القسم الأول من بيان شرائط وجوب القصاص .
أما الأول فنقول : شرائط وجوب القصاص أنواع بعضها يعم النفس وما دونها وبعضها يخص ما دون النفس .
أما الشرائط العامة فما ذكرنا في بيان شرائط وجوب القصاص في النفس من كون الجاني عاقلا بالغا متعمدا مختارا وكون المجني عليه معصوما مطلقا لا يكون جزء الجاني ولا ملكه وكون الجناية حاصلة على طريق المباشرة لما ذكرنا من الدلائل .
وأما الشرائط التي تخص الجناية فيما دون النفس فمنها المماثلة بين المحلين في المنافع والفعلين وبين الأرشين لأن المماثلة فيما دون النفس معتبرة بالقدر الممكن فانعدامها يمنع وجوب القصاص والدليل على أن المماثلة فيما دون النفس معتبرة شرعا النص والمعقول .
أما النص فقوله تبارك وتعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين } .
إلى قوله جل شأنه : { والجروح قصاص } .
فإن قيل : ليس في كتاب الله تبارك وتعالى بيان حكم ما دون النفس إلا في هذه الآية الشريفة وأنه إخبار عن حكم التوراة فيكون شريعة من قبلنا وشريعة من قبلنا لا تلزمنا .
فالجواب : أن من القراء المعروفين من ابتدأ الكلام من قوله عز شأنه { والعين بالعين } بالرفع إلى قوله تبارك وتعالى : { فمن تصدق به } على ابتداء الإيجاب لا على الإخبار عما في التوراة فكان هذا شريعتنا لا شريعة من قبلنا على أن هذا إن كان إخبارا عن شريعة التوراة لكن لم يثبت نسخة بكتابنا ولا بسنة رسولنا صلى الله عليه و سلم فيصير شريعة لنبينا صلى الله عليه و سلم مبتدأة فيلزمنا العمل به على أنه شريعة رسولنا صلى الله عليه و سلم لا على أنه شريعة من قبله من الرسل على ما عرف في أصول الفقه إلا أنه لم يذكر وجوب القصاص في اليد والرجل نصا لكن الإيجاب في العين والأنف والأذن والسن إيجاب في اليد والرجل دلالة لأنه لا ينتفع بالمذكور من السمع والبصر والشم والسن إلا صاحبه .
ويجوز أن ينتفع باليد والرجل غير صاحبهما فكان الإيجاب في العضو المنتفع به في حقه على الخصوص إيجابا فيما هو منتفع به في حقه وفي حق غيره من طريق الأولى فكان ذكر هذه الأعضاء ذكرا لليد والرجل بطريق الدلالة له كما في التأفف مع الضرب في الشتم على أن في كتابنا حكم ما دون النفس قال الله تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } .
قال الله تعالى عز شأنه : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } وأحق ما يعمل فيه بهاتين الآيتين ما دون النفس .
وقال تبارك وتعالى : { من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها } ونحو ذلك من الآيات .
وأما المعقول فهو : إن ما دون النفس له حكم الأموال لأنه خلق وقاية للنفس كالأموال ألا ترى أنه يستوفي في الحل والحرم كما يستوفي المال وكذا الوصي يلي استيفاء ما دون النفس للصغير كما يلي استيفاء ماله فتعتبر فيه المماثلة كما تعتبر في إتلاف الأموال .
