بيان ما يدخل على قدر المقر به .
وأما الذي يدخل على قدر المقر به فنوعان : .
أحدهما : الاستثناء .
والثاني : الاستدراك أما الاستثناء في الأصل فنوعان : .
أحدهما : أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه .
والثاني : أن يكون من خلاف جنسه وكل واحد منهما نوعان : متصل ومنفصل فإن كان المستثنى من جنس المستثنى منه والاستثناء متصل فهو على ثلاثة أوجه : استثناء القليل من الكثير واستثناء الكثير من القليل واستثناء الكل من الكل .
أما استثناء القليل من الكثير فنحو أن يقول علي عشرة دراهم إلا ثلاثة دراهم ولا خلاف في جوازه ويلزمه سبعة دراهم لأن الاستثناء في الحقيقة تكلم بالباقي بعد الثنيا كأنه قال لفلان علي سبعة دراهم إلا أن للسبعة اسمان أحدهما سبعة والآخر عشرة إلا ثلاثة قال الله تبارك وتعالى : { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } معناه أنه لبث فيهم تسعمائة وخمسين عاما وكذلك إذا قال لفلان علي ألف درهم سوى ثلاثة دراهم لأن سوى من ألفاظ الاستغناء وكذا إذا قال غير ثلاثة لأن غير بالنصب للاستثناء فإن قال لفلان علي درهم غير دانق يلزمه خمسة دوانق ولو قال غير دانق بالرفع يلزمه درهم تام .
وأما استثناء الكثير من القليل بأن قال لفلان علي تسعة دراهم إلا عشرة فجائز في ظاهر الرواية ويلزمه درهم إلا ما روي عن أبي يوسف C لا يصح وعليه العشرة والصحيح جواب ظاهر الرواية لأن المنقول عن أئمة اللغة رحمهم الله أن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا وهذا المعنى كما يوجد في استثناء .
القليل من الكثير يوجد في استثناء الكثير من القليل إلا أن هذا النوع من الاستثناء غير مستحسن عند أهل اللغة لأنهم إنما وضعوا الاستثناء لحاجتهم إلى استدراك الغلط ومثل هذا الغلط مما يندر وقوعه غاية الندرة فلا حاجة إلى استدراكه لكن يحتمل الوقوع في الجملة فيصح .
وأما استثناء الكل من الكل بأن يقول لفلان علي عشرة دراهم إلا عشرة دراهم فباطل وعليه عشرة كاملة لأن هذا ليس باستثناء إذ هو تكلم بالحاصل بعد الثنيا ولا حاصل ههنا بعد الثنيا فلا يكون استثناء بل يكون إبطالا للكلام ورجوعا عما تكلم به والرجوع عن الإقرار في حق العباد لا يصح فبطل الرجوع وبقي الإقرار .
ولو قال : لفلان علي عشرة دراهم إلا درهما زائفا لا يصح الاستثناء عند أبي حنيفة Bه وعليه عشرة جياد .
وقال أبو يوسف : يصح وعليه عشرة جياد للمقر له وعلى المقر له درهم زائف للمقر بناء على أن الأصل عند أبي حنيفة C أن المقاصة لا تقف على صفة الجودة بل تقف على الوزن وعند أبي يوسف لا تتحقق المقاصة إلا بهما جميعا .
ووجه البناء على هذا الأصل : أنه لو صح الاستئناء لوجب على المقر له درهم زائف وحينئذ تقع المقاصة لأن اختلاف صفة الجودة لا تمنع المقاصة عنده وإذا وقصت المقاصة يصير المستثنى درهما جيدا لا زائفا وهذا خلاف موجب تصرفه فلم يصح الاستثناء .
وعند أبي يوسف C : لما كان اتحادهما في صفة الجودة شرطا لتحقق المقاصة ولم يوجد ههنا لا تقع المقاصة وإذا لم تقع كان الواجب على كل واحد منهما أداء ما عليه فلا يؤدي إلى تغيير موجب الاستثناء فيصح الاستثناء والصحيح أصل أبي حنيفة Bه لأن الجودة في الأموال الربوية ساقطة الاعتبار شرعا لقول النبي E : [ جيدها ورديئها سواء ] والساقط شرعا والعدم حقيقة سواء ولو انعدمت حقيقة لوقعت المقاصة كذا إذا انعدمت شرعا .
