القسم الثاني ـ فصل : و أما بيان سنن الحج و بيان ترتيبه .
و احتج بما روي أن رسول الله A [ أمر أصحابه بالإحرام يوم التروية ] فدل أن ذلك أفضل .
و لنا ما روي عن رسول الله A أنه قال : [ من أراد الحج فليعجل ] و أدنى درجات الأمر الندب و لأن التعجيل من باب المسارعة إلى العبادة فكان اولى و لأنه أشق على البدن لأنه إذا أحرم بالحج يحتاج إلى الاجتناب عن محظورات الإحرام و أفضل الأعمال أحمزها على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم و اما الحديث فإنما ندب إلى الإحرام بالحج يوم التروية لركن خاص اختار لهم الأيسر على الأفضل ألا ترى أنه أمرهم بفسخ إحرام الحج و أنه لا يفسخ اليوم .
و إذا أحرم المتمتع بالحج فلا يطوف بالبيت و لا يسعى في قول أبي حنيفة و محمد لأن طواف القدوم للحج لمن قدم مكة بإحرام الحج و التمتع إنما قدم مكة بإحرام العمرة لا بإحرام الحج و إنما يحرم للحج من مكة و طواف القدوم لا يكون بدون القدوم و كذلك لا يطوف و لا يسعى أيضا لأن السعي بدون الطواف غير مشروع و لأن المحل الأصلي للسعي ما بعد طواف الزيارة لأن السعي واجب و طواف الزيارة فرض و الواجب يصلح تبعا للفرض فأما طواف القدوم فسنة و الواجب لا يتبع السنة إلا أنه رخص تقديمه على محله الأصلي عقيب طواف القدوم فصار واجبا عقيبه بطريق الرخصة و إذا لم يوجد طواف القدوم يؤخر السعي إلى محله الأصلي فلا يجوز قبل طواف الزيارة .
و روى الحسن عن أبي حنيفة أن المتمتع إذا أحرم بالحج يوم التروية أو قبله فإن شاء طاف و سعى قبل أن يأتي إلى منى و هو أفضل و روى هشام عن محمد أنه طاف و سعى لا بأس به .
و وجه ذلك : أن هذا الطواف ليس بواجب بل هو سنة و قد ورد الشرع بوجوب السعي عقيبه و إن كان واجبا رخصة و تيسيرا في حق المفرد بالحج و القارن فكذا المتمتع و الجواب نعم أنه سنة لكنه سنة القدوم للحج لمن قدم بإحرام الحج و المتمتع لم يقدم مكة بإحرام الحج فلا يكون سنة في حقه و عن الحسن بن زياد : أنه فرق بينهما قبل الزوال و بعده فقال : إذا احرم يوم التروية طاف و سعى إلا أن يكون أحرم بعد الزوال .
و وجهه : أن بعد الزوال يلزمه الخروج إلى منى فلا يشتغل بغيره و قبل الزوال لا يلزمه الخروج فكان له أن يطوف و يسعى و الجواب ما ذكرنا و إذا فرغ المفرد بالحج أو القارن من السعي يقيم على إحرامه و يطوف طواف التطوع ماشيا إلى يوم التروية لأن الطواف خير موضوع كالصلاة فمن شاء استقل و من شاء استكثر و طواف التطوع أفضل من صلاة التطوع للغرباء و أما لأهل مكة فالصلاة أفضل لأن الغرباء بفوتهم الطواف إذا لا يمكنهم الطواف في كل مكان و لا تفوتهم الصلاة لأنه لا يمكن فعلها في كل مكان و أهل مكة لا يفوتهم الطواف و لا الصلاة فعند الاجتماع الصلاة أفضل و على هذا الغازي الحارس في دار الحرب أنه إن كان هناك من ينوب عنه في دار الحرب فصلاة التطوع أفضل له و إن لم يكن فالحراسة أفضل .
و لايرمل في هذا الطواف بل يمشي على هيئة و لا يسعى بعده بين الصفا و المروة غير السعي الأول و يصلي لكل اسبوع ركعتين في الوقت الذي لا يكره فيه التطوع و يكره الجمع بين اسبوعين من غير صلاة بينهما عند أبي حنيفة و محمد سواء انصرف عن شفع أو وتر .
و قال أبي يوسف : لا بأس به إذا انصرف عن وتر نحو أن ينصرف عن ثلاثة أسابيع أو عن خمسة أسابيع أو عن سبعة أسابيع .