ومنها : أن يكون المثل ممكن الاستيفاء لأن استيفاء المثل بدون إمكان استيفائه ممتنع فيمتنع وجوب الاستيفاء ضرورة ويبني على هذين الأصلين مسائل فنقول وبالله تعالى التوفيق : لا يؤخذ شيء من الأصل إلا بمثله فلا تؤخذ اليد إلا باليد لأن غير اليد ليس من جنسها فلم يكن مثلا لها إذ التجانس شرط للمماثلة وكذا الرجل والأصبع والعين والأنف ونحوها لما قلنا وكذا الإبهام لا تؤخذ إلا بالإبهام ولا السبابة إلا بالسبابة ولا الوسطى إلا بالوسطى ولا البنصر إلا بالبنصر ولا الخنصر إلا بالخنصر لأن منافع الأصابع مختلفة فكانت كالأجناس المختلفة وكذلك لا تؤخذ اليد اليمين إلا باليمين ولا اليسرى إلا باليسرى لأن لليمين فضلا على اليسار ولذلك سميت يمينا وكذلك الرجل وكذلك أصابع اليدين والرجلين لا تؤخذ اليمين منها إلا باليمين ولا اليسرى إلا باليسرى وكذلك الأعين لما قلنا وكذلك الأسنان لا تؤخذ الثنية إلا بالثنية ولا الناب إلا بالناب ولا الضرس إلا بالضرس لاختلاف منافعها فإن بعضها قواطع وبعضها طواحن وبعضها ضواحك واختلاف المنفعة بين الشيئين يلحقهما بجنسين ولا مماثلة عند اختلاف الجنس وكذا لا يؤخذ الأعلى منها بالأسفل ولا الأسفل بالأعلى لتفاوت بين الأعلى والأسفل في المنفعة ولا يؤخذ الصحيح من الأطراف إلا بالصحيح منها فلا تقطع اليد الصحيحة ولا كاملة الأصابع بناقصة الأصابع أو مفصل من الأصابع وكذلك الرجل والأصبع وغيرها لعدم المماثلة بين الصحيح والمعيب .
وإن كان العيب في طرف الجاني فالمجني عليه بالخيار إن شاء اقتص وإن شاء أخذ أرش الصحيح لأن حقه في المثل وهو السليم ولا يمكنه استيفاء حقه من كل وجه مع فوات صفة السلامة وأمكنه الاستيفاء من وجه ولا سبيل إلى إلزام الاستيفاء حتما لما فيه من إلزام استيفاء حقه ناقصا وهذا لا يجوز فيخير إن شاء رضي بقدر حقه واستوفاه ناقصا وإن شاء عدل إلى بدل حقه وهو كمال الأرش كما أتلف .
على إنسان شيئا له مثل والمتلف جيد فانقطع عن أيدي الناس ولم يبق منه إلا الرديء أن صاحب الحق يكون بالخيار إن شاء أخذ الموجود ناقصا وإن شاء عدل إلى قيمة الجيد لما قلنا كذا هذا .
ولو أراد المجني عليه أن يأخذه ويضمنه النقصان هل له ذلك ؟ قال أصحابنا رحمهم الله تعالى ليس له ذلك .
وقال الشافعي : له ذلك .
وجه قوله : أن حقه في المثل ولا يمكنه استيفاؤه من هذه اليد من كل وجه فيستوفي حقه منها بقدر ما يمكن ويضمنه الباقي كما لو أتلف على آخر شيئا من المثليات فانقطع عن أيدي الناس إلا قدر بعض حقه أنه يأخذ القدر الموجود من المتلف ويضمنه الباقي كذا هذا .
ولنا : أنه قادر على استيفاء أصل حقه وإنما الفائت هو الوصف وهو صفة السلامة فإذا رضي بإستيفاء أصل حقه ناقصا كان ذلك رضا منه بسقوط حقه عن الصفة كما لو أتلف شيئا من ذوات الأمثال وهو جيد فانقطع عن أيدي الناس نوع الجيد ولا يوجد إلا الرديء منه أنه ليس له إلا أن يأخذه أو قيمة الجيد كذلك .
هذا بخلاف ما ذكره من المسألة لأن هناك حق المتلف عليه متعلق بمثل المتلف بكل جزء من أجزائه صورة ومعنى فكان له أن يستوفي الموجود ويأخذ قيمة الباقي وههنا حق المجني عليه لم يتعلق إلا بالقطع من المفصل دون الأصابع بدليل أنه لو أراد أن يقطع الأصابع ويبرأ عن الكف ليس له ذلك فلم تكن الأصابع عين حقه إن كان البعض قطع الأصابع بأن كانت جارية مجرى الصفة كالجودة في المكيل فلا يكون له أن يطالب بشيء آخر كما في تلك المسألة .
ولو ذهبت الجارحة المعينة قبل أن يختار المجني عليه أخذها أو قطعها قاطع بطل حق المجني عليه في القصاص لفوات محله .