ولو قال : لفلان علي عشرة دراهم إلا درهم ستوق فقياس قول أبي حنيفة و أبي يوسف رحمهما الله أنه يصح الاستثناء وعليه عشرة دراهم إلا قيمة درهم ستوق وقياس قول محمد و زفر رحمهما الله أنه لا يصح الاستثناء أصلا وعليه عشرة كاملة بناء على أن المجانسة ليست بشرط الإستثناء عند أبي حنيفة و أبي يوسف عليهما الرحمة وعند محمد و زفر شرط على ما سنذكره إن شاء الله تعالى .
ولو قال : لفلان علي ألف إلا قليلا فعليه أكثر من نصف الألف والقول في الزيادة على الخمسمائة قوله لأن القليل من أسماء الإضافة فيقتضي أن يكون ما يقابله أكثر منه ليكون هو بالإضافة إليه قليلا فإذا استثنى القليل من الألف فلا بد وأن يكون المستثنى منه أكثر من المستثنى وهو الأكثر من نصف الألف ولهذا قال بعض أهل التأويل في قوله تبارك وتعالى : { يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا } إن استثناء القليل من الأمر بقيام الليل يقتضي الأمر بقيام أكثر الليل والقول في مقدار الزيادة على نصف الألف قوله لأنه المجمل في قدر الزيادة فكان البيان إليه .
وكذلك إذا قال إلا شيئا لأن الاستثناء بلفظة شيء لا يستعمل إلا في القليل هذا إذا كان المستثنى من جنس المستثنى منه فإن كان من خلاف جنسه ينظر إن كان المستثنى مما لا يثبت دينا في الذمة مطلقا كالثوب لا يصح الاستثناء وعليه جميع ما أقر به عندنا بأن قال له علي عشرة دراهم إلا ثوبا وعند الشافعي C يصح ويلزمه قدر قيمة الثوب .
وإن كان المستثنى مما يثبت دينا في الذمة مطلقا من المكيل والموزون والعددي المتقارب بأن قال لفلان علي عشرة إلا درهما أو إلا قفيز حنطة أو مائة دينار إلا عشرة دراهم أو دينار إلا مائة جوزة يصح الاستثناء عند أبي حنيفة و أبي يوسف Bهما ويطرح مما أقر به قدر قيمة المستثنى وعند محمد و زفر رحمهما الله لا يصح الاستثناء أصلا .
أما الكلام مع الشافعي C في المسألة الأولى فوجه قول الشافعي C أن لنص الاستثناء حكما على حدة كما لنص المستثنى منه من النفي والإثبات لأن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي لغة فقوله لفلان علي عشرة دراهم إلا درهما معناه إلا درهما فإنه ليس علي فيصير دليل النفي معارضا لدليل الإثبات في قدر المستثنى ولهذا قال إن الاستثناء يعمل بطريق المعارضة فصار قوله لفلان علي ألف درهم إلا ثوبا أي إلا ثوبا فإنه ليس علي من الألف ومعلوم أن عين الثوب من الألف ليس عليه فكان المراد قدر قيمته أي مقدار قيمة الثوب ليس علي من الألف .
وجه قول : أصحابنا Bهم أنه لا حكم لنص الاستثناء إلا بيان أن القدر المستثنى لم يدخل تحت المستثنى منه أصلا لأن أهل اللغة قالوا إن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا وإنما يكون تكلما بالباقي إذا كان ثابتا فكان انعدام حكم نص المستثنى منه في المستثنى لانعدام تناول اللفظ إياه لا للمعارضة مع ما أن القول بالمعارضة فاسد لوجوه : .
أحدها : أن الاستثناء مقارن للمستثنى منه فكانت المعارضة مناقضة .
والثاني : أن المعارضة إنما تكون بدليل قائم بنفسه ونص الاستثناء ليس بنص قائم بنفسه فلا يصلح معارضا إلا أن يزاد عليه قوله إلا كذا فإنه كذا وهذا تغيير ومهما أمكن العمل بظاهر اللفظ من غير تغيير كان أولى .
