فصل : بيان ما يعترض من الأسباب المحرمة للقتال .
وأما بيان ما يعترض من الأسباب المحرمة للقتال فنقول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم : الأسباب المعترضة المحرمة للقتال أنواع ثلاثة : الإيمان والأمان والالتجاء إلى الحرم أما الإيمان فالكلام فيه في موضعين : أحدهما في بيان ما يحكم به بكون الشخص مؤمنا والثاني في بيان حكم الإيمان .
أما الأول فنقول : الطرق التي يحكم بها بكون الشخص مؤمنا ثلاثة : نص ودلالة وتبعية أما النص فهو أن يأتي بالشهادة أو بالشهادتين أو يأتي بهما مع التبري مما هو عليه صريحا وبيان هذه الجملة : أن الكفرة أصناف أربعة : صنف منهم ينكرون الصانع أصلا وهم الدهرية المعطلة وصنف منهم يقرون بالصانع وينكرون توحيده وهم الوثنية والمجوس وصنف منهم يقرون بالصانع وتوحيده وينكرون الرسالة رأسا وهم قوم من الفلاسفة وصنف منهم يقرون بالصانع وتوحيده والرسالة في الجملة لكنهم ينكرون رسالة نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وهم اليهود والنصارى .
فإن كان من الصنف الأول والثاني فقال : لا إله إلا الله يحكم بإسلامه لأن هؤلاء يمتنعون عن الشهادة أصلا فاذا أقروا بها كان دليل إيمانهم وكذلك إذا قال : أشهد أن محمدا رسول الله لأنهم يمتنعون من كل واحدة من كلمتي الشهادة فكان الإتيان بواحدة منهما أيتهما كانت دلالة الإيمان وإن كان من الصنف الثالث فقال : لا إله إلا الله لا يحكم بإسلامه لأن منكر الرسالة لا يمتنع عن هذه المقالة ولو قال : أشهد أن محمدا رسول الله يحكم بإسلامه لأنه يمتنع عن هذه الشهادة فكان الإقرار بها دليل الإيمان .
وإن كان من الصنف الرابع فأتى بالشهادتين فقال : لا إله إلا الله محمد رسول الله لا يحكم بإسلامه حتى يتبرأ من الدين الذي عليه من اليهودية أو النصرانبة لأن من هؤلاء من يقر برسالة رسول الله صلى الله عليه و سلم لكنه يقول : إنه بعث إلى العرب خاصة دون غيرهم فلا يكون إتيانه بالشهادتين بدون التبري دليلا على إيمانه وكذا إذا قال يهودي أو نصراني : أنا مؤمن أو مسلم أو قال : آمنت أو أسلمت لا يحكم بإسلامه لأنهم يدعون أنهم مؤمنون ومسلمون والإيمان والإسلام هو الذي هم عليه .
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه قال : إذا قال اليهودي أو النصراني : أنا مسلم أو قال أسلمت سئل عن ذلك أي شيء أردت به ؟ إن قال : أردت به ترك اليهودية أو النصرانية والدخول في دين الإسلام يحكم بإسلامه حتى لو رجع عن ذلك كان مرتدا وإن قال : أردت بقولي أسلمت إني على الحق ولم أرد بذلك الرجوع عن ديني لم يحكم بإسلامه .
ولو قال يهودي أو نصراني : أشهد أن لا إله إلا الله وأتبرأ عن اليهودية أو النصرانية لا يحكم بإسلامه لأنهم لا يمتنعون عن كلمة التوحيد والتبري عن اليهودية والنصرانية لا يكون دليل الدخول في دين الإسلام لاحتمال أنه تبرأ عن ذلك ودخل في دين آخر سوى دين الإسلام فلا يصلح التبري دليل الإيمان مع الاحتمال ولو أقر مع ذلك فقال دخلت في دين الإسلام أو في دين محمد صلى الله عليه و سلم حكم بالإسلام لزوال الاحتمال بهذه القرينة والله سبحانه وتعالى أعلم .
وأما بيان ما يحكم به بكونه مؤمنا من طريق الدلالة فنحو أن يصلي كتابي أو واحد من أهل الشرك في جماعة ويحكم بإسلامه عندنا وعند الشافعي C لا يحكم بإسلامه ولو صلى وحده لا يحكم بإ سلا مه .
وجه قول الشافعي C : أن الصلاة لو صلحت دلالة الإيمان لما افترق الحال فيها بين حال الانفراد وبين حال الاجتماع ولو صلى وحده لم يحكم بإسلامه فعلى ذلك إذا صلى بجماعة .