وهل يجب الأرش على الجاني ؟ فالكلام فيه كالكلام فيما إذا قطع يدا صحيحة وهو على التفصيل الذي ذكرنا فيما تقدم أنها إن سقطت بآفة سماوية أو قطعت ظلما لا شيء عليه ولو قطعت بحق من قصاص أو سرقة فعليه أرش اليد المقطوعة وعند الشافعي C : عليه الأرش في الوجهين والكلام فيه راجع إلى أصل وقد تقدم ذكره وهو أن موجب العمد القصاص عينا عندنا في النفس وما دونه وعنده أحدهما غير عين في قول وفي قول القصاص عينا لكن مع حق العدول إلى المال وقد ذكرنا هذا الأصل بفروعه في بيان حكم الجناية على النفس إلا أنه إذا كان القطع بحق يجب الأرش لأنه قضى بالطرف حقا مستحقا عليه فصار كأنه قائم وتعذر استيفاء القصاص لعذر الخطأ وغيره على ما مر ذكره .
وإذا ثبت هذا في الصحيحة فنقول : حق المجني عليه كان متعلقا باليد المعينة بعينها وإنما ينتقل عنها إلى الأرش عند اختياره فإذا لم يختر حتى هلكت بقي حقه متعلقا باليد .
فإن قيل : أليس أنه مخيرا بين القصاص والأرش فإذا فات أحدهما تعين الآخر قيل لا بل حقه كان في اليد على التعيين إلا أن له أن يعدل عنه إلى بدله عند الاختيار فإذا هلك قبل الاختيار بقي حقه في اليد فإذا هلكت فقد بطل محل الحق فبطل الحق أصلا ورأسا والله تعالى D الموفق .
ولو كانت يد القطع صحيحة وقت القطع ثم شلت بعده فلا حق للمقطوع في الأرش لأن حقه ثبت في اليد عينا بالقطع فلا ينتقل إلى الأرش بالنقصان كما إذا ذهب الكل بآفة سماوية أنه يسقط حقه أصلا ولا ينتقل إلى الأرش لما قلنا كذا هذا .
ولا قصاص إلا فيما يقطع من المفاصل مفصل الزند أو مفصل المرفق أو مفصل الكتف في اليد أو مفصل الكعب أو مفصل الركبة أو مفصل الورك في الرجل وما كان من غير المفاصل فلا قصاص فيه كما إذا قطع من الساعد أو العضد أو الساق أو الفخذ لأنه يمكن استيفاء المثل من المفاصل ولا يمكن من غيرها وليس في لحم الساعد والعضد والساق والفخذ ولا في الألية قصاص ولا في لحم الخدين ولحم الظهر والبطن ولا في جلدة الرأس وجلدة اليدين إذا قطعت لتعذر استيفاء المثل ولا في اللطمة والوكزة والوجأة والدفة لما قلنا ولا يؤخذ العدد بالعدد فيما دون النفس مما يجب على أحدهما فيه القصاص لو انفرد كالاثنين إذا قطعا يد رجل أو رجله أو أصبعه أو أذهبا سمعه أو بصره أو قلعا سنا له أو نحو ذلك من الجوارح التي على الواحد منهما فيها القصاص لو انفرد به فلا قصاص عليهما وعليهما الأرش نصفان وكذلك ما زاد على الثلاث من العدد فهو بمنزلة الاثنين ولا قصاص عليهم وعليهم الأرش على عددهم بالسواء وهذا عندنا .
وعند الشافعي : يجب القصاص عليهم وإن كثروا كما في النفس .
واحتج بما روي : أن رجلين شهدا بين يدي سيدنا علي رضي الله تعالى عنه على رجل بالسرقة فأمر بقطع يده ثم جاء بآخر وقالا : أوهمنا إنما السارق هذا يا أمير المؤمنين فقال سيدنا علي Bه : لا أصدقكما على هذا وأغرمكما دية الأول ولو علمت أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما .
فقد اعتقد سجدنا علي Bه قطع اليدين بيد واحدة وإنما قال ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولم ينقل أنه أنكر عليه أحد منهم فيكون إجماعا ولأن اليد تابعة للنفس ثم الأنفس تقتل بنفس واحدة فكذا الأيدي تقطع بيد واحدة لأن حكم التبع حكم الأصل .
ولنا : إن المماثلة فيما دون النفس معتبرة لما ذكرنا من الدلائل ولا مماثلة بين الأيدي ويد واحدة لا في الذات ولا في المنفعة ولا في الفعل .
أما في الذات فلا شك فيه لأنه لا مماثلة بين العدد بين الفرد من حيث الذات يحققه أنه لا تقطع الصحيحة بالشلاء والفائت هو المماثلة من حيث الوصف فقط ففوات المماثلة في الوصف لما منع جريان القصاص فقواتها في الذات أولى .