والثالث : أن القول بالمعارضة يكون رجوعا عن الإقرار والرجوع عن الإقرار في حقوق العباد لا يصح كما إذا قال له علي عشرة دراهم وليس له علي عشرة دراهم وإذا كان بيانا فمعنى البيان لا يتحقق إلا إذا كان المستثنى من جنس المستثنى منه إما في الاسم أو في احتمال الوجوب في الذمة على الإطلاق .
ولم يوجد ههنا على ما نذكره إن شاء الله تعالى .
وقولهم الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات محمول على الظاهر إذ هو في الظاهر كذلك دون الحقيقة لأنه تحقق معنى المعارضة وهي محال على ما ذكرنا وجه إحالته فيكون بيانا حقيقة نفيا أو إثباتا جمعا بين النقلين بقدر الإمكان والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .
وأما الكلام في المسألة الثانية فوجه قول محمد و زفر رحمهما الله أن الاستثناء استخراج بعض ما لولاه لدخل تحت نص المستثنى منه وذا لا يتحقق إلا في الجنس ولهذا لو كان المستثنى ثوبا لم يصح الاستثناء .
وجه قول أبي حنيفة و أبي يوسف : أن الداخل تحت قوله لفلان علي عشرة دراهم موصوفة بأنها واجبة مطلقا مسماة بالدراهم فإن لم يمكن تحقيق معنى المجالسة في اسم الدراهم أمكن تحقيقها في الوجوب في الذمة على الإطلاق لأن الحنطة في احتمال الوجوب في الذمة على الإطلاق من جنس الدراهم .
ألا ترى أنها تجب دينا موصوفا في الذمة حالا بالاستقراض والاستهلاك كما تجب سلما وثمنا حالا كالدراهم .
فأما الثوب فلا يحتمل الوجوب في الذمة على الإطلاق بل سلما أو ثمنا مؤجلا فأما ما لا يحتمله استقراضا واستهلاكا وثمنا حالا غير مؤجل فأمكن تحقيق معنى المجانسة بينهما في وصف الوجوب في الذمة على الإطلاق إن لم يكن في اسم الدراهم فأمكن العمل بالاستثناء في تحقق معناه وهو البيان من وجه ولا مجانسة بين الثياب والدراهم لا في الاسم ولا في احتمال الوجوب في الذمة على الإطلاق فانعدم معنى الاستثناء أصلا فهو الفرق والله تعالى أعلم .
ولو أقر لإنسان بدار واستثنى بناءها لنفسه فالاستثناء باطل لأن اسم الدار لا يتأول البناء لغة بل وضع دلالة على العرصة في اللغة وإنما البناء فيها بمنزلة الصفة فلم يكن المستثنى من جنس المستثنى منه فلم يصح الاستثناء وتكون الدار مع البناء للمقر له لأنه إن لم يكن اسما عاما لكنه يتناول هذه الأجزاء بطريق التضمن كمن أقر لغيره بخاتم كان له الحلقة والفص لا لأنه اسم عام بل هو اسم لمسمى واحد وهو المركب من الحلقة والفص ولكنه يتناوله بطريق التضمن وكذا من أقر بسيف لغيره كان له النصل والجفن والحمائل لما قلنا وكذا من أقر بحجلة كان له العيدان والكسوة بخلاف ما إذا استثنى ربع الدار أو ثلثها أو شيئا منها أنه يصح الاستثناء لما بينا أن الدار اسم للعرصة فكان المستثنى من جنس المستثنى منه فصح .
ولو قال : بناء هذه الدار لي والعرصة لفلان صح لأن اسم البناء لا يتناول العرصة إذ هي اسم للبقعة والله سبحانه وتعالى أعلم .
هذا الذي ذكرنا حكم الاستثناء إذا ورد على الجملة الملفوظة فأما إذا ورد الاستثناء على الاستثناء فالأصل فيه أن الاستثناء الداخل على الاستثناء يكون استثناء من المستثنى منه لأن المستثنى منه أقرب المذكور إليه فيصرف الاستثناء الثاني إليه ويجعل الباقي منه مستثنى من الجملة الملفوظة .
وعلى هذا إذا ورد الاستثناء على الاستثناء مرة بعد أخرى وإن كثر فالأصل فيه أن يصرف كل استثناء إلى ما يليه لكونه أقرب المذكور إليه فيبدأ من الاستثناء الأخير فيستثنى الباقي مما يليه ثم ينظر إلى الباقي مما يليه ثم ينظر إلى الباقي هكذا إلى الاستثناء الأول ثم ينظر إلى الباقي منه فيستثنى ذلك من الجملة الملفوظة فما بقي منها فهو القدر المقر به .