و احتج بما روي عن عائشة Bها : أنها كانت تجمع بين الطواف ثم تصلي بعده ثم فرق أبي يوسف بين انصرافه عن شفع أو عن وتر فقال : إذا انصرف عن أسبوعين و ذلك أربعة عشر أو أربعة أسابيع و ذلك ثمانية و عشرون يكره و لو انصرف عن ثلاثة أو عن خمسة لا يكره لأن الأول شفع و الثاني وتر و أصل الطواف سبعة و هي وتر .
و لهما ك أن ترتيب الركعتين على الطواف كترتيب السعي عليه لأن كل واحد منهما واجب ثم لو جمع بين أسبوعين من الطواف و أخر السعي يكره فكذا إذا جمع بين أسبوعين منه و أخر الصلاة .
و أما حديث عائشة Bها فيحمل أنها فعلت ذلك لضرورة و عذر .
فإذا كان يوم التروية و هو اليوم من ذي الحجة يروح مع الناس إلى مني فيصلي بها الظهر و العصر و المغرب و العشاء و الفجر لما روي عن ابن عمر عن النبي A أنه قال : [ جاء جبريل إلى إبراهيم عليهما السلام يوم التريوة فخرج به إلى من فصلي به الظهر و العصر و المغرب و العشاء و الفجر ثم غدا به إلى عرفات ] .
و روي عن جابر Bه أنه قال : [ لما كان يوم التروية توجه النبي A إلى مني فصلى بها الظهر و العصر و المغرب و العشاء و الصبح ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس و سار إلى عرفات ] .
فإن دفع منها قبل طلوع الشمس جاز و الأول أفضل لما روينا فيخرج إلى عرفات على السكنية و الوقار فإذا انتهى إليها نزل بها حيث أحب إلا في بطن عرنة لما روي عنه A أنه قال : [ عرفات كلها مواقف إلا بطن عرنة ] و يغتسل يوم عرفة سنة كغسل يوم الجمعة و العيدين و عند الإحرام و ذكر في الأصل إن اغتسل فحسن و هذا يشير إلى الاستجاب ثم غسل يوم عرفة لأجل يوم عرفة أو لأجل الوقوف فيجوز أن يكون على الاختلاف الذي ذكرنا في غسل يوم الجمعة في كتاب الطهارة فإذا زالت الشمس صعد الإمام المنبر فأذن المؤذن و الإمام على المنبر في ظاهر الرواية فإذا فرغوا من الأذن قام الإمام و خطب خطبتين .
و عن أبي يوسف ثلاث روايات : روي عنه مثل قول أبي حنيفة و محمد و روي عنه أنه يؤذن المؤذن و الإمام في الفسطاط ثم يخرج بعد فراغ المؤذن من الأذن فيصعد المنبر و يخطب .
و روى الطحاوي عنه في باب خطب الحج : أن الإمام يبدأ بالخطبة قبل الأذن فإذا مضى صدر من خطبته أذن المؤذن ثم يتم خطبته بعد الأذن أما تقديم الخطبة على الصلاة فلأن النبي A قدمها على الصلاة و لأن المقصود من هذه الخطبة تعليم أحكام المناسك فلا بد من تقديمها ليعلموا و لأنه لو أخرها يتبادرؤ القوم إلى الوقوف و لا يستمعون فلا يحصل المقصود من هذه الخطبة .
ثم هذه الخطبة سنة و ليست بفريضة لو جمع بين الظهر و العصر فصلاهما من غير خطبة أجزاه بخلاف خطبة الجمعة لأنه لا يجوز الجمعة بدونها و الفرق أن هذه الخطبة لتعليم المناسك لا لجواز الجمع بين الصلاتين و فرضية خطبة الجمعة لقصر الصلاة و قيامها مقام البعض على ما قالت عائشة Bها : [ إنما قصرت الجمعة لمكان الخطبة و قصر الصلاة ترك شطرها ] و لا يجوز ترك الفرص إلا لأجل الفرض فكانت الخطبة فرضا و لا قصر ههنا لأن كل واحد من الفرضين يؤدي على الكمال و التمام فلم يكن الخطبة فرضا إلا أنه يكون مسيئا بترك الخطبة لأنه ترك السنة .
و لو خطب قبل الزوال أجزأه و قد أساء أما الجواز فلأتن هذه الخطبة ليست من شطر الصلاة فلا يشترط لها الوقت و أما الإساءة فلتركه السنة لإذ السنة أن تكون الخطبة بعد الزوال بخلاف خطبة الجمعة فإنه إذا خطب قبل الزوال لا تجوز الجمعة لأن الخطبة هناك من فرائض الجمعة ألا ترى أنه قصرت الجمعة لمكانها و لا يترك بعض الفروض إلا لأجل الفرض .