وأما في المنفعة فلأن من المنافع ما لا يتأتى إلا باليدين كالكتابة والخياطة ونحو ذلك وكذا منفعة اليدين أكثر من منفعة يد واحدة عادة وأما في الفعل فلأن الموجود من كل واحد منهما قطع بعض اليد كأنه وضع أحدهما السكين من جانب والآخر من جانب آخر والجزاء قطع كل واحد من كل واحد منهما وقطع حل اليد أكثر من قطع بعض اليد وانعدام المماثلة من وجه تكفي لجريان القصاص كيف وقد انعدمت من وجوه ؟ .
وأما قول سيدنا علي Bه : فلا حجة له فيه لأنه إنما قال : ذلك على سبيل السياسة بدليل أنه أضاف القطع إلى نفسه وذا لا يكون إلا بطريق السياسة والله سبحانه وتعالى أعلم .
ولو قطع رجل يميني رجلين تقطع يمينه ثم إن حضرا جميعا فلهما أن يقطعا يمينه ويأخذا منه دية يد بينهما نصفين وهذا قول أصحابنا رحمهم الله وقال الشافعي C : إذا كان على التعاقب يقطع الأول ويغرم الدية للثاني كما في القتل وإن كان على الاجتماع يقرع بينهما فيقطع لمن خرجت قرعته ويغرم للآخر الدية كما قال في النفس .
وجه قوله أنه إذا قطع على الترتيب صارت يده حقا للأول فلا تصير حقا للثاني فتجب الدية للثاني وإذا قطع اليدين على الاجتماع فقد صارت يده حقا لأحدهما غير عين وتتعين بالقرعة .
ولنا : إنهما استويا في سبب استحقاق القصاص فيستويان في الاستحقاق ودليل الوصف أن سبب الاستحقاق قطع اليد وقد وجد قطع اليد في حق كل واحد منهما فيستحق كل واحد منهما قطع يده ولا يحصل .
من كل واحد منهما في يد واحدة الأقطع بعضها فلم يستوف كل واحد منهما بالقطع إلا بعض حقه فيستوفي الباقي من الأرش ولأن كل واحد منهما لما استوفى بعض حقه بقطع اليد صار القاطع قاضيا ببعض يده حقا مستحقا عليه فيجعل كأن يده قائمة وتعذر استيفاء القصاص لعذر فتجب الدية .
وقوله : صارت يده حقا لمن له القصاص ممنوع فإن ملك القصاص ليس ملك المحل بل هو ملك الفعل وهو إطلاق الاستيفاء لأن حرية من عليه تمنع نبوت الملك لأنها تنبئ عن الخلوص والملك في المحل بثبوت فيه فينافيه الخلوص .
والدليل عليه أنه لو قطعت يده بغير حق ثابت كانت الدية له ولو صارت يده مملوكة لمن له القصاص لكانت الدية له دل أن ملك القصاص ليس هو ملك المحل بل ملك الفعل وهو إطلاق الاستيفاء ولا تنافي فيه فإطلاق الاستيفاء للأول لا يمنع إطلاق استيفاء الثاني وهذا بخلاف النفس لأن الواحد يقتل بالجماعة اكتفاء لأن هناك كل واحد منهم استوفى حقه على الكمال لأن حقه في القتل وكل واحد منهم استوفى القتل بكماله لما ذكرنا في الجناية على النفس فيما تقدم وإن حضر أحدهما والآخر غائب فللحاضر أن يقتص ولا ينتظر الغائب لما ذكرنا أن حق كل واحد منهما ثابت في كل اليد وإنما التمانع في استيفاء الكل بحكم التزاحم بحكم المشاركة في الاستيفاء فإذا كان أحدهما غائبا فلا يزاحم الحاضر فكان له أن يستوفي كأحد الشفيعين إذا حضر يقضي له بالشفعة في كل المبيع ولأن حق الحاضر إذا كان ثابتا في كل اليد وأراد الاستيفاء والغائب قد يحضر وقد لا يحضر وقد يطالب بعد الحضور وقد يعفو فلا يجوز تأخير حق الحاضر في الاستيفاء والمنع منه للحال بعد طلبه لأمر محتمل ولهذا قضي بالشفعة لأحد الشفيعين إذا حضر وطلب ولا ينتظر حضور الغائب كذا هذا وللآخر دية يده على القاطع لأنه تعذر استيفاء حقه بعد ثبوته فيصار إلى البدل ولأن القاطع قضى به حقا مستحقا عليه فيلزمه الدية .