بيان هذه الجملة إذا قال لفلان علي عشرة دراهم إلا ثلاثة دراهم إلا درهما يكون إقرارا بثمانية دراهم لأنا صرفنا الاستثناء الأخير إلى ما يليه فبقي درهمان يستثنيهما من العشرة فيبقى ثمانية والأصل فيه قوله سبحانه وتعالى خبرا عن الملائكة : { قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين * إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين * إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين } .
استثنى الله تبارك وتعالى آل لوط من أهل القرية لا من المجرمين لأن حقيقة الاستثناء من الجنس وآل لوط لم يكونوا مجرمين ثم استثنى امرأته من آله فبقيت في الغابرين .
ولو قال : لفلان علي عشرة دراهم إلا خمسة دراهم إلا ثلاثة دراهم إلا درهما يكون إقرارا بسبعة لأنا جعلنا الدرهم مستثنى مما يليه وهي ثلاثة فبقي درهمان استثناهما من خمسة فبقي ثلاثة استثناها من الجملة الملفوظة فبقي سبعة وكذلك لو قال لفلان علي عشرة دراهم إلا سبعة دراهم إلا خمسة دراهم إلا ثلاثة دراهم إلا درهما يكون إقرارا بستة لما ذكرنا من الأصل وهذا الأصل لا يخطىء في إيراد الاستثناء على الاستثناء وإن كثر .
هذا إذا كان الأصل متصلا بالجملة المذكورة فأما إذا كان منفصلا عنها بأن قال لفلان علي عشرة دراهم وسكت ثم قال إلا درهما لا يصح الاستثناء عند عامة العلماء وعامة الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلا ما روي عن عبد الله بن عباس Bهما أنه يصح وبه أخذ بعض الناس .
ووجهه : أن الاستثناء بيان لما ذكرنا فيصح متصلا ومنفصلا كبيان المجمل والتخصيص للعام عندنا .
وجه قول العامة : إن صيغة الاستثناء إذا انفصلت عن الجملة الملفوظة لا تكون كلام استثناء لغة لأن العرب ما تكلمت به أصلا ولو اشتغل به أحد يضحك عليه كمن قال لفلان علي كذا ثم قال بعد شهر إن شاء الله تعالى لا يعد ذلك تعليقا بالمشيئة حتى لا يصح كذا هذا والرواية عن ابن عباس لا تكاد تصح بخلاف بيان المجمل والعام لأنهم يتكلمون بذلك مستعمل عندهم متصلا ومنفصلا على ما عرف في أصول الفقه والله تعالى أعلم .
وعلى هذا قال أبو حنيفة فيمن قال : أنت حر وحر إن شاء الله تعالى أنه لا يصح الاستثناء لأن تكرير صيغة التحرير لغو فكان في معنى السكتة .
ولو قال لفلان : علي كر حنطة وكر شعير إلا كر حنطة وقفيز شعير لا يصح استغناء كر الحنطة بالاتفاق لانصراف كر الحنطة إلى جنسه فيكون استثناء الكل من الكل فلم يصح .
وهل يصح استثناء القفيز من الشعير ؟ قال أبو حنيفة C : لا يصح لأنه لم يصح استثناء كر الحنطة فقد لغا فكأنه سكت ثم استثنى قفيز شعير فلم يصح استثناؤه أصلا والله D أعلم .
وأما الاستدراك فهو في الأصل لا يخلو من أحد وجهين : إما أن يكون في القدر وإما أن يكون في الصفة فإن كان في القدر فهو على ضربين : إما أن يكون في الجنس وإما أن يكون في خلاف الجنس فنحو أن يقول لفلان علي ألف درهم لا بل ألفان فعليه ألفان استحسانا والقياس أن يكون عليه ثلاثة آلاف .
وجه القياس : أن قوله لفلان علي ألف درهم إقرار بألف وقوله لا رجوع وقوله بل استدراك والرجوع عن الإقرار في حقوق العباد غير صحيح والاستدراك صحيح فأشبه الاستدراك في خلاف الجنس وكما إذا قال لامرأته : أنت طالق واحدة لا بل اثنتين أنه يقع ثلاث تطليقات .