و أما الكلام في وقت صعود الإمام على المنبر أنه يصعد قبل الأذن أو بعده فوجه رواية أبي يوسف أن الصلاة التي تؤدي في هذا الوقت هي صلاة الظهر و العصر فيكون الأذان فيهما قبل خروج الإمام كما في سائر الصلوات و كما في الظهر و العصر في غير هذا المكان و الزمان و جه ظاهر الرواية أن هذه الخطبة لما كانت متقدمة على الصلاة كان هذا الأذان للخطبة فيكون بعد صعود الإمام على المنبر كخطبة لما كانت متقدمة على الصلاة كان هذا الأذان للخطبة فيكون بعد صعود الإمام على المنبر كخطبة الجمعة و قد خرج الجواب عما قاله أبو يوسف إن هذه صلاة الظهر و العصر لأنا نقول نعم و لكن نقدم عليها الخطبة فيكون و قت الأذن بعد ما صعد الإمام المنبر للخطبة كما في خطبة الجمعة فإذا فرغ المؤذنون من الأذان قام الإمام و خطب خطبتين قائما بينهما بجلسة خفيفة كما يفصل في خطبة الجمعة .
وصفة الخطبة هي أن يحمد الله تعالى و يثني عليه و يكبر و يهلل و يعظ الناس الناس فيأمرهم الله عز و جل و يناهم عما نهاهم الله عنه و يعلمهم مناسك الحجلأن الخطبة في الأصل وضعت لما ذكرنا من الحمد و الثناء و التهليل و التكبير و الوعظ و التذكير و يزاد في هذه الخطبة تعليم معالم الحج لحاجة الحجاج إلى ذلك ليعلموا الوقوف بعرفة و الإفاضة منها و الوقوف بمزدلفة فإذا فرغ من الخطبة أقام المؤذن فصلى الإمام بهم صلاة الظهر ثم يقوم المؤذن فيقيمون للعصر فيصلي بهم الظهر و العصر بأذان واحد و إقامتين و لا يشتغل الإمام و القوم بالسنن و التطوع فيما بينهما [ لأن النبي A بينهما بعرفة بأذان واحد و إقامتين و لم ينتقل و لا بعدهما مع حرصه على النوافل ] .
فإن اشتغلوا فيما بينهما بتطوع أ و غيره أعادوا الأذان للعصر الأصل أن يؤذن لكل مكتوبة و إنما عرف ترك الأذان بفعل النبي A و أنه لم يشتغل فيما بين الظهر و العصر بالتطوع و لا بغيره فبقي الأمر عند الاشتغال على الأصل و يخفي الإمام القراءة فيهما بخلاف الجمعة و العيدين فإنه يجهر فيما بالقراءة لأن الجهر بالقراءة هناك من الشعائر و السبيل في الشعائر إشهارها في الجهر زيادة إشهاد فشرعت تلك الصلاة كذلك فأما الظهر و العصر فهما على حالهما لم يتغيرا لأنهما كظهر سائر الأيام و عصر سائر الأيام و عصر سائر الأيام و الحادث ليس إلا اجتماع الناس و اجتماعهم للوقوف لا الصلاة و إنما اجتماعهم في حق الصلاة حصل اتفاقا .
ثم إن كان الإمام مقيما من أهل مكة يتم كل واحدة من الصلاتين أربعا و القوم يتمون معه و إن كانوا مسافرين لأن المسافر إذا اقتدى بالمقيم في الوقت يلزمه الإتمام لأنه بالاقتداء بالإمام صار تابعا له في هذه الصلاة و إن كان الإمام مسافرا يصلي كل واحد من الصلاتين ركعتين ركعتين فإذا سلم يقول لعهم أتموا صلاتكم يا أهل مكة فإنا قوم سفر .
ثم لجواز الجمع أعني تقديم العصر على وقتها و أداءها في وقت الظهر شرائط بعضها متفق عليه و بعضها مختلف فيه أما المتفق عليه قهو شرطان .
أحدهما : أن يكون أداؤها عقيب الظهر لا يجوز تقديمها عليها لأنها شرعت مرتبة على الظهر فلا يسقط الترتيب إلا بأسباب مسقطة و لم توجد فلا يسقط فلزم مراعاة الترتيب .
و الثاني : أن تكون مرتبة على ظهر جائزة استحسانا حتى لو صلى الإمام بالناس الظهر و العصر في يوم غيم ثم استبان لهم أن الظهر وقعت قبل الزوال و العصر بعد الزوال فعليهم إعادة الظهر و العصر جميعا استحسانا .