وإن عفا أحدهما بطل حقه وكان للآخر القصاص إذا كان العفو قبل فضاء القاضي بالإجماع لأن حق كل واحد منهما ثابت في اليد على الكمال فالعفو من أحدهما لا يؤثر في حق الآخر كما في القصاص في النفس وكذلك لو عدا أحدهما على القاطع فقطع يده فقد استوفى حقه فللآخر الدية لما ذكرنا .
وأما إذا قضى القاضي بالقصاص بينهما ثم عفا أحدهما فللآخر أن يستوفي القصاص في قولهما استحسانا .
وقال محمد C : إذا قضى القاضي بالقصاص في اليد بينهما نصفين وبدية اليد بينهما نصفين ثم عفا أحدهما بطل القصاص .
وجه قوله : إن حق كل واحد منهما وإن كان ثابتا في كل اليد لكن القاضي لما قضى بالقصاص بينهما فقد أثبت الشركة بينهما فصار حق كل واحد منهما في البعض فإذا عفا أحدهما سقط البعض ولا يتمكن الآخر من استيفاء الكل .
وجه قولهما : إن قضاء القاضي بالشركة لم يصادف محله لأن الشرع ما ورد بوجوب القطع في بعض اليد فيلحق بالعدم أو يجعل مجازا عن الفتوى كأنه أفتى بما يجب لهما وهو أن يجتمعا على القطع ويأخذ الدية بينهما فكان عفو أحدهما بعد القضاء كعفوه قبله .
ولو قضى القاضي بالدية بينهما فقبضاها ثم عفا أحدهما لم يكن للآخر القصاص وينقلب نصيبه مالا لأنهما لما قبضا الدية فقد ملكاها وثبوت الملك في الدية يقتضي أن لا يبقى الحق في كل اليد فسقط حق كل واحد منهما عن نصف اليد فإذا عفا أحدهما لا يثبت للآخر ولاية استيفاء كل اليد .
وكذلك لو أخذ بالدية رهنا لأن قبض الرهن قبض استيفاء لأن الدين كأنه في الرهن بدليل أنه إذا هلك يسقط الدين فصار قبضهما الرهن كقبضهما الدين .
ولو أخذا بالدية كفيلا ثم عفا أحدهما فللآخر القصاص لأنه ليس في الكفالة معنى الاستيفاء بل هو للتوثق لجانب الوجوب فكان الحكم بعد الكفالة كالحكم قبلها .
ولو قطع من رجل يديه أو رجليه قطعت يداه ورجلاه لأن استيفاء المثل ممكن ولو قطع من رجل يمينه ومن آخر يساره قطعت يمينه لصاحب اليمين ويساره لصاحب اليسار لأن تحقيق المماثلة فيه وأنه ممكن .
فإن قيل : القاطع ما أبطل عليهما منفعة الجنسين فكيف نبطل عليه منفعة الجنس ؟ فالجواب : إن كل واحد منهما ما استحق عليه إلا قطع يد واحدة وليس في قطع يد واحدة تفويت منفعة الجنس فكان الجزاء مثل الجناية إلا أن فوات منفعة الجنس عند اجتماع الفعلين حصل ضرورة غير مضاف إليهما ولو قطع أصبع رجل كلها من المفصل ثم قطع يد آخر أو يدا باليد ثم يقطع الأصبع وذلك كله في يد واحدة في اليمين أو في اليسار فلا يخلو إما إن جاء أنا أبو طاهر نا أبو بكر جميعا يطلبان القصاص وإما إن جاءا متفرقين فان جاءا جميعا يبدأ بالقصاص في الأصبع فتقطع الأصبع بالأصبع ثم يخير صاحب اليد فإن شاء قطع ما بقي وإن شاء أخذ دية يده من مال القاطع لأن حق كل واحد منهما في مثل ما قطع منه فحق صاحب اليد في قطع اليد وحق صاحب الأصبع في قطع الأصبع فيجب إيفاء حق كل واحد منهما بقدر الإمكان وذلك في البداية بالقصاص في الأصبع لأنا لو بدأنا بالقصاص في اليد لبطل حق صاحب الأصبع في القصاص أصلا ورأسا ولو بدأنا بالقصاص في الأصبع لم يبطل حق الآخر في القصاص أصلا ورأسا لأنه يتمكن من استيفائه مع النقصان فكانت البداية بالأصبع أولى وإنما خير صاحب اليد بعد قطع الأصبع لأن الكف صارت معيبة بقطع الأصبع فوجد حقه ناقصا فيثبت له الخيار كالأشل إذا قطع يد الصحيح وإن جاءا متفرقين فإن جاء صاحب اليد وصاحب الأصبع غائب تقطع اليد لصاحب اليد لأن حق صاحب اليد ثابت في اليد فلا يجوز منعه من استيفاء حقه لحق غائب يحتمل أن يحضر ويطالب ويحتمل أن لا يحضر ولا يطالب فإن جاء صاحب الأصبع بعد ذلك أخذ الأرش لتعذر استيفاء حقه عليه بعد ثبوته فيأخذ بدله ولأن القاطع قضى بطرفه حقا مستحقا عليه فصار كأنه قائم وتعذر الاستيفاء لمانع فيلزمه الأرش وإن جاء صاحب الأصبع وصاحب اليد غائب تقطع الأصبع لصاحب الأصبع لما ذكرنا في صاحب اليد ثم إذا جاء صاحب اليد بعد ذلك أخذ الأرش لما قلنا .