ولنا : أن الصلاة بالجماعة على هذه الهيئة التي نصليها اليوم لم تكن في شرائع من قبلنا فكانت مختصة بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه و سلم فكانت دلالة على الدخول في دين الإسلام بخلاف ما إذا صلى وحده لأن الصلاة وحده غير مختصة بشريعتنا .
وروي عن محمد C : أنه إذا صلى وحده مستقبل القبلة يحكم بإسلامه لأن الصلاة مستقبل القبلة دليل الإسلام لقوله E : [ من شهد جنازتنا وصلى إلى قبلتنا وأكل ذبيحتنا فاشهدوا له بالإيمان ] .
وعلى هذا الخلاف إذا أذن في مسجد جماعة يحكم بإسلامه عندنا خلافا للشافعي C تعالى .
لنا : أن الأذان من شعائر الإسلام فكان الإتيان به دليل قبول الإسلام .
ولو قرأ القرآن أو تلقنه لا يحكم بإسلامه لاحتمال أنه فعل ذلك ليعلم ما فيه من غير أن يعتقده حقيقة إذ لا كل من يعلم شيئا يؤمن به كالمعاندين من الكفرة ولو حج هل يحكم بإسلامه ؟ قالوا : ينظر في ذلك إن تهيأ للإحرام ولبى وشهد المناسك مع المسلمين يحكم بإسلامه لأن عبادة الحج على هذه الهيئة المخصوصة لم .
تكن في الشرائع المتقدمة فكانت مختصة بشريعتنا فكانت دلالة الإيمان كالصلاة بالجماعة وإن لبى ولم يشهد المناسك أو شهد المناسك ولم يلب لا يحكم بإسلامه لأنه لا يصير عبادة في شريعتنا إلا بالأداء على هذه الهيئة والأداء على هذه الهيئة لا يكون دليل الإسلام .
ولو شهد شاهدان أنهما رأياه يصلي سنة وما قالا : رأيناه يصلي في جماعة وهو يقول : صليت صلواتي لا يحكم بإسلامه لأنهم يصلون أيضا فلا تكون الصلاة المطلقة دلالة الإسلام .
ولو شهد أحدهما وقال : رأيته يصلي في المسجد الأعظم وشهد الآخر وقال : رأيته يصلي في مسجد كذا وهو منكر لا تقبل وسن يجبر على الإسلام لأن الشاهدين اتفقا على وجود الصلاة منه بجماعة في المسجد لكنهما اختلفا في المسجد وذا يوجب اختلاف المكان لا نفس الفعل وهو الصلاة فقد اجتمع شاهدان على فعل واحد حقيقة لكن تعتبر شهادتهما قي الجبر على الإسلام لا في القتل لأن فعل الصلاة وإن كان متحدا حقيقة فهو مختلف صورة لاختلاف محل الفعل فأورث شبهة في القتل والله سبحانه وتعالى أعلم .
وأما الحكم بالإسلام من طريق التبعية فان الصبي يحكم بإسلامه تبعا لأبويه عقل أو لم يعقل ما لم يسلم بنفسه إذا عقل ويحكم بإسلامه تبعا للدار أيضا والجملة فيه : أن الصبي يتبع أبويه في الإسلام والكفر ولا عبرة بالدار مع وجود الأبوين أو أحدهما لأنه لا بد له من دين تجري عليه أحكامه والصبي لا يهتم لذلك إما لعدم عقله وإما القصورة فلا بد وأن يجعل تبعا لغيره وجعله تبعا للأبوين أولى لأنه تولد منهما وإنما الدار منشأ وعند انعدامهما في الدار التي فيها الصبي تنتقل التبعية إلى الدار لأن الدار تستتبع الصبي في الإسلام في الجملة كاللقيط فإذا أسلم أحد الأبوين فالولد يتبع المسلم لأنهما استويا في جهة التبعية وهي التولد والتفرع فيرجح المسلم بالإسلام لأنه يعلو ولا يعلى عليه .
ولو كان أحدهما كتابيا والآخر مجوسيا فالولد كتابي لأن الكتابي إلى أحكام الإسلام أقرب فكان الإسلام منه أرجى .