و القياس : أن لا يكون هذا شرطا و ليس عليه إلا إعادة الظهر .
وجه القياس : الاعتبار بسائر الأيام فإنه إذا صلى العصر في سائر الأيام على ظن أنه صلى الظهر ثم تبين أنه لم يعيد الظهر خاصة كذا ههنا و الجامع أنه صلى العصر على ظن أنه ليس عليه إلا إعادة الظهر فأشبه الباسي و الناسي عذر مسقط للترتيب .
وجه الاستحسان : أن العصر مؤداة قبل وقتها حقيقة فالأصل أن لا يجوز أداء العبادة المؤقتة قبل وقتها و إنما عرفنا جوازها بالنص مرتبة على ظهر جائزة فإذا لم تجز بقي الأمر فيها على الأصل .
و أما المختلف فيه فمنها أن يكون أداء الصلاتين بالجماعة عند أبي حنيفة حتى لو صلى العصر وحده أو الظهر وحده لا تجوز العصر قبل وقتها عنده و عند أبي يوسف و محمد هذا ليس بشرط و يجوز تقديمها على وقتها .
وجه قولهما : أن جواز التقديم لصيانة الوقوف بعرفة لأن أداء العصر في وقتها يحول بينه و بين الوقوف و هذا المعنى لا يوجب الفصل بين الوحدان و الجماعة و لأبي حنيفة أن الجواز ثبت معدولا به عن الأصل لأنها عبادة مؤقتة و العبادات المؤقتة لا يجوز تقديمها على أوقاتها إلا أن جواز تقديم العصر على وقتها ثبت بالنص غير معقول المعنى فيراعى فيه عين ما وردى النص ورد بجواز أدء العصر كاملا مرتبا على الظهر كامل و هي المؤداة بالجماعة و المؤدة لا بجامعة تساويها في الفصيلة فلا يكون في معنى المنصوص عليه .
و قولهما : أن الجواز ثبت لصيانة الوقوف ممنوع و لا يجوز أن يكون معلولا به لأن الصلاة لا تنافي الوقوف لأنها في نفسها وقوف و الشيء لا ينافي نفسه و إنما نصا غير معقول المعنى فيتبع فيه مورد النص و هو ما ذكرنا و لم يوجد و لو أدرك ركعة من كل واحدة من الصلاتين مع الإمام بأن أدرك ركعة من الظهر وهو ما ذكرنا دخل في العصر فقام الرجل و قضى ما فاته من الظهر فلما فرغ من الظهر دخل في صلاة الإمام في العصر و أدرك شيئا من كل واحدة من الصلاتين مع الإمام جاز له تقديم العصر بلا خلاف لأنه أدرك فضيلة الجماعة فتقع العصر مرتبة على ظهر كامل .
و منها : أن يكون اداء الصلاتين بغمام و هو الخليفة أو نائبه في قول أبي خنيفة حتى لو صلى الظهر بجماعة لكن لا مع الإمام و العصر مع الإمام لم تجز العصر عنده و عندهما هذا ليس بشرط .
و الصحيح قول أبي حنيفة لما ذكرنا أن جواز التقديم ثبت معدولا به عن الأصل مرتبا على ظهر كامل و هي المؤادة بالجماعة مع الإمام أو نائبه فالمؤادة بجماعة من غير إمام أو نائبة لا تكون مثلها في الفضيلة فلا تكون في معنى مورد النص .
و لو أحدث الإمام بعد ما خطب فأمر رجلا بالصلاة جاز له أن يصلي بهم الصلاتين جميعا سواء شهد المأمور الخطبة أو لم يشهد بخلاف الجمعة لأن الخطبة ليست هناك من شرائط جواز الجمعة و ههنا الخطبة ليست بشرط لجواز الجمع بين الصلاتين و الفرق ما بينا فإن فلم يأمر الإمام أحدا فتقدم واحد من عرض النس و صلى بهم الصلاتين جميعا لم يجز الجمع في قول أبي حنيفة لأن الإمام أو نائبة شرط عنده و لم يوجد و عندهما يجوز و إن كان المتقدم رجلا من ذي سلطان كالقاضي و صاحب الشرط جاز لأنه نائب الإمام فإن كان الإمام سبقه الحدث في الظهر فاستخلف رجلا فإنه يصلي بهم الظهر و العصر لأنه قائم مقام الإمام فإنم فرغ من العصر قبل ان يرجع الإمام فإن الإمام لا يصلي العصر إلا في وقتها لأنه لما استخلف صار كواحد من المؤتمين و المؤتم إذا صلى الظهر مع الإمام و لم يصل العصر معه لا يصلي العصر إلا في وقتها كذا هذا .