ولو قطع أصبع رجل من مفصل ثم قطع أصبع رجل آخر من مفصلين ثم قطع أصبع آخر كلها وذلك كله في أصبع واحدة فهو على التفصيل الذي ذكرنا إن الأمر لا يخلو إما إن جاؤوا جميعا يطلبون القصاص وإما إن جاؤوا متفرقين فإن جاؤوا جميعا يبدأ بقطع المفصل الأعلى لصاحب الأعلى ثم يخير صاحب المفصلين فإن شاء استوفى الأوسط بحقه كله ولا شيء له من الأرش وإن شاء أخذ ثلثي دية أصبعه من ماله ثم يخير صاحب الأصبع فإن شاء أخذ ما بقي بأصبعه وإن شاء أخذ دية أصبعه من مال الذي قطعها وإنما كان كذلك لما بينا أن حق كل واحد منهما في مثل ما قطع منه فيجب إيفاء حقوقهم بقدر الإمكان وذلك في البداية بما لا يسقط حق بعضهم وهو أن يبدأ بقطع المفصل الأعلى لصاحب الأعلى لأن البداية لا تبطل حق الباقين في القصاص أصلا لإمكان استيفاء حقهما مع النقصان وفي البداية بالقصاص في الأصبع إبطال حق الباقين أصلا ورب رجل يختار القصاص وإن كان ناقصا تشفيا للصدر .
وإذا قطع منه المفصل الأعلى لصاحب الأعلى يخير الباقيان لأن كل واحد منهما وجد حقه ناقصا لحدوث العيب بالطرف .
وإن جاؤوا متفرقين فإن جاء صاحب الأصبع أولا تقطع له الأصبع لما ذكرنا في المسألة المتقدمة فإذا جاء الباقيان بعد ذلك يقضى لهما بالأرش لصاحب المفصل الأعلى ثلث دية الأصبع ولصاحب المفصلين ثلثا دية الأصبع لما قلنا .
وإن جاء صاحب المفصلين أولا يقطع له المفصلان لما ذكرنا في المسألة المتقدمة ويقضى لصاحب المفصل الأعلى بالأرش لما مر وصاحب الأصبع بالخيار إن شاء أخذ ما بقي واستوفى حقه ناقصا وإن شاء أخذ دية الأصبع لما مر وإن جاء صاحب الأعلى أولا فهو كما إذا جاؤوا معا وقد ذكرنا حكمه والله أعلم .
ولو قطع كف رجل من مفصل ثم قطع يد آخر من المرفق أو بدأ بالمرفق ثم بالكف وهما في يد واحدة في اليمين أو في اليسار ثم اجتمعا فإن الكف يقطع لصاحب الكف ثم يخير صاحب المرفق فإن شاء قطع ما بقي بحقه كله وإن شاء أخذ الأرش لما بينا .
وإن جاء أحدهما والآخر غائب فإن جاء صاحب الكف قطع له الكف ولا ينتظر الغائب لما مر ثم إذا جاء صاحب المرفق أخذ الأرش وإن جاء صاحب المرفق أولا يقطع له المرفق أولا ثم إذا جاء صاحب اليد بعد ذلك يأخذ أرش اليد والله سبحانه وتعالى أعلم