وبيان هذه الجملة إذا سبي الصبي وأخرج إلى دار الإسلام فهذا لا يخلو من ثلاثة أوجه : إما إن سبي مع أبويه و إما إن سبي مع أحدهما وإما إن سبي وحده فإن سبي مع أبويه فما دام في دار الحرب فهو على دين أبويه حتى لو مات لا يصلى عليه وهذا ظاهر وكذا إذا سبي مع أحدهما وكذلك إذا خرج إلى دار الإسلام ومعه أبواه أو أحدهما لما بينا فإن مات الأبوان بعد ذلك فهو على دينهما حتى يسلم بنفسه ولا تنقطع تبعية الأبوين بموتهما لأن بقاء الأصل ليس بشرط لبقاء الحكم في التبع وان أخرج إلى دار الإسلام وليس معه أحدهما فهو مسلم لأن التبعية انتقلت إلى الدار على ما بينا .
ولو أسلم أحد الأبوين في دار الحرب فهو مسلم تبعا له لأن الولد يتبع خير الأبوين دينا لما بينا وكذا إذا أسلم أحد الأبوين في دار الإسلام ثم سبي الصبي بعده وأدخل في دار الإسلام فهو مسلم تبعا له لأنه جمعهما دار واحدة لأن تبعية الدار لا تعتبر مع أحد الأبوين لما ذكرنا فأما قبل الإدخال في دار الإسلام فلا .
يكون مسلما لأنهما في دارين مختلفين واختلاف الدار يمنع التبعية في الأحكام الشرعية والله سبحانه وتعالى أعلم ثم إنما تعتبر تبعية الأبوين والدار إذا لم يسلم بنفسه وهو يعقل الإسلام فأما إذا أسلم وهو يعقل الإسلام فلا تعتبر التبعية ويصح إسلامه عندنا وعند الشافعي C : لا يصح واحتج بقوله E : [ رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ ] .
أخبر E أن الصبي مرفوع القلم والفقه مستنبط منه : وهو أن الصبي لو صح إسلامه إما أن يصح فرضا وإما أن يصح نفلا ومعلوم أن التنفل بالإسلام محال والفرضية بخطاب الشرع والقلم عنه مرفوع ولأن صحة الإسلام من الأحكام الضارة فإنه سبب لحرمان الميراث والنفقة ووقوع الفرق بين الزوجين والصبي ليس من أهل التصرفات الضارة ولهذا لم يصح طلاقه وعتاقه ولم يجب عليه الصوم والصلاة فلا يصح إسلامه .
ولنا : أنه آمن بالله سبحانه وتعالى عن غيب فيصح إيمانه كالبالغ وهذا لأن الإيمان عبارة عن التصديق لغة وشرعا وهو تصديق الله سبحانه وتعالى في جميع ما أنزل على رسله أو تصديق رسله في جميع ما جاءوا به عن الله تبارك وتعالى وقد وجد ذلك منه لوجود دليله وهو إقرار العاقل وخصوصا عن طوع فترتب .
عليه الأحكام لأنها مبنية على وجود الإيمان حقيقة قال الله تعالى : { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } .
وقال E : [ لا يرث المؤمن الكافر ولا الكافر المؤمن ] .
وقوله : [ إنه مرفوع القلم ] قلنا نعم في الفروع الشرعية فأما في الأصول العقلية فممنوع ووجوب الإيمان من الأحكام العقلية فيجب على كل عاقل والحديث يحمل على الأحكام الشرعية توفيقا بين الدلائل وبه نقول والله سبحانه وتعالى أعلم .
وأما أحكام الإيمان فنقول والله سبحانه وتعالى الموفق : للإيمان حكمان : أحدهما : يرجع إلى الآخرة والثاني : يرجع إلى الدنيا .
أما الذي يرجع إلى الآخرة فكينونة المؤمن من أهل الجنة إذا ختم عليه قال الله تعالى : { من جاء بالحسنة فله خير منها } .
وأما الذي يرجع إلى الدنيا فعصمة النفس والمال لقوله E : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ] إلا أن عصمة النفس تثبت مقصودة وعصمة المال تثبت تابعة لعصمة النفس إذ النفس أصل في التخلق والمال خلق بذله للنفس استبقاء .
لها فمتى ثبتت عصمة النفس ثبتت عصمة المال تبعا إلا إذا وجد القاطع للتبعية على ما نذكر .
فعلى هذا إذا أسلم أهل بلدة من أهل دار الحرب قبل أن يظهر عليهم السلمون حرم قتلهم ولا سبيل لأحد على أموالهم على ما قلنا وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ من أسلم على مال فهو له ] .
ولو أسلم حربي في دار الحرب ولم يهاجر إلينا فقتله مسلم عمدا أو خطأ فلا شيء عليه إلا الكفارة وعند أبي يوسف عليه الدية في الخطأ .
وعند الشافعي C عليه الدية مع الكفارة في الخطأ والقصاص في العمد واحتجا بالعمومات الواردة في باب القصاص والدية من غير فصل بين مؤمن قتل في دار الإسلام أو في دار الحرب .
