأذونا فيها كالإقامة بعد الفراغ من الحج أكثر من المعتاد و لا يكون بما عجل مخالفا لأن الآمر ما عين له وقتا و التجارة و الإجارة لا يمنعان جواز الحج و يجوز حج التاجر و الأجير و المكاري لقوله عز و جل : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } قيل : الفضل التجارة و ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يتحرجون من التجارة في عشر ذي الحجة فلما كان الإسلام امتنع أهل الإسلام عن التجارة خوفا من ان يضر ذلك حجهم فرخص الله سبحانه و تعالى لهم طلب الفضل في الحج بهذه الآية .
وروي أن رجلا سأل ابن عمر Bه فقال : إنا قوم نكري و نزعم أن ليس لنا حج فقال : ألستم تحرمون قالوا : بلى قال : فأنتم حجاج جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فسأله عما سألتني عنه فقرأ هذه الآية : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } و لأن التجارة و الإجارة لا يمنعان من أركان الحج و شرائطها فلا يمنعان من الجواز و الله أعلم