وجه الاستحسان : أن الإقرار إخبار والمخبر عنه مما يجري الغلط في قدره أو وصفه عادة فتقع الحاجة إلى استدراك الغلط فيه فيقبل إذا لم يكن متهما فيه وهو غير متهم في الزيادة على المقر به فتقبل منه بخلاف الاستدراك في خلاف الجنس لأن الغلط في خلاف الجنس لا يقع عادة فلا تقع الحاجة إلى استداركه وبخلاف مسألة الطلاق أن قوله أنت طالق إنشاء الطلاق لغة وشرعا والإنشاء لا يحتمل الغلط حتى لو كان إخبارا بأن قال لها كنت طلقتك أمس واحدة لا بل اثنتين لا يقع عليها إلا طلاقان والله تعالى أعلم .
وكذلك إذا قال : لفلان علي كر حنطة لا بل كران .
ولو قال لفلان : علي ألف درهم لا بل ألف درهم فعليه ألفان لأنه متهم في النقصان فلا يصح استدراكه مع ما أن مثل هذا الغلط نادر فلا حاجة إلى استدراكه لإلتحاقه بالعدم .
وأما في خلاف الجنس كما لو قال : لفلان علي ألف درهم لا بل مائة دينار أو لفلان علي كر حنطة لا بل كر شعير لزمه الكل لما بينا أن مثل هذا الغلط لا يقع إلا نادرا والنادر ملحق بالعدم .
هذا إذا وقع الاستدراك في قدر المقر به فأما إذا وقع في صفة المقر به بأن قال لفلان علي ألف درهم بيض لا بل سود ينظر فيه إلى أرفع الصفتين وعليه ذلك لأنه غير متهم في زيادة الصفة متهم في النقصان فكان مستدركا في الأول راجعا في الثاني فيصح استدراكه ولا يصح رجوعه كما في الألف والألفين والله سبحانه وتعالى أعلم .
هذا إذا رجع الاستدراك إلى المقر به فأما إذا رجع إلى المقر له بأن قال هذه الألف لفلان لا بل لفلان وادعاها كل واحد منهما يدفع إلى المقر له الاول لأنه لما أقر بها للأول صح إقراره له فصار واجب الدفع إليه فقوله لا بل لفلان رجوع عن الإقرار الأول فلا يصح رجوعه في حق الأول ويصح إقراره بها للثاني في حق الثاني ثم إن دفعه إلى الأول بغير قضاء القاضي يضمن للثاني لأن إقراره بها للثاني في حق الثاني صحيح إن لم يصح في حق الأول وإذا صح صار واجب الدفع إليه فإذا دفعها إلى الأول فقد أتلفها عليه فيضمن وإن دفعها إلى الأول بقضاء القاضي لا يضمن لأنه لو ضمن لا يخلو إما أن يضمن بالدفع وإما أن يضمن بالإقرار لا سبيل إلى الأول لأنه مجبور في الدفع من جهة القاضي فيكون كالمكره ولا سبيل إلى الثاني لأن الإقرار للغير بملك الغير لا يوجب الضمان ولو قال : غصبت هذا العبد من فلان لا بل من فلان يدفع إلى الأول ويضمن للثاني سواء دفع إلى الأول بقضاء أو بغير قضاء بخلاف المسألة الأولى ووجه الفرق أن الغصب سبب لوجوب الضمان فكان الإقرار به إقرار بوجود سبب وجوب الضمان وهو رد العين عند القدرة وقيمة العين عند العجز وقد عجز عن رد العين إلى المقر له الثاني فيلزمه رد قيمته بخلاف المسألة الأولى لأن الإقرار بملك الغير للغير ليس بسبب لوجوب الضمان لانعدام الإتلاف وإنما التلف في تسليم مال الغير إلى الغير باختياره على وجه يعجز عن الوصول إليه فلا جرم إذا وجد يجب الضمان .