و منها : أن يكون محرما بالحج حالا أداء الصلاتين جميعا حتى لو صلى الظهر بجماعة مع الإمام وهو حلال من أهل مكة ثم أحرم للحج لا يجوز أن يصلي العصر إلا فيوقتها كذا ذكر في نوادر الصلاة و روي عن أبي حنيفة في غير رواية الأصول أنه يجوز و هو قول زفر و الصحيح رواية النوادر لأن العصر شرعت مرتبة على ظهر كامل و هو ظهر المحرم في الفضيلة فلا يجوز ترتيب العصر على ظهر هي دون المنصوص عليه .
و على هذا إذا صلى الظهر مع الإمام و هو محرم لكن بإحرام العمرة ثم أحرم بالحج لا يجزئه العصر إلا في وقتها و عند زفر يجوز كما في المسألة الأولى و الصحيح قولنا لأن ظهر المحرم بالعمرة لا يكون مثل الظهر المحرم بالحج في الفضيلة فلا يكون أداء العصر في معنى مورد النص فلا تجوز إلا في وقتها لو نفر الناس عن الإمام فصلى وحده الصلاتين أجزأه .
ودلت هذه المسألة على أن الشرط في الحقيقة هو الإمام عند أبي حنيفة لا الجماعة فإن الصلاتين جازتا للإمام و لا جماعة فتبنى المسائل عليه إذ هو أقرب غلى الصيغة و لا يلزمه على هذا ما إذ سبق الإمام الحدث في صلاة الظهر فاستخلف رجلا و ذهب الإمام ليتوطأ فصلى الخليفة الظهر و العصر ثم جاء الإمامى أنه لا يجوز له أن يصلي العصر إلا في وقتها لأن عدم الجواز هناك ليس لعدم الجماعة بل لعدم الإمام لأنه خرج عن أن يكون إماما فصار كواحد من المؤتمين أو يقال الجماعة شرط الجمع عند أبي حنيفة C تعالى لكن في حق غير الإمام لا في الحق الإمام و الله تعالى الموفق .
فإن مات الإمام فصلى بالناس خليفته جاز لأن موت الإمام لا يوجب بطلان ولاية خلفائه كولاية السلطانة و القضاء فإذا فرغ الإمام من الصلاة راح إلى الموقف عقيب الصلاة و راح الناس معه لأن النبي A راح إليه عقيب الصلاة .
و يرفع الأيدي بسطا كما يستقبل الداعي بيده و وجهه لما روي عن ابن عباس Bه أنه قال : [ رأيت رسول الله A يدعو بعرفات باسطا يديه في نحره كاستطعام المسكين ] فيقف الإمام و الناس إلى غروب الشمس يكبرون و يهللون و يحمدون الله تعالى و ينثون عليه و يصلون على النبي A و يسألون الله تعالى حوائجهم و يتضرعون إليه بالدعاء لما روي عن النبي A أنه قال : [ أفضل الدعاء دعاء أهل عرفة أفضل ما قلت و قالت الأنبياء قبلي عشية يوم عرفة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد يحيي و يميت و هو حي لا يموت بيده الخير و هو على كل شيء قدير ] .
و عن علي Bه أن النبي A قال : [ إن أكثر دعائي و دعاء الأنبياء قبلي عشية يوم عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد يحيي و يميت و هو على كل شيء قدير اللهم اجعل في قلبي نزرا و في سمعي نزرا و في بصري نورا اللهم اشرح لي صدري و يسر لي أمري و أعوذ بك من و سواس الصدور و سيآت الأمور و فتنة الفقر اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل و شر ما تهب به الرياح ] .
و ليس عن أصحابنا فيه دعاء موقت لأن الإنسان يدعو بما شاء و لأن توفيت الدعاء يذهب بالرقة لأنه يجري على لسانه من غير قصده فيبعد عن الإجابة و يلي في موقفه ساعة بعد ساعة و لا يقطع التلبية و هذا قول عامة العلماء و قال مالك : إذا وقف بعرفة يقطع التلبية و الصحيح قول العامة لما روي : [ أن رسول الله A لبى حتى رمى جمرة العقبة ] و روي عن عبد الله بن مسعود Bه أنه لبى عشية يوم عرفة فقيل له ليس هذا موضع التلبية فقال : [ أجهل الناس أم نسوا فو الذي بعث محمدا بالحق لقد حججت مع رسول الله A فما ترك التلبية حتى رمى جمرة العقبة إلا أن يخللها أو يخلطها بتكبير و تهليل ] و لأن التلبية ذكر يؤتى به في ابتداء هذه العبادة كالتكبير إلا أنا تركنا القياس فيما بعد رمي جمرة العقبة أو ما يقوم مقام الرمي في القطع بالإجماع فبقي الأمر فيما قبل ذلك على أصل القياس .