ولنا : قوله تبارك وتعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة } أوجب سبحانه وتعالى الكفارة وجعلها كل موجب قتل المؤمن الذي هو من قوم عدو لنا لأنه جعله جزاء والجزاء ينبىء عن الكفاية فاقتض وقوع الكفاية بها عما سواها من القصاص والدية جميعا ولأن القصاص لم يشرع إلا لحكمة الحياة .
قال الله تعالى : { و لكم في القصاص حياة } والحاجة إلى الإحياء عند قصد القتل لعداوة حاملة عليه ولا يكون ذلك إلا عند المخالطة ولو لم توجد ههنا .
وعلى هذا إذا أسلم ولم يهاجر إلينا حتى ظهر المسلمون على الدار فما كان في يده من المقتول فهو له ولا يكون فيئا إلا عبدا يقاتل فإنه يكون فيئا لأن نفسه استفادت العصمة بالإسلام وماله الذي في يده تابع له من كل وجه فكان معصوما تبعا لعصمة النفس إلا عبدا يقاتل لأنه إذا قاتل فقد خرج من يد المولى فلم يبق تبعا له فانقطعت العصمة لانقطاع التبعية فيكون محلا للتملك بالاستيلاء وكذلك ما كان في يد مسلم أو ذمي وديعة له فهو له ولا يكون فيئا لأن يد المودع يده من وجه من حيث إنه يحفظ الوديعة له ويد نفسه من حيث الحقيقة وكل واحد منهما معصوم فكان ما في يده معصوما فلا يكون محلا للتملك .
وأما ما كان في يد حربي وديعة فيكون فيئا عند أبي حنيفة وعندهما يكون له لأن يد المودع يده فكان معصوما .
والصحيح قول أبي حنيفة C لأنه من حيث إنه يحفظ له تكون يده فيكون تبعا له فيكون معصوما ومن حيث الحقيقة لا يكون معصوما لأن نفس الحربي غير معصومة فوقع الشك في العصمة فلا تثبت العصمة مع الشك وكذا عقاره يكون فيئا عند أبي حنيفة و أبي يوسف وعند محمد هو والمنقول سواء والصحيح قولهما لأنه من حيث إنه يتصرف فيه بحسب مشيئته يكون في يده فيكون تبعا له من حيث إنه محصن محفوظ بنفسه ليس في يده فلا يكون تبعا له فلا تثبت العصمة مع الشك وأما أولاده الصغار فأحرار مسلمون تبعا له وأولاده الكبار وامرأته يكونون فيئا لأنهم في حكم أنفسهم لانعدام التبعية وأما الولد الذي في البطن فهو مسلم تبعا لأبيه ورقيق تبعا لأمه وفيه إشكال وهو أن هذا إنشاء الرق على المسلم وأنه ممنوع .
والجواب : أن الممتنع إنشاء الرق على من هو مسلم حقيقة لا على من له حكم الوجود والإسلام شرعا .
هذا إذا أسلم ولم يهاجر إلينا فظهر المسلمون على الدار فلو أسلم وهاجر إلينا ثم ظهر المسلمون على الدار أما أمواله فما كان في يد مسلم أو ذمي وديعة فهو له ولا يكون فيئا لما ذكرنا وما سوى ذلك فهو فيء لما ذكرنا أيضا وقيل : ما كان في يد حربي وديعة فهو على الخلاف الذي ذكرنا وأما أولاده الصغار فيحكم بإسلامهم تبعا لأبيهم ولا يسترقون لأن الإسلام يمنع إنشاء الرق إلا رقا ثبت حكما بان كان الولد في بطن الأم وأولاده الكبار فيء لأنهم في حكم أنفسهم فلا يكونون مسلمين باسلام أبيهم وكذلك زوجته والولد الذي في البطن يكون مسلما تبعا لأبيه ورقيقا تبعا لأمه .
ولو دخل الحربي دار الإسلام ثم أسلم ثم ظهر المسلمون على الدار فجميع ماله وأولاده الصغار والكبار وامرأته وما في بطنها فيء لما لم يسلم في دار الحرب حتى خرج إلينا لم تثبت العصمة لماله لانعدام عصمة النفس فبعد ذلك وإن صارت معصومة لكن بعد تباين الدارين وأنه يمنع ثبوت التبعية ولو دخل مسلم أو ذمي دار الحرب فأصاب هناك مالا ثم ظهر المسلمون على الدار فحكمه وحكم الذي أسلم من أهل الحرب ولم يهاجر إلينا سواء والله D أعلم