وكذلك لو قال : هذه الألف لفلان أخذتها من فلان أو أقرضنيها فلان وادعاها كل واحد منهما فهي للمقر له الأول ويضمن للذي أقر أنه أخذ منه أو أقرضه ألفا مثله لأن الأخذ والقرض كل واحد منهما سبب لوجوب الضمان فكان الإقرار بهما إقرارا بوجود سبب وجوب الضمان فيرد الألف القائمة إلى الأول لصحة إقراره بها له ويضمن للثاني ألفا أخرى ضمانا للأخذ والقرض ولو قال أودعني فلان هذه الألف لا بل فلان يدفع إلى المقر له الأول لما بينا ثم إن دفع إليه بغير قضاء القاضي يضمن للثاتني بالإجماع وإن دفع بقضاء القاضي فعند أبي يوسف لا يضمن وعند محمد يضمن .
وجه قول محمد C : أن إقراره بالإيداع من الثاني صحيح في حق الثاني فوجب عليه الحفظ بموجب العقد وقد فوته بالإقرار للأول بل اسنهلكه فكان مضمونا عليه .
وجه قول أبي يوسف C أن فوات الحفظ والهلاك حصل بالدفع إلى الأول بالإقرار والدفع بقضاء القاضي لا يوجب الضمان لما بينا .
ولو قال : دفع إلي هذه الألف فلان وهي لفلان وادعى كل واحد منهما أنها له فهي للدافع لأن إقراره بدفع فلان قد صح فصار واجب الرد عليه وهذا يمنع صحة إقراره للثاني في حق الأول لكن يصح في حق الثا ني .
ولو قال : هذه الألف لفلان دفعها إلي فلان فهي للمقر له بالملك ولا يكون للدافع شيء فإذا ادعى الثاني ضمن له ألفا أخرى لما بينا أن الإقرار بها للأول يوجب الرد إليه وهذا يمنع صحة إقراره للثاني في حق الأول لكنه يصح في حق الثاني ثم إن دفعه إلى الأول بغير قضاء القاضي يضمن وإن دفعه بقضاء القاضي فكذلك عند محمد وعند أبي يوسف : لا يضمن والحجج من الجانبين على نحو ما ذكرنا .
ولو قال : هذه الألف لفلان أرسل بها إلى فلان فإنه يردها على الذي أقر أنها ملكه وهذا قياس قول أبي حنيفة و أبي يوسف رحمهما الله تعالى لما قلنا : ولا يصح إقراره للثاني عند أبي حنيفة .
فرق أبو حنيفة عليه الرحمة بين العين والدين بأن قال : لفلان علي ألف درهم قبضتها من فلان فادعاها كل واحد منهما أن عليه لكل واحد منهما ألفا .
ووجه الفرق : أن المقر به للأول هناك ألف في الذمة فيلزمه ذلك بإقراره له ولزمه ألف أخرى لفلان باقراره بقبضها منه إذ القبض سبب لوجوب الضمان فلزمه ألفان وههنا المقر به عين مشار إليها فمتى صح إقراره بها لم يصح للثاني وذكر قول أبي يوسف في الأصل في موضعين : أحدهما أنه لا ضمان عليه للثاني بحال بانتهاء الرسالة بالوصول إلى المقر وفي الآخر أنه إن دفع بغير قضاء القاضي يضمن فإن قال الذي أقر له أنها ملكه ليست الألف لي وادعاها الرسول لأن إقراره للأول قد ارتد برده وقد أقر باليد للرسول فيؤمر بالرد إليه ولو كان الذي أقر له أنها ملكه غائبا وأراد الرسول أن يأخذها وادعاها لنفسه لم يأخذها كذا روي عن أبي يوسف لأن رسالته قد انتهت بالوصول إلى المقر ولو أقر إلى خياط فقال هذا الثوب أرسله إلي فلان لأقطعه قميصا وهو لفلان فهو الذي أرسله إليه وليس للثاني شيء لأنه أقر باليد للمرسل فصار واجب الرد عليه وهذا يمنع صحة إقراره بالملك الثاني كما إذا قال دفع إلي هذه الألف فلان وهي لفلان على ما بينا .
ولو قال الخياط : هذا الثوب الذي في يدي لفلان أرسله إلي فلان وكل واحد منهما يدعيه فهو للذي أقر له أول مرة ولا يضمن للثاني شيئا في قياس قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف و محمد يضمن بناء على أن الأجير المشترك لا ضمان عليه فيما هلك في يده عنده فاشبه الوديعة وعندهما عليه الضمان فأشبه الغصب والله سبحانه وتعالى العليم