و سواء كان مفردا بالحج أو قارنا أو متمتعا بخلاف المفرد بالمعمرة أنه يقطع التلبية إذا استلم الحجر حين يأخذ في طواف العمرة لأن الطواف ركن في العمرة فأشبه طوف الزيارة في الحج و هناك يقطع التلبية قبل الطواف كذا ههنا و الأفضل أن يكون في الموقف مصتقبل القبلة لما روي عن النبي A أنه قال : [ خير المجالس ما استقبل به القبلة ] .
و روي عن جابر Bه أنه قال : [ ركب رسول الله A حتى أتى الموقف فاستقبل به القبلة فلم يزل وافقا حتى غربت الشمس ] فإن انحرف قليلا لم يضره لأن الوقوف ليس بصلاة و كذا لو وقف و هو محدث أو جنب لم يضره لما مر أن الوقوف عبادة لا يتعلق بالبيت فلا يشترط الطهارة كرمي الجمار .
و الأفضل للإمام أن يقف على راحلته [ لأن النبي A وقف راكبا ] و كلما قرب في وقوفه من الإمام فهو أفضل لأن الإمام يعلم الناس و يدعو فكلما كان أقرب كان أمكن من السماع .
و عرفات كلها موقف إلا بطن عرنة فإنه يكره الوقوف فيه لما ذكرنا في بيان مكان الوقوف فيقف إلى غروب الشمس فإذا غربت الشمس دفع الإمام و الناس معه و لا يدفع أحد قبل غروب الشمس لا الإمام و لا غيره لما مر أن الوقوف إلى غروب الشمس واجب .
و روي عن النبي A أنه خطب عشية عرفة فقال : [ أما بعد فإن هذا يوم الحج الأكبر و إن الجاهلية كانت تدفع من ههنا و الشمس على رؤوس الرجال فخالفوهم و أمر النبي A بالدفع منه بعد الغروب ] فإن خاف بعض القوم الزحام أو كانت به علة فيقدم قبل الإمام قليلا و لم يجاوز حد عرفة فلا بأس به لأنه إذا لم يجاوز حد عرفة فهو في مكان الوقوف و قد دفع الضرر عن نفسه و إن ثبت على مكانه حتى يدفع الإمام فهو أفضل لقوله تعالى : { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } .
و ينبغي للناس أن يدفعوا و عليهم السكينة و الوقار حتى يأتوا مزدلفة لما روي : [ أن النبي A أفاض من عرفة و عليه السكينة حتى روي أنه كان يكبح ناقته ] .
و روي أنه لما دفع من عرفات فقال : [ أيها الناس إن البر ليس في إيجاف الخيل و لا في أبضاع الإبل بل على هينتكم ] و لأن هذا مشي إلى الصلاة لأنهم يأتون مزدلفة ليصلوا بها المغرب و العشاء و قد قال النبي A : [ إذا أتيتم الصلاة فأتوها و أنتم تمشون و لا تأتوها و أنتم تسعون و عليكم السكينة و الوقار ] فإن أبطأ الإمام بالدفع و تبين للناس الليل دفعوا قبل الإمام لأنه إذا تبين الليل فقد جاء و أن الدفع و الإمام بالتأخير ترك السنة فلا ينبغي لهم أن يتركوها .
و إذا أتى مزدلفة بنزل حيث شاء عن يمين الطريق أو عن يساره و لا ينزل على قارعة الطريق و لا في وادي محسر لقول النبي A : [ مزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر ] لقول النبي A : [ مزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر ] و إنما لا ينزل على الطريق لأنه يمنع الناس على الجواز فيتأذون به فإذا دخل وقت العشاء يؤذن المؤذن و يقيم فيصلي الإمام بهم صلاة المغرب في وقت صلاة العشاء ثم يصلي بهم صلاة العشاء بأذان واحد و إقامة واحدة في قول أصحابنا الثلاثة .
و قال زفر : بأذان واحد و إقامتين .
و قال الشافعي : بأذانين و إقامة واحدة احتج زفر بما روي : [ أن رسول الله A صلى المغرب و العشاء بمزدلفة بإقامتين ] و لأن هذا أحد نوعي الجمع فيعتبر بالنوع الآخر و هو الجمع بعرفة و الجمع هناك بأذان واحد و إقامتين كذا ههنا .
و لنا : ما روي عن عبد الله بن عمر و خزيمة بن ثابت Bهما [ أن النبي A صلى المغرب و العشاء بمزدلفة بأذان واحد و إقامة واحدة ] .
عن أبي أيوب الأنصاري Bه قال : [ صليتهما مع رسول الله A بأذان واحد و إقامة واحدة ] و ما احتج به زفر محمول على الأذان و الإقامة فيسمى الأذان و إقامة كما يقال : سنة العمرين و يراد به سنة أبي بكر و عمر Bهما و قال A : [ بين كل أذانين صلاة لمن شاء إلا المغرب ] و أراد به الأذان و الإقامة كذا ههنا و القياس علىالجمع الآخر غير سديد لأن هناك الصلاة الثانية و هي العصر تؤدي في غير وقتها فيقع الحاجة إلى إقامة أخرى للإعلام بالشروع فيها و الصلاة الثانية ههنا و هي العشاء تؤدي في وقتها فيستغني عن تجديد الإعلام كالوتر مع العشاء و لا يتشاغل بينهما بتطوع و لا بغيره [ لأن النبي A لم يتشاغل بينهما بتطوع و لا بغيره ] فإن تطوع بينهما أو تشاغل بشيء أعاد الإقامة للعشاء لأنها انقطعت عن الإعلام الأول فاحتجت إلى إعلام آخر فإن صلى المغرب وحده و العشاء وحده أجزأه بخلاف الظهر و العصر بعرفة على قول أبي حنيفة أنه لا يجوز إلا بجماعة عنده .
و الفرق له أن المغرب تؤدي فيما هو وقتها في الجملة إن لم يكن وقت أدائها فكان الجمع ههنا بتأخير المغرب عن وقت أداتها فيجوز فعلها وحده كما لو تأخرت عنه بسبب أخر قضاه في وقت العشاء وحده و العصر هناك تؤدي فيما ليس و فيها أصلا و رأسا فلا يجوز إذ لا جواز للصلاة قبل وقتها و إنما عرفنا جوازها بالشرع و إنما ورد الشرع بها بجماعة فيتبع فيها مورد الشرع .
و الأفضل أن يصليها مع الإمام بجماعة لأن الصلاة بجماعة أفضل و لو صلى المغرب بعد غروب الشمس قبل أن يأتي مزدلفة فإن كان يمكنه أن يأتي مزدلفة قبل طلوع الفجر لم تجز صلاته و عليه إعادتها ما لم يطلع الفجر في قول أبي حنيفة و محمد و زفر و الحسن .
و قال أبي يوسف : تجزئه و قد أساء و على هذا الخلاف إذا صلى العشاء في الطريق بعد دخول وقتها .
وجه قوله : أن أدى المغرب و العشاء في وقتهما لأنه ثبت كون هذا الوقت لهما بالكتاب العزيز و السنن المشهورة المطلقة عن المكان على ما ذكرنا في كتاب الصلاة فيجوز كما لو أداها في غير ليلة المزدلفة إلا أن التأخير سنة و ترك السنة لا يسلب الجواز بل يوجب الإساءة و لهما ما روي أن رسول الله A لما دفع من عرفات و كان أسامة بن زيد Bه رديف رسول الله A قال : [ فلما بلغ الشعب الأيسر الذي دون المزدلفة أناخ فبال ثم جاء فصببت عليه الوضوء فتوضأ و ضوءا خفيفا فقلت : الصلاة يا رسول الله فقال : الصلاة أمامك ] و روي أنه A قال : [ المصلى أمامك فجاء مزدلفة فتوضأ فأسبغ الضووء ] فدل الحديث على اختصاص جوازها في حال الاختيار و الإمكان بزمان و مكان و هو وقت العشاء بمزدلفة و لم يوجد فلا يجوز و يؤمر بالإعادة في وقتها و مكنها ما دام الوقت قائما فإن لم يعد حتى طلع الفجر أعاد إلى الجواز عندهما أيضا لأن الكتاب الكريم و السنن المشهورة تقتضي الجواز لأنها تقتضي كون الوقت و قتا لها و إنها مطلقة عن المكان .
وحديث أسامة Bه يقتضي عدم الجواز و أنه أخبار الاحاد و لا يجوز العمل بخبر الواحد على وجه يتضمن بطلان العمل بالكتاب و السنن المشهورة فيجمع بينهما فيعمل بخبر الواحد فيما قبل طلوع الفجر و يؤمر بالإعادة و يعمل بالكتاب العزيز و السنن المشهورة فيما بعد طلوعه فلا نأمره بالإعادة عملا بالدلائل بقدر الإمكان .
هذا إذا كان يمكنه أن يأتي مزدلفة قبل طلوع الفجر فأما إذا خشيء أن يطلع الفجر قبل أن يصل إلى مزدلفة لأجل ضيق الوقت بأن كان في آخر الليل بحيث يطلع الفجر قبل أن يأتي مزدلفة فإنه يجوز بلا خلاف .
هكذا روى الحسن عن أبي حنيفة لأن بطلوع الفجر يفوت وقت الجمع فكان في تقديم الصلاة صيانتها عن الفوات فإن كان لا يخشى الفوات لأجل ضيق الوقت و لكنه ضل عن الطريق لا يصلي بل يؤخر إلى أن يخاف طلوع الفجر لو لم يصل فعند ذلك يصلي لما ذكرنا و الله الموفق .
و يبيت ليلة المزدلفة بمزدلفة [ لأن رسول الله A بات بها ] فإن مر بها مارا بعد طلوع الفجر من غير أن يبيت بها فلا شيء عليه و يكون مسيئا و إنما لا يلزمه شيء لأنه أتى بالركن و هو كينونته بمزدلفة بعد طلوع الفجر لكنه يكون مسيئا لتركه السنة و هو البيوتة بها فإذا طلع الفجر صلى الإمام بهم صلاة الفجر بغلس لما روي عن عبد الله بن مسعود Bه أنه قال : [ ما رأيت رسول الله A صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاة العصر بعرفة و صلاة المغرب بجمع و صلاة الفجر يومئذ فإنه صلاها قبل وقتها بغلس ] أي صلاها قبل وقتها المستحب بغلس و لأن الفائت بالتغليس فضيلة الإسفار و إنها ممكن الاستدراك في كل يوم فأما فضيلة الوقوف فلا تستدرك في غير ذلك اليوم فإذا صلى الإمام بهم وقف بالناس و وقفوا وراءه أو معه و الأفضل أن يكون موقفهم على الجبل الذي يقال له قزح و هو تأويل ابن عباس للمشعر الحرام أنه الجبل وما حوله و عند عامة أهل التأويل المشعر الحرام هو مزدلفة فيقفون إلى أن يسفر جدا يدعون الله تعالى و يكبرون و يهللون و يحمدون الله تعالى و يثنون عليه و يصلون على النبي A و يسألون حوائجهم ثم يدفع منها إلى منى قبل طلوع الشمس لما روي عن النبي A أنه قال : [ إن الجاهلية كانت تنفر من هذا المقام و الشمس على رؤوس الجبال فخالفوهم فأفاض قبل طلوع الشمس ] و قد كانت الجاهلية تقول بمزدلفة أشرق ثبير كيما نغير و هو جبل عال تطلع عليه الشمس قبل كل موضع فخالفهم رسول الله A فدفع قبل طلوع الشمس .
و إن دفع بعد طلوع الشمس قبل أن يصلي الناس الفجر فقد أساء و لا شيء عليه أما الإساءة فلأن السنة أن يصلي الفجر و يقف ثم يفيض فإذا لم يفعل فقد ترك السنة فيكون مسيئا و أما عدم لزوم شيء فلأنه وجد منه الركن و هو الوقوف و لو ساعة و إذا فاض من جمع دفع على هينته [ لأن النبي A كذا فعل ] و يأخذ حصا الجمار من مزدلفة أو من الطريق لما روي النبي A أمر ابن عباس Bهما أن يأخذ الحصى من مزدلفة و عليه فعل المسلمين و هو أحد نوعي الإجماع و إن رمى بحصاة أخذها من الجمرة أجزأه و قد أساء و قال مالك : لا تجزئه لأنها حصى المستعملة .
و لنا قوله A : [ ارم و لا حرج مطلقا ] و تعليل مالك لا يستقيم على أصله لأن الماء المستعمل عنده طاهر و طهور حتى يجوز الوضوء به فالحجارة المستعملة أولى و إنما كره ذلك عندنا لما روي أنه سئل ابن عباس فقيل له : [ إن من عهد إبراهيم إلى يومنا هذا في الجاهلية ] و الإسلام يرمي الناس و ليس ههنا إلا هذا القدر ففاق كل حصاة تقبل فإنها ترفع و ما لا يقبل فإنه يبقى و مثل هذا لا يعرف إلا سماعا من رسول الله A فيكره أن يرمى بحصاة لم تقبل فيأتي مني فيرمي جمرة العقدة سبع حصيات لما روي : [ أن رسول الله A أتى منى لم يعرج على شيء حتى رمي جمرة العقبة سبع حصيات ]